الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثامنة
قال الرازي: المشهور من قول فقهائنا: أنه لو قال: " والله، لا آكل " فإنه يعم جميع المأكولات
، والعام يقبل التخصيص، فلو نوى مأكولا دون مأكول، صحت نيته؛ وهو قول أبي يوسف.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يقبل التخصيص، ونظر أبي حنيفة رحمه الله فيه دقيق:
وتقريره: أن نية التخصيص، لو صحت، لصحت: إما في الملفوظ، أو في غيره؛ والقسمان باطلان؛ فبلطت تلك النية.
وإنما قلنا: إنه لا يصح اعتبار نية التخصيص في الملفوظ؛ لأن الملفوظ هو الأكل، والأكل ماهيتة واحدة؛ لأنها قدر مشترك بين أكل هذا الطعام، وأكل ذلك الطعام، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، وغير مستلزم له؛ فالأكل من حيث أنه أكل مغاير لقيد كونه هذا الأكل، وذاك، وغير مستلزم له، والمذكور إنما هو الأكل من حيث هو أكل، وهو بهذا الاعتبار ماهية واحدة، والماهية من حيث إها هي لا تقبل العدد؛ فلا تقبل التخصيص، بل الماهية إذا اقترنت بها العوارض الخارجية، حتى صارت هذا أو ذاك، تعددت؛ فهناك صارت محتملة للتخصيص، ولكنها قبل تلك العوارض لا تكون متعددة؛ فلا تكون محتملة للتخصيص.
فالحاصل أن الملفوظ ليس إلا الماهية، وهي غير قابلة للتخصيص.
فأما إذا أخذت الماهية مع قيود زائدة عليها، تعددت؛ وحينئذ تصير محتملة
للتخصيص؛ لكن تلك الزوائد غير ملفوظة؛ فالمجموع الحاصل منها، ومن الماهية غير ملفوظ؛ فيكون القابل لنية التخصيص شيئا غير ملفوظ، وهذا هو القسم الثاني.
فنقول: هذا القسم، وإن كان جائزا عقلا، إلا أنا نبطله بالدليل الشرعي فنقول: إضافة ماهية الأكل إلى الخبز تارة، وإلى اللحم أخرى - إضافات تعرض لها؛ بحسب اختلاف المفعول به.
وغضافتها إلى هذا اليوم وذلك، وهذا الموضع وذاك إضافات عارضة لها بحسب اختلاف المفعول فيه.
ثم أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالمكان والزمان، لم يصح، فذلك التخصيص بالمفعول به، والجامع رعاية الاحتياط في تعظيم اليمين.
حجة أصحاب الشافعي رضي الله عنه: أجمعنا على أنه لو قال: " إن أكلت أكلا، أو غسلت غسلا " صحت نية التخصيص؛ فكذا غذا قال: " إن أكلت " لأن الفعل مشتق من المصدر والمصدر موجود فيه.
والجواب: أن المصدر هو: الماهية، وقد بينا أنها لا تحتمل التخصيص، وأما قوله:" أكلت أكلا " فهذا في الحقيقة ليس مصدرا؛ لأنه يفيد أكلا واحدا منكرا، والمصدر ماهية الأكل، وقيد كونه واحدا منكرا ليس وصفا قائما به؛ بل معناه أن القائل ما عينه، والذي يكون متعينا في نفسه، لكن القائل ما عينه؛ فلا شك أنه قابل للتعيين، فغذا نوى التعيين، فقد نوى ما يحتمله اللفظ، فهذا ما عندي في هذا الفصل.
المسألة الثامنة
قال القرافي: إذا قال: (لا آكل):
قلت: اختلفت عبارة العلماء في فهرسة هذه المسألة، فالغزالي في (المستصفى)، وسيف الدين وغيرهم يقولون: الفعل المتعدي، هل يعم بفاعله، ويقبل التخصيص أم لا؟
فعلى هذا لا يتناول هذه المسألة الأفعال القاصرة.
والقاضي عبد الوهاب المالكي في كتاب (الإفادة) وغيره يقولون: الفعل في سياق النفي، هل يقتضي العموم؛ كالنكرة في سياق النفي؛ لأن نفي الفعل نفي لمصدرة؟
فإذا قلنا: (لا يقوم) كأنا قلنا: (لا قيام).
ولو قلنا: (لا قيام) عم، وعلى هذا التفسير؛ تعم المسألة القاصر والمتعدى.
والإمام فخر الدين ادعى شيئا مشتملا على الأمرين؛ فإن (لا آكل) هو فعل في سياق النفي، وهو فعل متعد، والظاهر: أن مراده الفعل من المتعدى، كما في (المستصفى) لأنه أحد الأصول التي منها جمع كتابه، ودليله في المسألة إنما تعرض فيه للفعل، فدل ذلك على أنه المراد، والظاهر أنهما مسألتان، ذكر أحد الفريقين إحداهما، وترك الأخرى؛ وعلى هذا لا يكون اختلافا في التعبير عن المسألة.
