الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
في شبه منكري العموم
احتجوا بأمور:
أولها: العلم بكون هذه الصيغ موضوعة للعموم: إما أن يكون ضروريا؛ وهو باطل، وإلا وجب اشتراك العقلاء فيه.
أو نظريا؛ وحينئذ لابد فيه من دليل، وذلك الدليل: إما أن يكون عقليا؛ وهو محال؛ لأنه لا مجال للعقل في اللغات.
أو نقليا، وهو إما أن يكون متواترا، أو آحادا؛ والمتواتر باطل، وإلا لعرفه الكل، والآحاد باطل؛ لأنه لا يفيد إلا الظن؛ والمسألة علمية.
وثانيها: أن هذه الألفاظ مستعملة في الاستغراق تارة، وفي الخصوص أخرى، وذلك يدل على الاشتراك:
بيان المقدمة الأولى: أن القائل إذا قال: " من دخل داري، أهنته، أو أكرمته " فإنه قلما يريد به العموم، وإذا قال:" لقيت العلماء، وقصدت الشرفاء " فقد يريد به العموم تارة، والخصوص أخرى.
بيان المقدمة الثانية من وجهين:
الأول: أن الظاهر من استعمال اللفظ في شيء كونه حقيقة فيه، إلا أن يدلونا بدليل قاطع على أنهم باستعمالهم فيه متجوزون؛ لأنا لو لم نجعل ذلك طريقاً
إلى كون اللفظ حقيقة في المسمى، لتعذر علينا أن نحكم بكون لفظ ما حقيقة في معنى ما؛ إذ لا طريق إلى كون اللفظ حقيقة سوى ذلك.
الثاني: هو أن هذه الألفاظ، لو لم تكن حقيقة في الاستغراق والخصوص، لكان مجازا في أحدهما، واللفظ لا يستعمل في المجاز إلا مع قرينة؛ وذلك خلاف الأصل.
وأيضا: فتلك القرينة: إما أن تعرف ضرورة، أو نظرا: والأول باطل، وإلا لامتنع وقوع الخلاف فيه.
والثاني أيضا باطل؛ لأنا لما نظرنا في أدلة المثبتين لهذه القرينة، لم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه.
وثالثها: أن هذه الألفاظ، لو كانت موضوعة للاستغراق، لما حسن أن يستفهم المتكلم به؛ لأن الاستفهام طلب الفهم، وطلب الفهم عند حصول المقتضى للفهم عبث؛ لكن من المعلوم أن من قال:" ضربت كل من في الدار " أنه يحسن أن يقال: " أضربتهم بالكلية؟ " وأن يقال: " أضربت أباك فيهم؟ ".
ورابعها: أنها لو كانت للاستغراق، لكان تأكيدها عبثا؛ لأنها تفيد عين الفائدة الحاصلة من المؤكد.
وخامسها: أنها لو كانت للاستغرق، لكان الاستثناء نقضا؛ وبيانه من وجهين:
الأول: أن المتكلم قد دل على الاستغراق بأول كلامه، ثم بالاستثناء رجع عن الدلالة على الكل إلى البعض؛ فكان نقضا، وجاريا مجرى ما يقال:" ضربت كل من في الدار، لم أضرب كل من في الدار ".
الثاني: أن لفظة العموم، لو كانت موضوعة للاستغراق، لجرت لفظة العموم مع الاستثناء مجرى تعديد الأشخاص، واستثناء الواحد منهم بعد ذلك في القبح؛ كما إذا قال:" ضربت عمرا، وضربت خالدا " ثم يقول: " إلا زيدا " فلما لم يكن كذلك، دل حسن الاستثناء على أن جنس هذه الصيغ ليست للاستغراق.
وسادسها: أن صيغة " من، وما، وأي " في المجازة، يصح إدخال لفظ (الكل) عليها تارة، و (البعض) أخرى؛ فتقول:" كل من دخل داري، فأكرمه، بعض من دخل داري، فأكرمه " ولو دلت تلك الصيغة على الاستغراق لكان الكل عليها تكريرا.
وسابعها: لو كانت لفظة " من " للاستغراق، لامتنع جمعها؛ لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده الواحد، ومعلوم أنه ليس بعد الاستغراق كثرة، فيفيدها الجمع، لكن يصح جمعها؛ لقول الشاعر (الوافر):
" أنوا ناري، فقلت: منون أنتم؟
…
فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما "
والجواب عن الأول: لا نسلم أنه غير معلوم بالضرورة؛ فإنا بعد استقراء اللغات نعلم بالضرورة أن صيغ " كل، وجميع، ومن، وما، وأي " في الاستفهام والجزاء للعموم.
سلمناه، فلم لا يجوز أن يعرف بالعقل؟
قوله: " لا مجال للعقل في اللغات ".
قلنا: ابتداء، أم بواسطة الاستعانة بمقدمات نقلية؟
الأول مسلم؛ والثاني ممنوع؛ فلم قلت: إنه لم توجد مقدمات نقلية يستنتج العقل منها ثبوت الحكم في هذه المسألة؟
سلمناه؛ فلم لا يجوز أن يعرف ذلك بالآحاد؟
قوله: " المسألة قطعية ".
قلنا: لا نسلم؛ كيف وقد بينا أن القطع لا يوجد في اللغات إلا نادرا؟
والجواب عن الثاني: لا نزاع في أن هذه الألفاظ قد تستعمل في الخصوص؛ ولكنك إن ادعيت أنه لايوجد الاستعمال إلا حيث لا حقيقة؛ فحينئذ تعذر الاستدلال بالاستعمال على كونه حقيقة، فإن قلت: أستدل بالاستعمال مع أن المجاز خلاف الأصل على كونه حقيقة فيه.
