الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلنا: لا نسلم، بل قد لايكون تصورها كافياً، ولا تكون تقليدية، بأن يحتاج إلى فكر في مقدمات أخرى بديهية غنية، ويكون البعض كافيا في اللزوم، وبعضها ليس كافياً في اللزوم، ولا يكون ثم تقليد ولا عدم الكسب لازم، وكذلك القضايا النظرية في لزومها عن القضايا البديهية، وقد تكون كافية، وقد تحتاج إلى مقدمات أخر، فيكون البعض كسبيا والبعض غنيا عن الاكتساب.
(سؤال)
قال النقشواني: اختياره في هذه المسألة يناقضه اختياره في مسألة: " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
"، فاختار ثم الوجوب في الوسيلة، وهاهنا اختار أن تكليف ما لا يطاق هو الواقع، وهما متنافيان.
تقريره: أن المسائل النظرية قد يتعين فيها المعتقد إذا تعدد الزمان، أو يكون قصد بهذه المسألة الجواز، وقصد بتلك المسألة الوقوع، ولا تناقض، أو يكون قصد أن تكليف ما لا يطاق واقع، وإن قلنا بأن الوسائل أيضا واجبة؛ لأنها تكليف بما لا يطاق، واللفظ يقتضي الوسيلة، فقلنا بها.
(تنبيه)
زاد سراج الدين أسئلة:
أحدها: على قوله: " لو أمن لزم انقلاب العلم جهلا "، فقال: لا يلزم ذلك، بل يكون تعلقه أولا بالايمان بدلا عن تعلقه بعدمه هو لازم للازم عدم الايمان مع تعلق العلم به، اذ لا يريد أن الملازمة إنما حصلت من عدم الإيمان، وتعلق العلم به، فالمستلزم للعلم هو عدم الإيمان، فكذلك يستلزم الايمان العلم بالايمان؛ لان الملازمة ملازمتان فمتى كان عدم الإيمان يلزمه العلم بالعدم كان الايمان يلزمه العلم بالثبوت.
وثانيها: على قوله: " كلف أبو لهب بتصديق هذا الخبر بأنه لا يؤمن "
فقال: لا يلزم التصديق بهذا الخبر عينا؛ لأن التصديق إنما كلف به جمليا.
يريد: والإجمال وجه، ومن كلف بالعام لا يلزم أنه كلف بالخاص، كما أن من كلف بتحرير رقبة لا يكون مكلفا برقبة بيضاء، طويلة، والإجمال إنما هو وجه ما في الحقيقة، ووجه ما أعم منها؛ لأنه يصدق معها وبدونها، ولذلك أن كثيرا من المؤمنين لا يعلمون أن في القرآن الآيات الخاصة، والإيمان بالشيء فرع الشعور به، بل الإيمان يحصل وإن لم يعرف الإنسان من القرآن آية واحدة، بل يكفي الجزم بتصديق الرسول عليه السلام في كل ما جاء به فقط.
وثالثها: على قوله: " إن توجه الأمر على العارف بالله امتنع " فقال: يكون عارفا بوجه ما، وقد تقدم تقريره.
ورابعها: على كلامه في التصورات غير مكتسبة، فقال: المعلوم باعتبار صادق عليه يمكن توجه الطلب نحوه، وإنما يمتنع ذلك في المجهول بجميع اعتباراته، ثم حصول التصديقات البديهية كيف كان لا توجب العلم بالنتيجة، بل لا بد من ترتيب خاص، وهو النظر، فإذا كان الترتيب مقدورا كانت العلوم النظرية مقدورة.
وزاد التبريزي فقال: اعلم أن بناء هذه المسألة على سلب تأثير قدر العباد فراراً من فقهها؛ وإبطالا لفائدة بعينها بالنظر، وقد وقع الخلاف بين العلماء في طرفي جوازها ووقوعها، فإن أجملنا الأفعال الاختيارية استحالت المسألة، وصار الواجب وقوعه ينعت بما لا يطاق، وقد أجمعت الأشاعرة والمعتزلة إلا الجبرية منهم على إثبات الفعل المقدور.