وقوله تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيا} [طه: 74] من مسألة الفعل في سياق النفي.
قوله: " قبل أن تعرض لها العوارض لا تكون متعذرة " هو مثل قول
النحاة: المصادر لا تثنى، ولا تجمع إلا إن تجددت أو اختلفت أنواعها؛ كالحلوم والإسعال؟ ان ماهية المصدر من حيث هي تلك المادة لا واحدة، ولا كثيرة، فغذا تنوعت بالفصول التشخصات، صارت ذات عدد، فدخلت التثنية والجمع في ذلك العدد، وكذلك الأكل هاهنا غير أن هاهنا بحثا، وهو أنها، إن كانت غير قابلة للتخصيص؛ لعدم تعددها، فهي قابلة للتقييد؛ لأن التقييد عكس التخصيص؛ لأن التقييد زيادة على الحقيقة، وهو ثبات مع الوحدة في الماهية، والتخصيص نقصان، وذلك متعذر مع الوحدة دون التقييد.
وإذا قيد الحالف المحلوف عليه بنوع معين، لا يحنث بغيره، كما لو حلف؛ ليكرمن رجلا، ونوى اباه، لا يبرأ بإكرام غيره؛ لأجل أنه قيد الرجل في نيته بأبيه؛ كذلك في النفي، غذا حلف؛ لا يفعل ماهية الأكل، وقيدها في نيته بالطعام الحرام، ونحوه، لا يحنث بالطعام الحلال.
قوله: " اجمعنا على أنه، لو نوى التخصيص بالزمان والمكان، لم يصح ".
قلنا: لا نسلم؛ بل الشافعية، والمالكية متفقون على أنه إذا قال: " والله لا أكل، ونوى يوم السبت ونحوه، لا يحنث بغيره، وكذلك في المكان، والحكم المقيس عليه ممنوع، وسلمنا الحكم فيه، لكن الفرق أن المفعول به أقوى تعلقا، وأمس باللفظ من الطرفين الزماني والمكاني؛ بدليل أن النحاة أجمعوا على أنه، غذا وجد المفعول به، والظرف في باب ما لم يسم فاعله؛ أنه يتعين تقديم المفعول؛ لقوة شبهه بالفاعل؛ الا ترى أن من أكرم زيدا، أو أهانه، فصده حصول الإكرام لزيد دون الزمان الذي حصل فيه الإكرام، ودون المكان، ولا يكاد أحد يقصد خصوص الزمان والمكان إلا نادرا، ولا عبرة بالنادر؛ ولأن الظروف تتعدى إليها الأفعال المتعدية، وغير المتعدية،
وأما المفعول به، فلا يتعدى إليه إلا الفعل المتعدي، فهو مقتض بخصوص التعدي، دون عموم اللفظ، والاقتضاء الخاص يقدم على الاقتضاء العام؛ بدليل قول الفقهاء: إن الصلاة في الثوب الحرير تقدم على الصلاة في الثوب النجس؛ لاختصاصها بالصلاة، والمحرم يأكل الميتة ولا يأكل الصيد عند الضرورة والتعارض؛ لأن الإحرام يقتضي تحريم خصوص الصيد، والاقتضاء الخاص مقدم، ونظائره كثيرة، فهذه ثلاثة أجوبة.
قوله: " اتفقنا على التخصيص، إذا قال: لا أكلت أكلا ".
تقريره: أن النحاة اتفقوا على أن ذكر المصدر بعد الفعل، إنما هو للتأكيد، والتأكيد عبارة عما لم ينشأ سببا لم يكن في الاصل غير تقوية ما فهم من الأصل، فجميع الأحكام الثابتة بعد التأكيد هي الأحكام الثابتة قبله، غير التقوية ليس إلا؛ وحينئذ جواز التخصيص من جملة الأحكام، وهو ثابت بعد النطق بالمصدر؛ فيثبت قبله، وهو محل النزاع، وهذا تقرير في غاية الظهور والقوة.
قوله: (اكلا) ليس مصدرا " خلاف إجماع النحاة؛ فإنا نقول: اكل يأكل أكلا، وجميع أئمة العربية على إعرابة مصدرا.
قلنا: قيد كونه منكرا خارج عن الماهية.
قوله:" ليس في (أكلا) إلا الماهية؛ من حيث هي ماهية الأكل، وهي صادقة على التقليل والكثير من جنسها " وهذا هو حقيقة المصدر، وحقيقة النكرة؛ فإن النكرة كل اسم شائع في جنسه لا يخص واحدا منها دون الآخر، ولا شك أن أصل الماهية التنكير.