قلت: قولك " المجاز خلاف الأصل " لا يفيد غلا الظن، وعندك المسألة قطعية يقينية.
وأيضا: فكما أن المجاز خلاف الأصل، فكذلك الاشتراك، وقد تقدم في كتاب اللغات: أنه إذا وقع التعارض بينهما، كان دفع الاشتراك أولى.
وأما قوله أولا: " لو لم يجعل هذا طريقا غلى كون اللفظ حقيقة، لم يبق لنا إليه طريق أصلا ".
قلنا: قد بينا فساد هذا الطريق، فإن لم يكن هاهنا طريق آخر إلى الفرق بين الحقيقة والمجاز، وجب أن يقال: إنه لا طريق إلى ذلك الفرق؛ لأن ما ظهر فساده، لا يصير صحيحا؛ لأجل فساد غيره.
قوله ثانيا:" ذلك الطريق: إما أن يعرف بالضرورة، أو بالدليل؛ والضرورة باطلة؛ لوقوع الخلاف؛ والدليل باطل؛ لانا لم نجد في أدلة المخالفين ما يدل عليه.
قلنا: الضرورى لا ينكره الجمع العظيم من العقلاء، وقد ينكره النفر اليسير، ولا نسلم أن الجمع العظيم من أهل اللغة نازعوا في أن لفظ (الكل) و (أي) للعموم.
سلمنا ذلك؛ لكن لا نسلم أنه لم يوجد ما يدل على كونها مجازا في الخصوص.
قوله: " نظرنا في أدلة المخالفين، فلم نجد فيها ما يدل على ذلك ".
قلنا: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، واعلم أن الشريف المرتضى عول على هذه الطريقة، ومن تأمل كلامه فيها علم أنه في أكثر الأمر يدور على المطالبة بالدلالة على كون هذه الصيغة مجازا في الخصوص، مع أنه شرع فيها شروع المستدل على كونها حقيقة في الاستغراق والخصوص.
والجواب عن الثالث: لا نسلم أن حسن الاستفهام لا يكون إلا عند الاشتراك؛ فما الدليل عليه؟ ثم الدليل على أنه قد يكون لغيره وجهان:
الأول: أنه لو كان حسن الاستفهام؛ لأجل الاشتراك، لوجب ألا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة؛ على ما قررناه في الفصل الأول.
الثاني: أن الاستفهام قد يجاب عنه بذكر ما عنه وقع الاستفهام؛ كما لو قال القائل: " ضربت القاضي " فيقال له: " أضربت القاضي؟ " فيقول: " نعم، ضربت القاضي " ولا شك في حسن هذا الاستفهام في العرف.
فثبت بهذين الوجهين أن الاستفهام قد يحسن لا مع الاشتراك.
ثم نقول: الاستفهام: إما أن يقع ممن يجوز عليه السهو، أو ممن لا يجوز عليه ذلك: والأول قد يحسن؛ لوجوه أربعة أخرى غير الذي ذكروه: أحدهما: أن السامع ربما ظن أن المتكلم غير متحفظ في كلامه، أو هو كالساهي؛ فيستفهمه ويستبينه؛ حتى إن كان ساهيا، زال سهوه، وأخبره عنتيقظ؛ ولذلك يحسن أن يجاب عن الاستفهام بعين ما وقع عنه الاستفهام.
وثانيها: أن يظن السامع؛ لأجل أمارة ان المتكلم قد أخبر بكلامه العام عن جماعة؛ على سبيل المجازفة، ويكون السامع شديد العناية بذلك؛ فتدعوه شدة عنايته إلى الاستفهام عن ذلك الشيء؛ لكي يعلم المتكلم اهتمام السامع به؛ فلا يجازف في الكلام.
ولهذا قد يقول القائل: " رأيت كل من في الدار " فإذا قيل له: " أرأيت زيدا فيهم؟ " فقال: " نعم " زالت التهمة؛ لأن اللفظ الخاص أقل إجمالا، وربما لم يتحقق رؤيته؛ فيدعوه ما رآه من اهتمام المستفهم إلى أن يقول:" لا أتحقق رؤيته ".
وثالثها: أن يستفهم؛ طلبا لقوة الظن.
ورابعها: أن توجد هناك قرينة تقتضي تخصيص ذلك العموم؛ مثل أن يقول: " ضربت كل من في الدار " وكان فيها الوزير، فغلب على ألظن أنه ما ضربه، فإذا حصل التعارض، استفهمه؛ ليقع الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص.
وأما إن وقع ممن لا يجوز عليه السهو، فذاك؛ لأن دلالة الخاص أقوى من دلالة العام، فيطلب الخاص بعد العام؛ تحصيلا لتلك القوة.
والجواب عن الرابع من حيث المعارضة، وم حيث التحقيق:
أما المعارضة: فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: تأكيد الخصوص؛ كقولهم: " جاء زيد نفسه ".
وثانيها: تأكيد ألفاظ العدد؛ كقوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196]
وثالثها: أن التأكيد تقوية ما كان حاصلا، فلو كان الحاصل هو الاشتراك، لتأكد ذلك الاشتراك بهذا التأكيد.
فإن قلت: التأكيد يعين اللفظ لأحد مفهوميه، قلت: هذا لا يكون تأكيدا؛ بل بيانا.
وأما من حيث التحقيق: فهو: أن المتكلم: إما أن يجوز عليه السهو، أو لا يجوز: فإن جاز ذلك: كان حسن التأكيد؛ لوجوه:
أحدها: أن السامع، إذا سمع اللفظ بدون تأكيد، جوز مجازفة المتكلم، فإذا أكده، صار ذلك التجويز أبعد.
