الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
قال الرازي: ذهب اصحابنا إلى أن المأمور: إنما يصير مأمورا حال زمان الفعل، وقبل ذلك، فلا أمر
؛ بل هو إعلام له؛ بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورا به، وقالت المعتزلة: إنه إنما يكون مامورا بالفعل قبل وقوع الفعل.
لنا: أنه لو امتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل، لامتنع كونه مأمورا مطلقا؛ لان في الزمان الأول، لو أمر بالفعل، لكان الفعل: إما أن يكون ممكنا في ذلك الزمان، أو لا يكون:
فإن كان ممكنا، فقد صار مأمورا بالفعل حال إمكان وقوعه.
وإن لم يكن ممكنا، كان مأمورا بما لا قدرة له عليه؛ وذلك عند الخصم محال.
فإن قلت: إه في الزمان الأول مأمور لا بأن يوقع الفعل في عين ذلك الزمان؛ بل بأن يوقعه في الزمان الثاني كنه:
قلت: قولك: " إنه في الزمان الأول مأمور بأن يوقع الفعل في الزمان الثاني "
إن عنيت به؛ أن كونه موقعا للفعل لا يحصل إلا في الزمان الثاني، ففي الزمان الأول: لم يكن موقعا ألبتة لشيء، وليس هناك إلا نفس القدرة؛ فيمتنع أن يكون في ذلك الزمان مأمورا بشيء.
وإن عنيت به؛ أن كونه موقعا - يحصل في الزمان الأول، والفعل يوجد في الزمان الثاني، فنقول:
كونه موقعا: إما أن يكون نفس القدرة، أو أمرا زائدا عليها: فإن كان نفس
القدرة، لم يكن لكونه موقعا للفعل معنى إلا محض كونه قادرا؛ فيعود القسم الأول.
وإن كان أمرا زائدا عليها، فحينئذ تكون القدرة مؤثرة في وقوع ذلك الزائد في الزمان الأول، والأمر إنما توجه عليه في الزمان الأول؛ بإيقاع ذلك الزائد، وذلك الزائد واقع في الزمان الأول؛ فالآمر لا يكون آمرا بالشيء إلا حال وقوعه لا قبله.
احتج الخصم بأن المأمور بالشيء يجب أن يكون قادرا عليه، ولا قدرة على الفعل حال وجود الفعل؛ وإلا لكان ذلك تحصيلا للحاصل؛ وهو محال.
فعلمنا أن القدرة على الفعل متقدمة على الفعل، والأمر لا يتناول إلا القادر، والرجل لا يصير مأمورا بالفعل إلا قبل وقوعه.
والجواب: القدرة مع الداعي مؤثرة في وجود الفعل، ومستلزمة له، ولا امتناع في كون المؤثر مقارنا للأثر، كما في سائر المؤثرات الموجبة، والله أعلم.
المسألة الخامسة
إنما يصير المأمور مأمورا في حالة زمان الفعل
قوله: " وقبل ذلك فلا أمر، بل هو إعلام بأنه يصير في الزمان الثاني مأمورا ".
تقريره: أن هذه المسألة في غاية الإشكال والغموض، وعبارة الكتاب فيها غير مفصحة عن مقصودها.
فأقول: اللغة إنما وضعت لطلب الممكن، وإن قلنا بجواز تكليف مالا يطاق، فذلك بالنسبة إلى أحكام الربوبية لا بالنسبة إلى أحكام اللغة، وإذا كان الأمر إنما وضع لطلب التمكين، والفعل إنما يكون ممكنا في زمان ليس في عدمه، وإلا لاجتمع النقيضان.
فحينئذ ما طلب الفعل إلا في زمان الملابسة لا قبله ولا بعده؛ ولأن القدرة عندنا عرض، والعرض لا يبقى زمانين، والقدرة إنما توجد عندنا زمان الملابسة، دائما يكون الفعل ممكنا حالة الملابسة، وقبله مستحيل عادة، فلا يؤمر غلا حالة الملابسة؛ ولأن المأمور به لا بد أن يكون محدثا، والفعل المحدث مسبوق بعدم لا أول له، وملحوق بعدم لا آخر له، والطلب لا يتعلق بالعدم السابق ولا بالعدم اللاحق؛ لأن الأمر ترجيح الفعل الذي هو طرف الوجوب، فيتعين زمان الحدوث، وقد أمر المكلف أن يحصل الفعل في الزمان الذي يلي زمان ورود الصيغة، وإن قلنا: إن الأمر للفور، فإن لم يفعل أمر بتحصيله في الزمن الذي يليه، وأثم بسبب التأثير، وهلم جرا في الأزمان المستقبلة إلى حين الموت، فيكون التكليف واقعا في أول أزمنة الوجود كما تأخر ذلك الزمان تأخر التكليف معه، ولا يثبت قبله، وإن كان ثابتا قبل تحقيق التأخير، فيصدق أنه مكلف قبل زمان الملابسة لأجل التأخير، وليس مكلفا بما قبل زمان الملابسة باعتبار متعلق الأمر أولا، ولا تناقض بينهما، وهذا هو مقصود المسألة وهو المدعي فيها.
