الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
الوجوب إذا نسخ، بقي الجواز؛ خلافا للغزالي
قال الرازي: لنا أن المقتضي للجواز قائم، والمعارض الموجود لا يصلح مزيلا؛ فوجب بقاء الجواز.
إنما قلنا: إن المقتضي للجواز قائم؛ لأن الجواز جزء من الوجوب، والمقتضي للمركب مقتض لمفرداته.
وإنما قلنا: إن الجواز جزء من الوجوب؛ لأن الجواز عبارة عن رفع الحرج عن الفعل، والوجوب عبارة عن رفع الحرج عن الفعل، مع إثبات الحرج في الترك، ومعلوم أن المفهوم الأول - من المفهوم الثاني.
وإنما قلنا: إن المقتضي للمركب مقتض لمفرداته؛ لأنه ليس المركب إلا عين تلك المفردات؛ فالمقتضي للمركب مقتض لتلك المفردات.
فإن قلت: المقتضي للمركب مقتض لتلك المفردات حال اجتماعها؛ فلم قلت: إنه يكون مقتضيا لها حال انفرادها؟
قلت: تلك المفردات من حيث هي غير، ومن حيث إنها مفردة غير، وانا لا أدعي أنها من حيث هي مفردة - داخلة في المركب؛ وكيف يقال ذلك فيه، وقيد الانفراد يعاند قيد التركيب، وأحد المعاندين لا يكون داخلا في الآخر؟
ولكنني أدعي أنها من حيث هي داخلة في المركب؛ فيكون المقتضي للمركب مقتضيا لتلك المفردات من حيث أنها هي، لا من حيث إنها مفردة.
وإنما قلنا إن المعارض الموجود لا يصلح مزيلاً؛ لأن المعارض يقتضي زوال الوجوب، والوجوب ماهية مركبة، والماهية المركبة يكفي في زوالها زوال أحد
قيودها؛ فزوال الوجوب يكفي فيه إزالة الحرج عن الترك، ولا حاجة فيه إلى إزالة جواز الفعل؛ فثبت أن المقتضي للجواز قائم، والمعارض لا يصلح مزيلاً.
فإن قيل: الجواز الذي جعلته جزء ماهية الوجوب، هو الجواز بمعنى: رفع الحرج عن الفعل فقط، أو بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك معاً؟
الأول مسلم، والثاني ممنوع.
ولكن ذلك الأول لا يمكن بقاؤه بعد زوال الوجوب؛ لأن مسمى رفع الحرج عن الفعل لا يدخل في الوجود إلا مقيداً: إما بقيد إلحاق الحرج بالترك؛ كما في الوجوب، أو بقيد رفع الحرج عن الترك؛ كما في المندوب، ويستحيل أن يبقى بدون هذين القيدين.
وأما الثاني فممنوع؛ لأن الجواز، بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك، ينافي الوجوب، الذي لا تتحقق ماهيته إلا مع الحرج على الترك، والمنافي لا يكون جزءاً.
فثبت أن المقتضي للوجوب لا يكون مقتضياً للجواز بهذا المعنى.
والواجب: أن الجواز الذي هو جزء ماهية الوجوب هو الجواز بالمعنى الأول.
قوله: "إنه لا يتقرر إلا مع أحد القيدين":
قلنا: نسلم؛ لكن الناسخ للوجوب لما رفع الوجوب، رفع منع الحرج عن الترك؛ فقد حصل بهذا الدليل زوال الحرج عن الترك.
وقد بقي أيضاً القدر المشترك بين الوجوب والندب؛ وهو زوال الحرج عن الفعل؛ فيحصل من مجموع هذين القيدين زوال الحرج عن الفعل وعن الترك معاً، وذلك هو المندوب والمباح.
فظهر بما ذكرنا أن الأمر، إذا لم يبق معمولا به في الوجوب؛ بقى معمولا به في الجواز، والله أعلم.