وثانيها: انه ربما حصل هناك ما يقتضى تخصيص العام، فإذا اقترن به التأكيد، كان احتمال الخصوص أبعد.
وثالثها: تقوية بعض ألفاظ العموم ببعض.
وأما إن لم يجز السهو على المتكلم: لم يكن للتأكيد فائدة إلا تقوية الظن.
والجواب عن الخامس: أنه منقوض بألفاظ العدد؛ فإنها صريحة في ذلك العدد المخصوص، ثم يتطرق الاستثناء إليها.
ثم الفرق بين ما ذكروه من الصورتين وبين مسألتنا: أن الاستثناء، إذا اتصل بالكلام، صار جزءا من الكلام؛ فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا؛ لأنه لا يستقل بنفسه في الإفادة؛ فيجب تعليقه بما يقدم عليه، فإذا علقناه به، صار جزءا من الكلام؛ فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا، وفائدته إرادة ما عدا المستثنى؛ بخلاف قوله:" ضربت كل من في الدار، لم أضرب كل من في الدار " لأن هاهنا كل واحد من الكلامين مستقل بنفسه؛ فلا حاجة إلى تعليقه بما تقدم عليه، وإذا لم يتعلق به، أفاد الأول ضرب جميع من في الدار، وأفاد الآخر نفي ذلك؛ فكان نقضا.
وأما الثاني: فنطالبهم بالجامع.
ثم الفارق أن الاستثناء إخراج جزء من كل؛ فغذا قال: " ضربت زيدا، وضربت عمرا إلا زيدا " انصرف قوله: " إلا زيدا " إلى زيد، لا إلى عمرو؛ لأن زيدا ليس بجزء منهم؛ فكان نقضا؛ بخلاف قوله:" رأيت الكل إلا زيدا " لأن زيدا جزء من الكل؛ فظهر الفرق.
والجواب عن السادس: أن حكم المفرد يجوز أن يخالف حكم المركب؛ فيجوز أن يكون شرط إفادة لفظة (من) للعموم انفرادها عن لفظ (البعض) معها؛ بل لم يكن شرط إفادتها للعموم حاصلا؛ فلا جرم لم يلزم النقض.
والجواب عن السابق: أن أهل اللغة اتفقوا على أن ذلك ليس جمعا؛ وإنما هو إشباع الحركة؛ لسبب آخر مذكور في كتب النحو.
(الفصل الخامس في شبه منكري العموم)
قال القرافي: قوله: " لو كان العلم بأن الصيغة للعموم ضروريا، لزم اشتراك العقلاء فيه ".
قلنا: الضرورة أقسام:
منها: من ينشأ عن الفطر الإنسانية عند استحكام النشء، وذهاب الطفولية؛ كاستحالة الجمع بين النقيضين والضدين، وكون الجسم الواحد في مكانين.
ومنها: ما ينشأ عن التواتر؛ كالعلم بـ (بغداد).
ومنها ما ينشأ عن القرائن الحالية، أو المقالية، كالعلم الضروري؛ بأن كل حيوان، إذا أكل، تحرك فكه الأسف إلا التمساح، وأن كل بغلة لا تلد، وأن الإنسان لا يعيش بغير تنفس، وهذه المسائل الأصولية من هذا الباب؛ فإن العلم الضروري فيها حاصل بعد استقراء اللغات، واشتراك العقلاء: إنما يلزم في القسم الأول دون الأخير، وفيما هو ضروري؛ فلا يلزم الشركة فيه، وفيما علم بالضرورة بدليل يطرأ أو لمس حسي؛ فإن من حصل له العلم بمقدار حساب من العدد بالطرق الحسابية، أو وضع يده في طاس ماء بارد أو حار قطع بذلك، ولا يشاركه فيه غيره، إلا أن يشاركه في سبب تلك الضرورة؛ فظهر أن ما ذكره من الملازمة غي لازم.
قوله: " الدليل: إما أن يكون عقليا أو نقليا ".
قلنا: القسمة غير منحصرة؛ لأن الدال قد يكون قرائن الأحوال الحالية، أو المقالية، أو الاستقراء، أو الحسن والعقل، أو بعض هذه مع بعض من القبيل الآخر، ومع ذلك؛ فهذا كله ترديد بين النوائب التي لايعلم الحصر فيها؛ فلا يكون حجة.
قوله: " لا مجال للعقل في اللغات ".
يريد على سبيل الاستقلال؛ فإن العقل لا يستقل إلا بثلاثة أشياء:
وجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات، وجواز الجائزات.
وما عدا ذلك، فلا بد مع العقل من غيره؛ من حس أو غيره، وما من
لغة، ولا شريعة، إلا وللعقل فيها مجال؛ لأنه لو فقد العقل، لم يحصل علم بشريعة، ولا لغة، ولا شيء من أمور الدنيا، ولا من أمور الآخرة؛ فظهر أن قوله:" لا مجال للعقل " يريد به: على وجه الاستقلال.
قوله: " والنقل: إما تواتر أو آحاد ".
قلنا: القسمة غير منحصرة؛ لأن التواتر هو إخبار جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، والآحاد هو ما أفاد ظنا أخبر به واحد أو عدد.
بقى قسم آخر؛ وهو إخبار الواحد، إذا احتفت به قرائن؛ حتى أفاد العلم، فليس بتواتر؛ لاشتراطنا العدد في التواتر، وليس آحادا؛ لإفادته العلم، فهو قسم ثالث.
قوله: " والتواتر باطل، وإلا يعرفه الكل ".
قلنا: هذه الملازمة غير صحيحة؛ لأن التواتر ليس من شرطه الشمول؛ فقد يتواتر سقوط المؤذن من منار الجامع عند أهل الجامع، وبقية أهل المدينة لا شعور لهم بذلك، وكم من قضية تتواتر في إقليم لا يعلم بها أهل الإقليم الآخر.