والفرق بينه وبين الرعشة، والرعدة، وحركة الجمادات، ثم الاختلاف في وجه تعلق القدرة الحادثة بالمقدور لا يرفع الإجماع على أصل التعلق، ولا خلاف في أن الله تعالى لم يكلفنا قلب الأجناس، ولا الكون في
مكانين في حالة واحدة، فإن ساق إلى ذلك نظر وجب رده لهذه القاعدة، كما إذا توسط مزرعة للغير، أو وقع على صبي محفوف بالصبيان إن مكث قتل، وإن انتقل قتل، وهل في جائزات العقل إمكانه، وهل وقع إذا كان جائزا النزاع في هذين الأمرين، والحق جوازه وعدم وقوعه؛ لأن الطلب الذي هو ماهية التكليف ليس من جهة التشوق، ولا تعلقه تعلق التأثير لتعلق القدرة والإرادة بدليل صحة التعلق بالمعدوم، وغير المعين، فجاز تعلقه بالمحال، كالعلم، وبأنا لو قطعنا النظر عن القبح العقلى لم يكن محالا، وقد أبطلنا تلك القاعدة، ثم نقول: قبحه إما أن يكون للإضرار أو لعدم الفائدة؛ بدليل أنهما لو انتفيا لانتفى القبح قطعا، ولا يقبح الإضرار فإنه جائز (سابق)، بناء على سابقة جريمة، أو تعقب لذة، وإلا لعدمت الفائدة، فإنه لا سبيل إلى العلم بانتفائها، ولا نسلم أن الامتثال هو الفائدة.
وقول الغزالي: " إن الطلب يستدعى مطلوباً متصوراً " إن عنى به موجوداً في العقل فمسلم، والمحال لا يتصور، ولهذا صح أن يقضى عليه، ووصف إمكان الامتثال إنما يعتبر لغرض قصد الامتثال.
ولا نسلم حصر مقاصد التكليف في الامتثال.
وأما دليل عدم الوقوع: فقوله تعالى: {لايكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 285]، والكافر قادر على الإيمان والمعرفة، فإن الآلة سليمة، والإمكان حاصل، وعلمه تعالى بأنه تركهما معا لا لعلة مستحيل؛ فإن العلم لا لغير المعلوم، واذا كان من وصف المعلوم أنه تركه اختياراً فلو علمه محالا لم يكن ذلك العلم مطابقا، ولذلك اخباره عن الشيء على وفق علمه
لا يغير حكمه، فيجعل الممكن محالا، وحصول الداعية من العبد لا ينفي الاقتدار؛ لأن الموقع والمرجح هو الفاعل لا القدرة والإرادة، فإنهما جهتا الإيقاع والتخصيص، فيوجبان المحل الذي قاما به الاقتدار والاختيار.
ومن هنا يبطل حال لزوم الجبر المستفاد من الداعية، وهذا كقول القائل متى يوصف البارئ تعالى بالاقتدار على الفعل حال تعلق إرادته، أو قبل، وقبله ممتنع عنده واجب، والقدرة لا تتعلق بالمحال ولا بالواجب، والمأمور بالمعرفة غير العارف الذي يجوز أن يكون له رب تطلب منه المعرفة، والاستطاعة مع الفعل عند أهل الحق، ولكن ليس مأمورا بالفعل قبل الاستطاعة، وأجمع العقلاء على الفرق بين قولنا:(قم) وبين قولنا: (انظر) والنظر مقدور، والاعتمادات الذهنية كالاعتمادات في النظر عند محاولة المرئيات، ودوام تحقيق صفاتها، ويجد الانسان من نفسه المطالبة بذلك في تذكر ما ينسى.
ووجه الدلالة فيما يخفى وانكاره سنبسطه، وحصول القضايا لا يكون عن التصورات دون تعرف الفكر بنسبة بعضها إلى بعض في النفي والاثبات، ومطابقة وجه التأليف، وكل ذلك عن القلب، كما تعمل الجوارح وهو مناط الثواب والعقاب.
ومعنى كونها ضرورية: استقلال العقل بدرك بعضها من بعض بغير واسطة.