وقالت المعتزلة: لا يتعلق الأمر بالفعل زمن الملابسة؛ لأنه أول أزمنة الوجود، وأول أزمنة الوجود الفعل فيه موجود، فلو تعلق الأمر به حينئذ لكان طلب إيجاد الموجود، وهو محال، فيتعين أن يتعلق بالفعل قبل زمن الملابسة، وهو زمن العدم.
ونحن نجيب عن تحصيل الحاصل: بأن من شرط تحصيل الحاصل تعدد.
الزمان بأن يكون الشيء موجودا في زمان وبعد تحققه يطلب في الزمان الثاني وجوده في غير الزمان الأول، فهذا هو تحصيل الحاصل، بل التأثير والقدرة إنما يتعلق بالآثار في زمن الحدوث، فلو كان ذلك تحصيل الحاصل، ويلزم المعتزلة اجتماع النقيضين؛ فإن الأمر إذا تعلق بالفعل في زمان العدم، فيلزم إيجاد الفعل في زمان عدمه، فيجتمع الوجود والعدم وهما النقيضان.
فعلى مذهبنا ينقطع تعلق الأمر بانقضاء زمن الحدوث، وعلى مذهب المعتزلة ينقطع قبل ذلك بأول أزمنة الحدوث، فعلى هذا في الزمن السابق على زمن الحدوث قولان في تعلق الأمر:
نحن ننفيه، والمعتزلة يثبتونه.
وفي زمن الحدوث قولان في التعلق:
نحن نثبته، والمعتزلة ينفونه.
فهذا تلخيص المسألة.
فإن قلت: إذا قلتم: إن الأمر إنما يتعلق بالفعل زمن الحدوث، والمكلف إنما يصير مأمورا حينئذ.
فقبل ذلك لا يكون مأمورا، فكل من لم يتصف بمباشرة الفعل لا يكون عاصيا؛ لأن زمن الملابسة لم يوجد الذي هو موجب تعلق الأمر وصيرورته مأمورا، وإبطال المعصية عن العصاة خلاف الضرورة والإجماع.
قلت: ليس حصول زمن الملابسة شرطا في تعلق الأمر، بل الأمر متعلق من الأزل فضلا عما قبل زمن الحدوث، وإنما البحث هاهنا عن صفة ذلك التعلق المتقدم لا تعلق في الأزل كيف تعلق؟ وهل تعلق بالفعل زمن الملابسة أو قبله؟ فالتعلق سابق، والطلب محقق، والمكلف مأمور بأن يعمر زمانا بوجود الفعل بدلا عن عدمه وهو زمن الملابسة، إذا لم يفعل ذلك في
الزمان الأول أمر بذلك في الزمن الثاني، كذلك إلى آخر العمر إذا كان الأمر موسعا، وإن كان على الفور فهو مأمور بأن يجعل الزمن الذي يلي الأزمان حدوث الفعل، فإن لم يفعل ذلك فهو عاص.
فزمن الملابسة ذكره لبيان صفة التعلق لا لأنه شرط في التعلق، وإنما يلزم نفي العصيان أن لو كان شرط التعليق.
وقوله: " المتقدم قبل ذلك إعلام لا أمر ".
معناه: أنه إعلام بأنه مأمور زمن الملابسة، ونعني بالإعلام الإعلام الذي يصحب الأمر على سبيل اللزوم، كما يقول: كل من أمر شخصا فقد لزم أمره خبر لزومي أنه يعاقبه إذا لم يفعل، فكل أمر أو خبر لزومي لا يدخله التصديق والتكذيب، وكذلك النهي والإباحة يلزم كل واحد خبر في الأزل بالعقاب على تقدير الترك، وفي الإباحة با، هـ لا حرج عليه في النقيضين.
أما الأعلام الصرف فليس هو مراده، وبذلك تأكدت من أن العبارة غير مفصحة عن حقيقة المسألة.