قوله: " لابد أن يثبتوا بدليل قاطع: أنهم ما استعملوا صيغ العموم في الخصوص حقيقة ".
قلنا: لا يحتاج إلى الدليل القاطع؛ فإن هذه المسائل، وغن كانت قطعية، فنحن نستدل فيها بالمقدمات الظنية، ويكون المجموع من استدلالنا والاستقراء التام يفيد اليقين بهذه المسائل؛ فلا تناقض بين كونها قطعية، ومحاولة المقدمات الظنية فيها ليس في الوسع، وضع ذلك الاستقراء التام المحصل للعلم في بطون الكتب، بل إنما نضع ما نثبته على أصل الاستقراء، والمدارك على الطالب، وعلى الطالب تكميل الاستقراء المفيد للعلم.
قوله: " لا طريق إلى كون اللفظ حقيقة في المعنى إلا استعماله فيه ".
قلنا: لا نسلم؛ بل كون أهل اللغة علم من عادتهم أنهم، إذا استعملوا اللفظ في المعنى، جردوه؛ فيكون حقيقة، وإذا استعملوه في معنى آخره، قرنوه بالقرائن؛ فكان مجازا، فهذا طريق الفرق بين الحقيقة والمجاز، وكذلك ما يتعذر سلبه هو حقيقة، وما يمكن سلبه يكون مجازا؛ فنقول عن الرجل الشجاع: إنه ليس بأسد، ولا نقول عن الحيوان المفترس: إنه يلس بأسد، وكذلك طرق كثيرة قد تقدمت في باب الحقيقة والمجاز.
قوله: " لو عرفنا القرينة بالضرورة، لما وقع الاختلاف ".
قلنا: قد بينا أن كثيرا من أقسام الضروريات لا يلزم وقوع الشركة فيها.
قوله: " نظرنا في أدلة المثبتين، فلم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه ".
قلنا: أحد الأمرين لازم، وهو: إما عدم اطلاعكم على أدلة المثبتين، أو عدم صدق هذه الدعوى، فإن أدلة المثبتين أفادت القطع للمطلع عليها، غايته أن الاستقراء في اللغات لم يحصل لكم، كما حصل لهم، ولو حصل لكم، لحصل القطع جزما.
قوله:" يجوز دخول لفظ الكل عليها، ولفظ البعض، والأول تكرير، والثاني نقض ".
تقريره: ان لفظ (كل) يفيد العموم، وصيغة العموم نحو (من) تفيد العموم، فيصير العموم مدلولا عليه مرتين، فيكون تكريرا، ولفظ البعض يقتضي أنه لم يرد جملة الأفراد، فيكون العموم قد وجد بدون معنى العموم، ووجود الدليل بدون المدلول نقض على الدليل، والأمران على خلاف الأصل.
قوله: " لو كانت صيغة (من) للاستغراق، لامتنع جمعها ".
تقريره: أن الصيغة، إذا كانت موضوعة للعموم، لم يبق فرد من تلك الأفراد غلا دخل في مسماها، وإذا دخلت جميع الأفراد، لم يبق لهذا المجموع مثل؛ فيتعذر تثنيته؛ فيعذر جمعه بطريق الأولى، فكل لفظ موضوع لكلية يتعذر فيه التثنية والجمع؛ من حيث هو كلية.
فإن قلت: فقد أجمع النحاة على صحة تثنية الجمع المعرف، وجمعه؛ كقوله عليه السلام:" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ".
فقد ثنى الغنم معروفا بالألف واللام، وهو مستغرق، وعام في جميع الغنم.
واتفق الأدباء على أن قولنا: " الأكاليب، والجمالات، والأكاريد " جمع الجمع؛ فالأكاليب: جمع أكلب الذي هو جمع الجمع، والأكاريد: جمع كرد الذي هو جمع كردي، والجميع معرف بالألف واللام، وهي تفيد العموم والكلية؛ فقد صح الجمع في الكليات.
قلت: هذا غلط بسبب الغفلة عن دخول الألف واللام، هل كان قبل الجمع أو بعده، ونحن نقول: إن لام التعريف، إنما دخلت بعد التثنية والجمع، وكان الجمع قد ثنى وجمع، وهو نكرة بغير تعريف، وهو في حالة التنكير، إنما يتناول ثلاثة أو اثنين؛ على الخلاف في اصل الجمع؛ فيبقى من تلك المادة أفراد كثيرة يتأتى بسببها التثنية والجمع، فيجمع، أو يثنى، ثم
تدخل لام التعريف بعد ذلك؛ فلا إشكال، والسائل ظن أن لام التعريف دخل فيه التثنية والجمع؛ فأورد السؤال.
قوله: " قال الشاعر [الوافر]:
أتوا ناري، فقلت: منون أنتم
…
فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما
قلت: أصل هذا أن رجلا من الأعراب كان بالبرية، أوقد النار لمقاصده، فأتاه الجن، فقال: من أنتم؟ فقالوا: الجن، قال لهم: عموا ظلاما، أي: انعم الله ظلامكم، كما نقول نحن: أنعم الله مساءكم، والمساء والظلام قريب من قريب، أي: وجدتم نعمة في هذا الدليل فهو دعاء بوجدان النعم، وبعد هذا البيت [الوافر]:
لقد فضلتم بالأكل فينا
…
ولكن ذاك يعقبكم سقاما
فقلت: إلى الطعام، فقال منهم
…
فريق نحسد الإنس الطعاما
ومعناهما: أن غالب الجن إنما يعيش بالروائح من الأغذية دون أجزائها، قاله الغزالي في (الإحياء) وغيره.