قال النحاة: ولذلك كان التعريف يمنع الصرف؛ لأنه فرع عن التنكير؛ فحينئذ ليس التنكير عارضا، بل هو أصل الحقيقة.
قوله: والذي يكون معينا في نفسه، لكن الإنسان ما عينه، فهو قابل للتعيين، فإذا نوى التعيين، نوى ما يحتمله الملفوظ.
قلنا: لا نسلم أن المصدر، إذا نطق به هكذا، يلزم أن يكون معينا عند المتكلم، بل يشير به إلى ماهية الأكل التي هي القدر المشترك بين جميع ماهيات الأكل، ولا يريد معينا، لاسيما كل ما في الحلف الذي لا يكون إلا في المستقبلات، والأفعال التي لم تقع بعد، والتعيين إنما يكون في الحال أو الماضي؛ فإنه لابد، وأن يكون معينا، أما المستقبل فلا يلزم ذلك فيه، وكذلك تكاليف الشرع كلها، إنما تعلقت بالماهيات الكليات المعينات؛ لكونها مستقبلة عند الطلب والتخيير، ففرق بين قول القائل: أكلت أكلا، وبين قوله: لا أكلت أكلا، فإن الأول بالضرورة وقع في مأكول معين، وزمان معين، وهيئة معينة؛ بخلاف الثاني مسلوب جميع ذلك؛ فظهر حينئذ أن التعيين في المصدر في صورة النزاع غير لازم.
قوله: " نوى ما يحتمله الملفوظ ".
قلنا: وكذلك قبل النطق بالمصدر نوى ما يحتمله الملفوظ؛ لأن الفعل يحتمل أن يريد به الحالف مفعولا معينا في نفسه، وهذا معلوم بالضرورة من أحوال الحالفين.
(تنبيه)
الذي رأيته من كلام الحنفية، وسمعته من فضلائهم في البحث في هذه المسألة: أن النية لا يجوز تأثيرها إلا في ملفوظ به لا في لازم ملفوظ، ولا في عارضه.
قالوا: فإذا قال: " لأكرمن رجلا " ونوى اباه، صح؛ لأن ماهية الرجل ملفوظ بها؛ فقبلت تأثير النية بالتقييد والتخصيص، وأما المأكولات من لفظ الأكل، إنما هي مدلولة بالالتزام، فلا تؤثر النية فيها شيئا، ويكون وجود
النية كعدمها، واتفقنا على أنه، لو لم ينو، حنث بأي مأكول كان، فكذلك النية التي هي غير معتبرة، وبقى البحث معهم في تقرير هذه القاعدة، فلم قالوا:" إنها لا في الملفوظ " مع أنهم نقضوا ذلك بما إذا صرح بالمصدر، وتأثيرها حينئذ إنما هو في غير الملفوظ، هذا بحكم مبهم، وظواهر النصوص يرد عليهم مثل قوله عليه السلام:" وإما لكل امرئ ما نوى " وهو حديث عام، لم يخصه صاحب الشرع بالملفوظ، ولا بغيره؛ لقوله:" الأعمال بالنيات " الشامل لكل عمل لا سيما، وسؤال التقييد ما أجابوا عنه؛ فإنهم إنما أجابوا عن التخصيص دون التقييد، وهو عكسه، ولا يلزم من امتناعه امتناعه؛ كما تقدم.
ومنها: قوله تعالى؛ حكاية عن يعقوب عليه السلام أنه قال لبنيه عن أخي يوسف: {لتأتني به إا أن يحاط بكم} [يوسف: 66]، فاستثناء حالة الإحاطة من جملة الحالات، والأحوال التي تعرض لهم مفهوم خارج عن مفهوم الإتيان الذي دخل عليه الاستثناء، والاستثناء إنما يصح فيما يمكن أن يتعلق به النية؛ فإنه لفظ دال على ما في النفس، فلو لم يتقرر في النفس إخراج هذه الحالة من جملة الحالات لما أتى بالاستثناء، إلاعلى إخراجها، واللفظ إنما هو مقصود السامع، والحالف لا يحتاج أن يعلم السامع، فيبقى ذلك الإخراج في نفسه يوجب له حكم عدم الحنث، ومن استقرا النصوص من الكتاب والسنة، وجد فيها أشياء كثيرة من هذا الباب تقوم بها الحجة على جواز الإخراج من عوارض الألفاظ دون مدلوله، ثم نحن يكفينا أن لم نجد ما يمنع من ذلك، والأصل براءة الذمة، والأصل عدم المنع والحجر؛ فعليهم هم الدليل على منع ذلك، فهذه القاعدة هي سر البحث عندهم، ثم إنهم قاسوا على الطروق؛ فمنعناهم الحكم في الأصل، ونحن قسنا على التصريح بالمصدر، ولم يمكنهم المنع، فتعين الحق في هذه الجهة.