قلت: فقوله: " لم يكلفنا الله تعالى قلب الأجناس " إشارة إلى أن المستحيل العادي لم يقع، وقوله:" المتوسط لمزرعة الغير إن خرج أهلك الزرع، وان بقي أهلك الزرع، أو غاصب المزرعة ".
ومقتضاه أن يجب الخروج والإقامة نفياً للمفسدتين، وكذلك الواقع على الصبيان يجب أن يزول عنهم وألا يزول.
قال سيف الدين: قال أبو هاشم: يكلف بالخروج وبالبقاء؛ لأن في كليهما مفسدة.
قال سيف الدين: يتعين الخروج لما فيه من تقليل الضرر، كما يكلف المولج في الفرج الحرام النزع، وإن كان فيه مساسا للفرج؛ لأن ارتكاب أدنى الضررين يجب، ووجوب الضمان عليه بما يفسده عند الخروج لا يدل على تحريم الخروج؛ فإن المضطر يأكل الطعام ويضمنه، ويمكن في الصبيين أن يقال بالتخيير، أو تخلو مثل هذه الواقعة عن الحكم.
قال الغزالي في (المستصفى): في الصبيين يحتمل أن يقال: يمكث، فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من قادر، أما ترك الحركة فيصح من غير الحي، ويحتمل أن يخير، وقوله:" لا نسلم حصر مقاصد التكليف في الامتثال "، يعني قد يكلفه بالمحال، ويكون ذلك التكليف نفسه عقوبة لذنب سبق؛ لان هذا التكليف سبب العقوبة، وسبب العقوبة يجوز أن يكون عقوبة.
(تنبيه)
زاد تاج الدين فقال: في قول المعتزلة: العلم يتبع المعلوم ولا يتقدمه، فقال: العلوم التابعة هي الانفعالية، والمتقدمة هي الفعلية، وعلوم الله تعالى بأسرها فعلية، والانفعال محال عليه تعالى.
قلت: العلم الفعلي هو الذي يتبعه الفعل، كمن يعلم مصلحة فيفعلها، والعلم الانفعالي: هو الذي ينشأ عن الاسباب، كما اذا مر زيد بين يديك،
فيحصل لك العلم بمروره، فلما كان مسببا عن مروره سمى انفعاليا، أي منفعل.
ومثل هذا محال على الله تعالى؛ لان علمه تعالى واجب الوجوب، أزلي لا ينشأ عن التاثير.
ومع هذا التقدير لا يتم ما قاله تاج الدين في أن علم الله تعالى ليس تابعا؛ فإن التابع أعم من الإنفعال؛ لأن علم الله تعالى له تعلقان: تعلق قبل الوقوع، وتعلق بعد الوقوع.
أما قبله: فلأن تعلق الإرادة مشروط بالشعور، فما لا شعور به لا يمكن أن يعلم.
وأما بعده فلأنه تعالى إذا قدر الممكن في هيئته ووقته واقعا بقدرته، فإنه يعلم كذلك فهذا التعلق الثاني هو التابع أي للتقدير والوقوع، والتعلق الأول متبوع، أي تتبعه الإرادة في الحقيقة التابعية، والمتبوعية، إنما هما للتعلقات، فتعلق سابق، وتعلق لاحق، فلا متبوعية في ذات العلم، وهذا هو مراد المعتزلي، وبه لا يتجه كلام تاج الدين؛ فإن ذلك لحال الذي هو ذات العلم الإنفعال لم يقله الخصم، فلا معنى لدفعه، بل إنما ادعى التبعية في التعلق، فيصدق حينئذ على العلم القديم أنه متقدم ومتأخر باعتبار تعليقه، وأنه تابع ومتبوع.
وعبر تاج الدين فقال: في الجواب عن كون العلم مؤثرا في المعلوم.
فقال: نحن ندعي التعبير عنده، فاندلع عن تاج الدين سؤال الذي يرد على المصنف؛ لأنه لم يصرح، بل قال عنده، وهو أهم من التأثير؛ لأن اللوازم تثبت عند الملزومات، وكذلك الشروط، وليست آثارا لما ثبت عنده من ملزوم أو مشروط كما تقدم بسطه.