قالوا: وكذلك أغذيتهم من العظام، ونحن نجد أنفسنا في الدهور تقوم على العظام لا تنقص أجزاؤها، ولا تذهب عن مواضعها، ومن الناس من ينقل ذلك عن جميعهم، ومنهم من يقول: هم فرق.
قال ابن منبه فيما يروى عنه: إن منهم من يتغذى بأجرام الأغذية، وهم الليعون منهم، ومنهم من يتغذى بالروائح، وهم الروحانيون منهم، وهم مختلفو الخلق والأخلاق، والأطوار؛ ولذلك قال الله تعالى:{وأنا منا الصالحون، ومنا دون ذلك؛ كنا طرائق قددا} [الجن: 11] ".
فهؤلاء الجن الواردون على هذا الشاعر، كانوا لا يتغذون بأجرام الأغذية، بل بروائحها، ولا شك أن مباشرة الجرم أعظم في اللذة، وكذلك المريض العاجز والصائم، يشمان الأغذية، فيجدان بها قوه وراحة ولذة، ولكن لو قدروا على تناول الأجرام، لما اقتصروا على الروائح؛ فلذلك حسدوا هذا الحي على أجرام الأغذية.
وقوله:
...................... ولكن ذاك يعقبكم سقاما
معناه: ان الرطوبات والأخلاط والأمشاج والعفونات، وأكثر أسباب الأمراض، إنما تحدث عن أجرام الأغذية، وهو سبب السقام؛ ولذلك قلت حياة بني آدم، والواحد من الجن يعيش آلافا من السنين، ولا يموت إلا بعد أن يرى من ذريته خلائق كثيرة.
ففي حديث ابن مسعود ليلة الجن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوتا، فقال عليه السلام:(نغمة الجن) وإذا برجل قد أقبل، فقال له:" من أنت؟ " فقال له: أنا فلان بن فلان إبليس، فقال له عليه السلام:" أراك قريبا من الشيخ " يعني إبليس، فقال له الجن: غير أني أسلمت، واجتمعت بموسى عليه السلام وعلمني التوراة، واجتمعت بعيسى عليه السلام وعلمني الإنجيل، وقال لي: إذا اجتمعت بأخي محمد، فسلم لي عليه، فقال رسول صلى الله عليه وسلم:" وعليه السلام ورحمة الله وبركاته " ثم قال: وقد جئت إليك؛ لتعلمني شيئا من القرآن، فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن، وانصرف ".
فانظر هذه الأعمار الطويلة، وسيما قله أسباب الأسقام.
قوله: " لم لا يجوز أن يكون العقل بواسطة مقدمات نقلية يستنتج العقل منها الحكم في هذه المسألة ".
تقريره: كما تقدم في (أن) الأمر للوجوب، لم ينقل عن العرب ذلك نقلا؛ غير أنا وجدنا مقدمتين:
إحداهما: تارك المأمور به عاص، و [ثانيتهما]: العاصي يستحق العقالب؛ فتارك المأمور به يستحق العقاب، فاستفدنا أن الأمر للوجوب؛ بواسطة هاتين المقدمتين، وكذلك هاهنا.
نقول: صيغة العموم يدخلها الاستثناء، والاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراجه؛ فتكون هاتان المقدمتان نقليتين.
فنقول: ما من فرد، ولا نوع من أنواع صيغ العموم، إلا ويصح استثناؤه، عملا بإحدى المقدمتين، وكل ما يصح استثناؤه، وما استثنى تحت اندراجه؛ فيجب اندراجه كل فرد في حكم الصيغة، وهذا هو العموم، وقد استفدناه من المقدمتين النقليتين، م تصرف العقل.
قوله: " لا نسلم أن المسألة قطعية؛ لأنا قد بينا أن القطع لا يوجد في اللغات ".
قلنا: أما المسألة فقطعية، وقواعد الديانات كلها قطعية الكليات منها، دون تفاريعها، ومستند القطع استقراء اللغات، كما تقدم.
وأما ما ذكرتموه من أن اللغات لا تفيد القطع، فذلك إنما بنيتموه في اللغات؛ من حيث الوضع؛ من حيث هو وضع، ونحن نسلم ذلك؛ فإن اللفظة من حيث هي موضوعة لهذا المعنى، تحمل الاشتراك والإضمار وغيرهما.
أما هذه المسائل، فلم نستفد الدليل عليها، من حيث الوضع، بل من كمال الاستقراء المشتمل على قرائن الأحوال، والمقال؛ حتى وصل إلى حد القطع، وهذه أمور عظيمة خارجة عن الوضع، من حيث هو وضع، وكذلك يقطع بأن مراد الله تعالى من عيسى ابن مريم، ومن موسى، ومريم بنة عمران أن الأشخاص معينة لا لمجرد الوضع؛ بل للقرائن من
السياق وغيره، فلا تنافي بين كون اللغات من حيث الوضع، لا تفيد القطع، وبين كون هذه المسائل قطعية.
قوله: " وإن سلمت أن الاستعمال قد يوجد حيث لا يكون حقيقة، تعذر عليك الاستدلال بالاستعمال على أنه حقيقة ".
تقريره: أن الخصم ادعى أنه لا يجوز اعتقاد المجاز، إلا بدليل قاطع؛ كما تقدم في الأسئلة، قاله الإمام، فإذا لم يكتف بالأدلة الظنية في الحقيقة والمجاز، فلا يجزم بأنه حقيقة، غلا بدليل قاطع غير الاستعمال؛ لأنك جوزت أن يكون الاستعمال مجازا، ومع التجويز لا قطع، فلا يستدل بالاستعمال على الحقيقة.