المسألة الرابعة
الوجوب إذا نسخ بقي الجواز
قوله: "الجواز جزء الوجوب".
قلنا: أو لازم لما يتعين أن جزء الشيء قد يفسر بجزئه، كقولنا:"الإنسان هو الحيوان الناطق"، وبلازمه كقولنا:(هو الضاحك بالقوة)، فتفسير الوجوب بنفي الحرج لا يمنع أنه رسم لا حد.
قوله: "الجواز رفع الحرج عن الفعل".
قلنا: مقصود هذه المسألة أنه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز الذي هو حكم شرعي ليستدل بالدليل الشرعي الدال بالوجوب على أن حكم الله تعالى بعد نسخ الوجوب الجواز، ونفي الحرج أعم من الجواز الشرعي؛ لأن نفي الحرج ثابت قبل الشرع على أصولنا، وما هو ثابت قبل الشرع لا يكون حكماً شرعياً، وإذا كان نفي الحرج شرعياً أعم من الجواز لا يلزم من ثبوته الجواز الشرعي، فلا يفيد هذا البحث شيئاً، بل ينبغي للمستدل في هذه المسألة أن يقول: دل الدليل الموجب على جواز الإقدام، والدليل الناسخ على جواز الإحجام، ومجموع الجوازين هو المدعى في هذه المسألة، وهو ثابت بدليلين شرعيين، فيكون شرعياً، فهذا متجه، أما الجواز ونفي الحرج فلا يفيد.
(تنبيه)
وينبغي أن يعلم أن الجواز في هذه المسألة أعم من الإباحة الشرعية المفسرة باستواء الطرفين لاندراج الندب أيضاً فيها؛ فإن مجموع نفي الحرج عن الفعل والترك يصدق على القسمين، والكراهة لا تأتي؛ لأن مجرد مرجح الترك لم يوجد.
قوله في الجواب عن السؤال: "لا أدعي المفرد من حيث هو مفرد، بل من حيث هو داخل في المركب".
قلنا: هذا الجواب لا يدفع السؤال؛ لأن قول السائل: " لما قلت: إن اللفظ اقتضاء الأجزاء حالة الانفراد يصدق بظن تعين أحدهما أن اللفظ لا يدل عليها بطريق الانفراد، وهذا يندفع بجوابكم، ويصدق بطريق آخر، وهو أن اللفظ إذا دل على مركب من جزئين، ثم دل الدليل على عدم أحدهما لا يلزم أن ينفي الجزء الآخر؛ لأن المركب قد يكون أحد جزئه شرطا في الجزء الآخر، كما إذا صدق أن في المحل مجموع معنيين: أحدهما علم، والآخر قد يكون أحد جزئيه شرطاً في الجزء الآخر، ثم دل الدليل على عدم الحياة، فإنه يستحيل بقاء الجزء الآخر الذي هو العلم، وكذلك المركب من الجواهر والأعراض إذا دل الدليل على عدم الجواهر، فإنه يتعذر بقاء الأعراض، ونظائره كثيرة، فقد يدل لفظ على مركب من جزءين، ولا يدل على بقاء أحدهما بعد ذهاب الآخر، فعلى هذا الوجه لا يكون الجواب دافعاً للسؤال، وما تعين القسم الأول مراداً للسائل.
قوله: "والماهية المركبة يكفي في زوالها زوال أحد قيودها ".
قلنا: مسلم فلم قلتم: إن ذلك الجزء المرتفع هو تحتم الفعل؟ ولم لا يجوز أن يكون هو جواز الفعل؟
وتقريره: أن الماهية المركبة إذا صدق نفيها يكفي في ذلك أي جزء كان من أجزائها، وليس لأحد أن يعين لنفي العشرة جزءا معينا، بل كل جزء يصلح لعدم الماهية المركبة، فلم جزمتم - هاهنا - بتعين هذا الجزء للانتفاء؟