الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
في أن الإتيان بالمأمور به، هل يقتضي الإجزاء
قال الرازي: قبل الخوض في المسألة، لابد من تفسير الإجزاء؛ وقد ذكروا فيه تفسيرين:
أحدهما، وهو الأصح: أن المراد من كونه مجزيا هو أن الإتيان به كاف في سقوط الأمر.
وإنما يكون كافيا، إذا كان مستجمعاً لجميع الأمور المعتبرة فيه؛ من حيث وقع الأمر به.
وثانيهما: أن المراد من الإجزاء: سقوط القضاء؛ وهذا باطل؛ لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه، ثم مات، لم يكن مجزئا مع سقوط القضاء، ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد؛ على ما سيأتي.
ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول ما كان مجزئا، والعلة مغايرة للمعلول، إذا عرفت هذا، فنقول: فعل المأمور به يقتضي الإجزاء؛ خلافا لأبي هاشم وأتباعه.
لنا وجوه:
الأول: أنه أتى بما أمر به؛ فوجب أن يخرج عن العهدة.
إنما قلنا: إنه أتى بما أمر به؛ لأن المسألة مفروضة فيما إذا كان الأمر كذلك
وإنما قلنا: إنه يلزم أن يخرج عن العهدة؛ لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي: إما متناولا لذلك المأتي به، أو لغيره:
والأول باطل؛ لأن الحاصل لا يمكن تحصيله.
والثاني باطل؛ لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولا لغير ذلك الذي وقع مأتيا به، ولو كان كذلك، لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر، وقد فرضناه كذلك؛ هذا خلف.
الثاني: أنه لا يخلو: إما أنه يجب عليه فعله ثانيا وثالثا، أو ينقضي عن عهدته بما ينطلق عليه الإسم:
والأول باطل؛ لما بينا أن الأمر لا يفيد التكرار.
والثاني هو المطلوب؛ لأنه لا معنى للإجزاء إلا كونه كافيا في الخروج عن عهدة الأمر.
الثالث: أنه لو لم يقتض الإجزاء، لكان يجوز أن يقول السيد لعبده:" افعل، وإذا فعلت، لا يجزئ عنك " ولو قال ذلك، لعد متناقضا.
احتج المخالف بوجوه:
أحدها: أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده؛ فالأمر وجب ألا يدل على الإجزاء بمجرده.
وثانيها: أن كثيرا من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها، والمضي فيها، ولا تجزئه عن المأمور به؛ كالحجة الفاسدة، والصوم الذي جامع فيه.
وثالثها: أن الأمر بالشيء لا يفيد إلا كونه مأمورا به، فأما أن الإتيان يكون سببا لسقوط التكليف، فذلك لا يدل عليه مجرد الأمر.
والجواب عن الأول: أنا، إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد، لكن الفرق
بينه وبين الأمر أن نقول: النهي يدل على أنه منعه من فعله، وذلك لا ينافي أن نقول: إنك لو أتيت به، لجعله الله سببا لحكم آخر.
أما الأمر، فلا دلالة فيه إلا على اقتضاء المأمور به مرة واحدة، فإذا أتى به، فقد أتى بتمام المقتضى، فوجب ألا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضيا لشيء آخر.
وعن الثاني: أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها، وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول؛ لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به، لا على هذا الوجه الذي وقع؛ بل على وجه آخر، وذلك الوجه بعد لم يوجد.
وعن الثالث: أن الإتيان بتمام المأمور به يوجب ألا يبقى الأمر مقتضيا بعد ذلك، وذلك هو المراد بالإجزاء، والله أعلم.
المسألة الثالثة
الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء
تمهيد:
يقتضي الإجزاء قاله (المحصول) وغيره.
......................................................................
ومنهم من يقول: الأمر يدل على الإجزاء، قاله صاحب
(المستصفى)، وغيره.
ففي العبارة الأولى: أن الأمر اقتضى شغل الذمة بالمأمور، فكما أن الأمر سبب الشغل، الإتيان بالمأمور به سبب البراءة بعد الشغل.
ومعنى العبارة الثانية: أن الأمر دل على الشغل، ودل على أن الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء؛ لأن الإتيان سبب البراءة وهو مدلول الأمر، ومدلول المدلول مدلول، فالبراءة مدلول الإجزاء.
وعبارة الكتاب أكثر في كلامهم، وأقرب في التعبير؛ فإن جعل الأمر دالا إنما هو بواسطة - كما تقدم - وكون الإتيان سبب البراءة بغير واسطة، وإضافة الحكم لما هو بغير وسط أولي.
قوله: " إنما يكون الفعل كافيا في سقوط الأمر به إذا كان مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث وقع الأمر به ".
تقريره: أن المعتبر فيه قد يكون من حيث الأمر به كالطهارة، والستارة وغيرهما في الصلاة، وقد يكون معتبرا فيه من حيث إيجاده كالقدرة الربانية الخالقة للأفعال والإرادة، وغير ذلك من أشراط الجواهر في قيام الأعراض بها، فهذا أو ما شبهه لا مدخل له في الإجزاء بخلاف القسم الأول.
قوله: " لو أتى بالفعل مع اختلاف بعض شرائطه، ثم مات لم يكن مجزئا مع سقوط القضاء ".
قلنا: إنه مات قبل خروج الوقت، والقضاء إنما يجب إذا خرج الوقت، فقد وجد عدم القضاء ولم يوجد الإجزاء، فلو كان شيئا واحدا لما وجد أحدهما بدون الآخر؛ لأن الشيء لا يوجد بدون نفسه، وقد تقدمت هذه الوجوه الثلاثة أول الكتاب، وتقريرها والأسئلة عليها، فلا يطول بإعادتها.
قوله: " يقتضي الإجزاء خلافا لأبي هاشم ".
تقريره: أن أبا هاشم يقول: الإنسان ولد بريئا من جميع الحقوق، وورود الأمر اقتضى شغل الذمة بفعل مرة في زمن فرد، أو بعدد من الأفعال في زمن الأزمان، ويبقى العدم بعد الأفعال مستفادا من البراءة الأصلية كالأعدام الكائنة قبل التكليف، فالاتفاق واقع على حصول البراءة، وعدم التكليف بعد الفعل، لكن النزاع في المدرك.
فالجماعة يقولون: هو أمران: الإتيان بالمأمور به مع البراءة الأصلية، وقد زاد فيها الإتيان في هذه الصورة - أعني بعد الفعل - وانفردت البراءة ببراءة الذمة قبل التكليف.
وأبو هاشم يقول: المدرك قبل التكليف، وبعد فعل المكلف به، وهو البراءة فقط.
ونظير هذه المسألة: قول القاضي أبي بكر في مفهوم الشرط توافق على عدم المشروط عند عدم الشرط المعلق عليه.