قوله: " من تأمل طريق الشريف المرتضى، وجده في أكثر الأمر يطالب بالدليل على أن الصيغة مجاز في الخصوص، مع أنه شرع فيها شروع المستدل ".
تقريره: أنه قال: لو علم أنها للعموم، لكان: إما بالعقل، او بالنقل، يعني: بينوا طريقا غير هذين.
وقوله: " لم نجد في أدلة القائلين بالعموم ما يعول عليه ".
معناه: بينوا دليلا يعول عليه.
وقوله: " لابد من قرينة تدل على أن الصيغة مجاز في الخصوص، فبينوا لنا دليلا قاطع على ذلك، هذه الإشارات كلها يفهم منها المطالبة بالدليل على مذهبنا في هذه المسألة، والمستدل، إذا شرع يستدل على مسألة، لا يليق به مطالبة خصمه بإقامة الدليل؛ لأنه لا يلزم من عجز خصمه عن الدليل صحة دعواه هو؛ مع أنه ادعى أن دعواه صحيحة، والتزم بإقامة الدليل عليها؛ فيلزمه ذلك، نهض لخصمه دليل أم لا.
قوله: " الاستفهام: إما أن يقع ممن يجوز السهو عليه، او ممن لا يجوز السهو عليه ".
قلت: هذه العبارة وجدتها في عدة نسخ، ولم أجد غيرها، وهي غير متجهة، بل الصواب، أن يقول: الكلام المستفهم عنه: إما أن يقع ممن يجوز السهو عليه أم لا؛ فإن هذه الوجوه التي ذكرها في الكتاب مرتبة على جواز السهو على المتكلم دون السامع، والاستفهام: إنما يكون من السامع دون المتكلم، فتأمل ذلك.
قوله: " يكون السامع شديد العناية بذلك، فيستفهم؛ حتى يعلم المتكلم اهتمام السامع ".
تقريره: أنه إذا قال: " أكرمت كل من في الدار " ومن جملتهم زيد، والسامع شديد العناية بإكرامه، فيستفهم حتى يعلم أن له به عناية.
فقوله: " شديد العناية بذلك ": إشارة للخصوص، لا للعموم.
قوله: " دلالة الخاص أقوى من دلالة العام ".
تقريره: أن النص، غذا كثرت افراده، صار له باعتبار كل فرد احتمال تخصيص، فغذا كان أقل افرادا، فيكون احتمال التخصيص فيه أقل، فتكون دلالته اقوى؛ لبعد المدلول عن عدم الإرادة؛ لبعد التخصيص عنه.
قوله: " وثانيها: تأكيد ألفاظ العدد؛ كقوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196]: عليه سؤالان:
أحدهما: أن اسماء العدد نصوص، لا تحتمل المجاز، وما لا يحتمل المجاز تعذر تأكيده؛ لأن التأكيد هو إبعاد المجاز عن اللفظ.
وثانيهما: سلمنا قبولها للتأكيد؛ لكن لا نسلم أن قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] تأكيد؛ لأن معناه (كاملة الأجر) لما يتخيل أن تأخير السبعة إلى غير الأيام التي فسدت فيها العبادة، أو وجد سبب الصوم فيها، أو عن المواضع المفضلة يوجب التنقيص فيها؛ فقال الله:{تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] أي: في الثواب، فلا تأكيد، بل هي لمعنى جديد.
قوله: " التأكيد يقويه ما كان حاصلا، فلو كان الاشتراك هو الحاصل، لقوى الاشتراك ".
قلنا: التأكيد يقويه ما كان حاصلا، من غير اعتقاد السامع في مراد المتكلم من اللفظ من المسميات، والاشتراك ليس من المسميات، ولا يخطر للسامع أن المتكلم أراده ألبتة؛ لانه لسنة عرضت وقت الوضع، وتحقق ذلك، وبقيت الإرادات تتعاقب على المسميات وعوارضها تقوي الاشتراك وهو كلام حائد عن سنن التأكيد، وموجب اللغة فيه.
قوله: " أسماء العدد صريحة، وقد تطرق الاستثناء إليها ".
قلنا: الاستثناء حيث وقع معارض لدلالة اللفظ المستثنى منه؛ لأنه يبطل بعض مقتضاه، ولا يلزم من تسليم قيام المعارض في صورة تسليم قيامه في صورة أخرى، فالخصم يقول: لا عموم في الصيغة، فلا معارضة بين صيغة العموم والاستثناء، وهو أرجح من مذهبكم المستلزم لحصول المعارضة بينهما.
قوله: " الفرق بين قولنا: " أكرمت كل من في الدار إلا زيدا " وبين " أكرمت زيدا أو عمرا إلا زيدا " أن زيدا في الأول: جزء، وفي الثاني: ليس جزءا ".
تقريره: أن الاستثناء لا يجوز أن يخرج كل ملفوظ، بل لا بد أن يبقى منه، فإذا قال:" أكرمت كل من في الدار إلا زيدا " خرج بعض مدلول (كل) وبقى بعضه.
وإذا قال: " اكرمت زيدا وعمرا " فهو قد نطق بلفظين: لفظ زيد، ولفظ عمرو، وقد أخرج جملة مدلول عمرو، ولم يترك منه شيئا، واستثناء جملة مدلول اللفظ لا يجوز، ويكون ذلك نقضا؛ لأن اللفظ الدال على إكرام عمرو وحده، ليس مدلوله حاصلا، وهو إكرام عمرو؛ لإبطال ذلك بلفظ إلا.
قوله: " شرط إرادة (من) للعموم عدم لفظ البعض، فإذا قال: " بعض من في الدار " لم يكن شرط إرادتها للعموم حاصلا؛ فلا يكون نقضا ".