ووافقه سراج الدين فقال: لا يلزم من وجوب الشيء عند العلم أنه أثر له.
وقال تاج الدين في الجواب عن قولهم: يلزم أن التكاليف كلها خلاف الإجماع، قال: الإجماع ظني، ودليلنا قطعي.
وهذه الجواب غير متجه، بل الإجماع قطعي - على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والذي ذكره صرح به المصنف في مواضع، وهو مردود، وغير مذهب الجمهور.
***
المسألة الثانية
قال الرازي: قال أكثر أصحابنا، وأكثر المعتزلة: الأمر بفروع الشرائع لا يتوقف على حصول الإيمان.
وقال جمهور أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه: يتوقف عليه، وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني من فقهائنا.
ومن الناس من قال: تتناولهم النواهي دون الأوامر؛ فإنه يصح انتهاؤهم عن المنهيات، ولا يصح إقدامهم على المأمورات.
واعلم أنه لا أثر لهذا الاختلاف في الأحكام المتعلقة بالدنيا؛ لأنه ما دام الكافر كافرا - يمتنع منه الإقدام على الصلاة؛ وإذا أسلم، لم يجب عليه القضاء.
وإنما تأثير هذا الاختلاف في أحكام الآخرة؛ فإن الكافر إذا مات على كفره، فلا شك أنه يعاقب على كفره، وهل يعاقب مع ذلك على تركه الصلاة والزكاة وغيرهما، أم لا؟
ولا معنى لقولنا: إنهم مأمورون بهذه العبادات، إلا أنهم كما يعاقبون على ترك الإيمان، يعاقبون أيضا بعقاب زائد على ترك هذه العبادات، ومن أنكر ذلك قال: إنهم لا يعاقبون إلا على ترك الإيمان، وهذه دقيقة لابد من معرفتها:
لنا وجوه:
الأول: أن المقتضي لوجوب هذه العبادات قائم، والوصف الموجود، وهو الكفر، لا يصلح مانعا؛ فوجب القول بالوجوب.
إنما قلنا: إن المقتضي موجود؛ لقوله تعالى: {يأيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] وقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97].
ولا شك في أن هذه النصوص عامة في حق الكل.
وإنما قلنا: إن الكفر لايصلح أن يكون مانعا؛ لأن الكافر متمكن من الإتيان بالإيمان أولا؛ حتى يصير متمكنا من الإتيان بالصلاة والزكاة؛ بناء عليه؛ وبهذا الطريق قلنا: الدهري مكلف بتصديق الرسول، والمحدث مأمور بالصلاة.
فثبت أن المقتضى قائم، والمعارض غير مانع؛ فوجب القول بالوجوب.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {ماسلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين} [المدثر:42 - 43] وهذا يدل على أنهم يعاقبون على ترك الصلاة.
فإن قيل: هذه حكاية قول الكفار؛ فلا يكون حجة، فإن قلت: لو كان ذلك باطلا، لبينه الله تعالى!!
قلت: لا نسلم وجوب ذلك؛ وجوب ذلك؛ فإنه تعالى حكى عنهم: أنهم قالوا: {والله ربنا ما كنا مشتركين} [الأنعام: 23]{ما كنا نعمل من سوء} [النحل: 28]{يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم} [المجادلة: 18]
ثم إنه تعالى ما كذبهم في هذه المواضع؛ فعلمنا أن تكذيبهم غير واجب.
سلمنا أنه حجة؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: العذاب على مجرد التكذيب؛ لقوله تعالى: {وكنا نكذب بيوم الدين} [المدثر: 46]
والدليل عليه: أن التكذيب سبب مستقل باقتضاء دخول النار، وإذا وجد السبب المستقل باقتضاء الحكم، لم يجز إحالته على غيره.
سلمنا أن التعذيب واقع على جميع الأمور المذكورة؛ لكن قوله: {لم نك من المصلين} المدثر 43] معناه: لم نك من المؤمنين؛ لأن اللفظ محتمل، والدليل دل عليه.