ونظيرها من حيث التمثيل انك إذا قلت لعبدك: أسرج الدابة عند الزوال صدق عليك الآن أنك أمرته، وأن العبد مأمور، وأن الطلب إنما تعلق بفعل عند الزوال لا قبله، والكائن قبل ذلك إعلام بأنه يصير مأمورا إذا جاء الزوال، وهو من أهل التكليف، فزمن الزوال زمن الملابسة، وما قبل الزوال هو مماثل لما قبله من أزمنة العدم، فتأمل هذه التقريرات فهي غامضة، وإذا فهمتها ظهر لك الفرق بين هذه المسألة، وبين قولنا: المكلف مأمور في الأزل وهو معدوم قبل وجوده، وقبل وجود الفعل، وبين قولنا: لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع؛ فإن هذه المسائل متناقضة الظاهر، وقد تقدم الجواب عنها في أن المعدوم مأمور، ولا حكم للأشياء قبل ورود الشرع، وبهذه المباحث يظهر لك ذلك من جهة أن البحث في هذه المسألة في زمن التعلق.
وصفته، وفي المعدوم مخاطب، أي الأمر في الأزل متعلق لطلب الفعل من المكلف غذا وجد زمن حدوث الفعل، ولا حكم للأشياء قبل ورود الشرع، أي لم يتعلق الخطاب بالناس قبل البعثة، بل هو إنما كان قائما في الأزل، فإنما تعلق بهم إذا بعثت الرسل بعد البعثة.
فاجتمعت المسائل، وما أعلم في مسائل أصول الفقه أصعب من هذه المسألة، ولا أصعب من تقريرها للمتعلمين.
وقد صرح سيف الدين بخلاف عبارة المصنف فقال: اتفق الناس على جواز التكليف قبل حدوثه، سوى شذوذ من أصحابنا، وعلى امتناعه بعد حدوث الفعل.
واختلفوا في جواز تعلقه في أول زمان حدوثه:
فأثبته أصحابنا، ونفاه المعتزلة.
فنقل الخلاف في التعلق لا في كونه أمرا متقدما، ولم يذكر الإعلام أصلا.
وقال المازري في (شرح البرهان): إن [مذهبنا] تعلق الأمر بالفعل قبل وجوده وحال وجوده تعلقا متساويا، ثم اختلف أصحابنا:
فمنهم من قال: " هما سواء والأمر متعلق فيهما بالفعل تعلق إلزام. ومنهم من قال ": أما حال الوجود متعلق إلزام، وقبل الوقوع تعلق إعلام، وخلافنا على الأول.
وإمام الحرمين والغزالي خالفا أصحابنا، والتزما مذهب المعتولة، ورأيا أن الفعل قبل الإيقاع لا يتعلق الأمر به وإن اختلفت طرقهما.
فإمام الحرمين يقول: بالقدرة حصل الفعل، وانقطاعها حالة وجود الفعل، وما ليس بمقدور لا يؤمر به.
والغزالي يسلم مقارنة القدرة، وقال: الفعل حال وقوعه غير مأمور به؛ لأنه حاصل والحاصل لا يطلب.
ورأى أبو المعالي: أن القدرة هي التمكن من الفعل، وحالة الوجود تنافي التمكن من الفعل والترك، فتعين الوقوع.
وقوله: " لو لم يكن مأمورا حالة الفعل لا متنع كونه مأمورا مطلقا؛ لأن قبل الفعل إما أن يكون الفعل ممكنا " يعني فيفرض وقوعه؛ لأن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال، وحينئذ يكون مأمورا حالة الملابسة، وإن لم يكن ممكنا امتنع تعلق الأمر به؛ لأن المعتزلة تمنع وتحيل تعلق الطلب بغير الممكن المقدور للعبد.
فهذا التقسيم اقتضى أن الواقع أحد الأمرين، إما التعلق حالة الملابسة أو عدم التعلق، فصدقت الملازمة أنه لو امتنع التعلق حالة الملابسة لامتنع التعلق مطلقا.
وقوله: القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل، ولا مانع من كون المؤثر مقارنا لأثره، كما سيأتي في المؤثرات.
تقريره: أن القدرة هي الصفة المؤثرة في حق الله تعالى، وفي حق العبد هي الصفة الكاسبة، وكل مؤثر يجب أن يكون مقارنا لأثره باعتبار الزمان، ومعدما بالذات، كما إذا حرك زيد أصبعه، تحرك خاتمه، وتحرك أصبعه، وحركة الأصبع هي السبب، وهي مع حركة الخاتم واقعان في زمان واحد،