قلنا: لو صح ما ذكرتموه، لما أمكن أن يكون في العالم شيء معارض لشيء في دلالته ألبتة؛ لأنه يمكننا أن نقول، كما قلتم: شرط إفادة الدليل لذلك عدم معارضة، فغذا وجد المعارض، انتفت دلالته، فليس بدليل في تلك الصورة، والأصل انتفاء الشرط؛ فلا معارضة حينئذ، ومعلوم أن هذا باطل قطعا، والمعارضة حاصلة في أمور لا تعد ولا تحصى؛ فدل ذلك على بطلان هذه النكتة.
قوله: " ذلك ليس جمعا، بل لإشباع الحركة ".
تقريره: أن العرب تقول لمن قال: " جاءني رجل ": منو، و " رأيت رجلا " منا، و " مرتت برجل ": منى؟ فيظهر إعراب كلامك فيما سأل به عن كلامك؛ ليشعرك أنه إنما استفهم عن كلامك، فإن المستفهم قد يكره سماع الكلام جمله؛ فيشتغل بالسؤال عن غيره؛ ليحرص في غير ما سمعه من المتكلم، كما يقول القائل: السلطان يقصد أن يتجسس الليلة، ويخرج في السوق، فتكره أنت أن يخوض في أمر الملوك؛ لئلا يصل إليك بسبب ذلك شر؛ فتقول مستفهما: كيف بيع الدقيق اليوم؟ فلما كان الاستفهام قد يرد لغير الكلام المسموع، أظهرت العرب إعراب كلامها؛ لتشعرك أنها لم
تخض في كلامك، فلما كانت تقول: منو في الفرد، قالت: منون في الجمع (فظهر) أن الكلمة حل فيها شذوذان:
أحدهما: أن العرب عادتها ألا تستعمل هذه الكلام في الوصل، والشاعر استعمله في الوصل.
الثاني: أن الشاعر أوقع بعدها المضمر.
قال الجزولي في كتابه: والمضمر لا يحكي اتفاقا.
قال التبريزي: يبعد تسليم أنه جمع لوجهين:
أحدهما: أنه يصلح للواحد فيجمع على نية إرادة الواحد.
ثانيهما: أنه جمع لنفس الكلمة وكما قال امرؤ القيس (الطويل):
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ......................
على ما اختاره المازري، وكأنه أراد أن يقول مفصلا من أنت، فجمعها: منون.
قلت: قوله: " على نية إرادة الوحدة " يؤيده ما نقلت قبل هذا عن ابن جني في (الخصائص) أنه سمع من العرب أكرم من منا، أي: رجلا رجلا، وهو شاذ.
وأما تثنية نفس اللفظ، قال الأدباء: أصله في لسان العرب: أن غالب اسفارهم ثلاثة، فيكون إبداء خطاب أحدهم لرفيقه بلفظ التثنية: افعلا، اصنعا، ولما كان ذلك يكثر في مخاطباتهم في الأشعار، غلب على ألسنتهم، وينطقون به في غير الشعر، فيقول الواحد للواحد: افعلا، وصار ذلك عربيا.
قال المفسرون: ورد ذلك في الكتاب العزيز في قوله تعالى: {ألقيا في جهنم} [سورة ق: 24] وعن الحجاج: يا خرشي، اضربا عنقه.
وقيل: الألف في معنى إعادة الجملة مرتين.
تقديره: قف قف، وألق ألق، واضرب اضرب؛ فعلى هذا يكون من باب التأكيد، لا من المنقول لأجل العادة.
(تنبيه)
زاد التبريزي؛ فقال في الجواب عن الأول: إن العلم الضروري حاصل بوضع الصيغة للعموم بعد استقراء اللغات، فأما إذا راجعنا أنفسنا، لا نجد
في الألفاظ المشهورة؛ كألفاظ العدد ونحوها، إسنادا متواترا، وما له وجود ضرورة لا يفسد بلفظة أخرى، بل يقال: هو مشهور.
وعلى تقدير التفسير: غايته ان يقرأ على شيخ أو غيره، ولا ينتهي إلى التواتر، ثم من لم يعان مسطورا، ولا يلقن درسا إلى أن يعاني ما يعاني لا شك أنه عالم بكثير من اللغات لضرورة معاشه، ولا طريق له إلى التفهم من مجازي الإطلاق، وبه يبطل حصرهم، وهذا يقتضي رفع الشك عن المسألة، ولكن كثرة الاستعمال في غير الموضع كذب يثني الوضع؛ فضعفت الثقة به؛ فقال الأصوليون في مقام طلب القطع: هذا مجمل، أي: في الإرادة، فيجب التوقف فيه؛ لقرب احتمال إرادة غير الأصل؛ لانتفاء أصل الدلالة، فسطر ذلك مذهبا.
وإليه أشار الأشعري رئيس الواقفية في كتبه.
قلت: ومعنى قوله: " وإلى أن يعاني من يعاني " أي: العامي ما عانى من عانى، أي: ما صحب من اشتغل بالعلم وعاناه.
وقوله: " عن الأشعري " يقتضي أنه إنما توقف في الحمل دون الوضع، وأنه جازم بالوضع للعموم وغيره ينقل أن التوقف في الوضع، أو في الحمل؛ لأجل الاشتراك لا في الحمل؛ لأجل غلبة المجاز؛ كما قال.
***
المسألة الخامسة
قال الرازي: لا خلاف في ان الجمع المعرف بلام الجنس ينصرف إلى المعهود، لو كان هناك معهود، أما إذا لم يكن، فهو للاستغراق؛ خلافنا للواقفية وأبي هاشم.
لنا وجوه:
الأول: أن الأنصار، لما طلبوا الإمامة، احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:" الأئمة من قريش " والأنصار سلموا تلك الحجة، ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق، لما صحت تلك الدلالة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم:" الأئة من قريش " لو كان معناه " بعض الأئمة من قريش " لوجب ألا ينافي وجود إمام من قوم آخرين، أما كون كل الأئمة من قريش، فينافي كون بعض الأئمة من غيرهم.
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه لما هم بقتال مانعي الزكاة " أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس؛ حتى يقولوا: لا إله إلا الله " احتج عليهم بعموم اللفظ، ثم لم يقل أبو بكر، ولا أ؛ د من الصحابة رضي الله عنهم: إن اللفظ لا يفيده " بل عدل إلى الاستثناء؛ فقال: أليس أنه عليه السلام قال: " إلا بحقها؟ وإن الزكاة من حقها ".
الثاني: أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق؛ فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق.
أما أنه يؤكد؛ فقوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [الحجر: 30]
وأما أنه بعد التأكيد، يقتضي الاستغراق؛ فبالإجماع.
وأما أنه، متى كان كذلك، وجب أن يكون المؤكد في أصله للاستغراق؛ فلأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد؛ إجماعا، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل، فلو لم يكن الاستغراق حاصلا في الأصل، وإنما حصل بهذه الألفاظ؛ ابتداء، لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية هذا الحكم الأصلي؛ بل في إعطاء حكم جديد؛ فكانت مبينة للمجمل، لا مؤكدة.
وحيث أجمعوا على أنها مؤكدة، علمنا أن اقتضاء الاستغراق كان حاصلا في الأصل.
فإن قيل: هذا الاستدلال على خلاف النص؛ لأن سيبويه نص على أن جمع السلامة للقلة، وما يكون للقلة لا يكون للاستغراق.
ثم ينتقض بجمع القلة؛ فإنه يجوز تأكيده بهذه المؤكدات، وأيضا: فعند الكوفين: يجوز تأكيد النكرات؛ كقوله (الرجز):
" قد صرت البكرة يوما أجمعا "
والنكرة لا تفيد الاستغراق.
والجواب: أنه لابد من التوفيق بين نص سيبويه، وبين ما ذكرناه من الدليل، فنصرف قول سيبويه، إلى جمع السلامة، إذا كان منكرا، وما ذكرنا من الدليل، إلى المعرف، ونمنع جواز تأكيد جمع القلة، وكذا تأكيد النكرات؛ على قول البصريين.
الثالث: الألف واللام، إذا دخلا في الاسم، صار معرفة؛ كذا نقل عن أهل اللغة، فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة، وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل؛ لأنه علوم للمخاطب، فأما الصرف إلى ما دونه، فإنه لا يفيد المعرفة؛ لأن بعض الجموع ليس أولى من بعض؛ فكان مجهولا.
فإن قلت: إذا أفاد جمعا من هذا الجنس، فقد أفاد تعريف ذلك الجنس:
قلت: هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام؛ لأنه لو قال: " رأيت رجالا " أفاد تعريف ذلك الجنس، وتمييزه عن غيره؛ فدل أن للألف واللام فائدة زائدة؛ وما هي إلا الاستغراق.
الرابع: أنه يصح استثناء أي واحد كان منه، وذلك يفيد العموم؛ على ما تقدم.
الخامس: الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة، فوق المنكر؛ لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف، ولا ينعكس؛ فإنه يجوز أن يقال:" رجال من الرجال " ولا يجوز أن يقال: " الرجال من رجال " ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع.
وإذا ثبت هذا، فنقول: المفهوم من الجمع المعرف: إما الكل، أو ما دونه: والثاني باطل؛ لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعة من الجمع المعرف، وقد عرفت أن المنتزع منه أكثر، ولما بطل ذلك، ثبت أنه للكل، والله أعلم.
احتجوا بأمور:
أولها: لو كانت هذه الصيغة للاستغراق، لكانت، إذا استعملت في العهد، لزم إما الاشتراك، وإما المجاز: وهما على خلاف الأصل؛ فوجب ألا يفيد الاستغراق ألبتة.
وثانيها: ولكان قولنا: " رأيت كل الناس، أو بعض الناس " خطأ؛ لأن الأول تكرير، والثاني نقض.
وثالثها: يقال: جمع الأمير الصاغة " مع أنه ما جمع الكل، والأصل في الكلام الحقيقة؛ فهذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق؛ فوجب ألا تكون حقيقة في الاستغراق؛ دفعا للاشتراك.
والجواب عن الأول: أن الألف واللام للتعريف؛ فينصرف إلى ما السامع به أعرف، فإن كان هناك عهد، فالسامع به أعرف؛ فانصرف إليه، وإن لم يكن هناك عهد، كان السامع أعرف بالكل من البعض؛ لأن الكل واحد، والبعض كثير مختلف، فانصرف إلى الكل.
وأيضا: لا يبعد أن يقال: إذا أريد به العهد، كان مجازا، إلا أنه لا يحمل عليه إلا بقرينة؛ وهي العهد بين المتخاطبين، وهذا أمارة المجاز.
وعن الثاني: أن دخول لفظتي (الكل) و (البعض) لا يكون تكريرا، ولا نقضا؛ بل يكون تأكدا، أو تخصيصا.
وعن الثالث: أن ذلك تخصيص بالعرف؛ كما في قوله: " من دخل داري، اكرمته " فإنه لا يتناول الملائكة، واللصوص، والله أعلم.
المسألة الخامسة
الجمع المعرف باللام
قال القرافي: قال الغزالي في (المستصفى): قال الجمهور: لا فرق بين " اضربوا الرجال، واضربوا رجالا، واقتلوا المشركين، واقتلوا مشركين " وإليه ذهب الجبائي.