أما أن اللفظ محتمل؛ فلما روي في الحديث: " نهيت عن قتل المصلين " ويقال: قال أهل الصلاة؛ والمراد منه: المسلمون.
وأما أن الدليل دل عليه؛ فلأن أهل الكتاب داخلون في هذه الجملة، مع أنهم كانوا يصلون، ويتصدقون، ويؤمنون بالغيب، ولو كان المراد: من لم يأت بالصلاة والزكاة، لكانوا كاذبين فيه؛ فعلمنا أن المراد أنهم ما كانوا من أهل الصلاة والزكاة.
سلمنا أن التعذيب على ترك الصلاة؛ لكن قوله: {لم نك من المصلين} [المدثر: 43] يجوز أن يكون إخبارا عن قوم ارتدوا بعد إسلامهم، مع أنهم ما صلوا حال إسلامهم؛ لانه واقعة حال؛ فيكفي في صدقه صورة واحدة.
سلمنا عمومه في حق الكفار؛ ولكن الوعيد ترتب على فعل الكل؛ فلم قلت: إنه حاصل على كل واحد من تلك الأمور؟
والجواب: أن الله تعالى، لما حكى عن الكفار تعليلهم دخول النار بترك الصلاة، وجب أن يكون ذلك صدقا؛ لأنه لو كان كذبا مع أنه تعالى ما بين كذبهم فيها - لم يكن في روايتها فائدة، وكلام الله تعالى متى أمكن حمله على ماهو أكثر فائدة، وجب ذلك.
[ص 1572]
وأما المواضع التي كذبوا فيها مع أن الله تعالى مابين كذبهم فيها: فذاك لاستقلال العقل بمعرفة كذبهم فيها؛ فتكون الفائدة من ذكر تلك الأشياء بيان نهاية مكابرتهم وعنادهم في الدنيا والآخرة.
وأما هاهنا، فلما لم يكن العقل مستقلا بمعرفة كذبهم، والله تعالى لم يبين لنا ذلك، فلو كانوا كاذبين فيه، لم يحصل منه غرض أصلا؛ فتكون الآية عرية عن الفائدة.
قوله: " العلة هي التكذيب بيوم الدين ":
قلنا: لو كان كذلك لكان سائر القيود عديم الأثر في اقتضاء هذا الحكم؛ وذلك باطل؛ لان الله تعالى رتب الحكم عليها أولا في قوله تعالى: {قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 43 - 44].
قوله: " لما وجد السبب المستقل، لم يجز إحالة الحكم على غيره ":
قلنا: لعل الحصول في الموضع المعين من الجحيم ما كان لمجرد التكذيب؛ بل لمجموع هذه الأمور، وإن كان مجرد التكذيب سببا لدخول مطلق الجحيم.
قوله: " المراد من قوله: {لم نك من المصلين} أي: لم نك من المؤمنين ":
قلنا: هذا التأويل لا يتأتى في قوله: {ولم نك نطعم المسكين} .
قوله: " أهل الكتاب صلوا، وأطعموا ":
قلنا: الصلاة في عرف الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة التي في شرعنا، لا التي في شرع غيرنا.
قوله: " جاز أن يكون المراد منه قوما ارتدوا بعد إسلامهم ":
قلنا: إن قوله سبحانه وتعالى: {قالوا لم نك من المصلين} هو جواب المجرمين المذكورين في قوله: {يتساءلون عن المجرمين} [المدثر: 40 - 41] وذلك عام في حق الكل.
الدليل الثالث: قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} [الفرقان: 68] إلى قوله: {يضاعف له العذاب يوم القيامة} [الفرقان: 69] وكذلك قوله: {فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى} [القيامة: 31 - 32]
ذمهم على ترك الكل.
وكذلك قوله تعالى: {وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت: 6 - 7].
الدليل الرابع: الكافر يتناوله النهي؛ فوجب أن يتناوله الأمر، وإنما قلنا: إنه يتناوله النهي؛ لأنه يحد على الزنا.
وإنما قلنا: إنه إذا تناوله النهي، وجب أن يتناوله الأمر؛ لأنه إنما يتناوله النهي؛ ليكون متمكنا من الاحتراز عن المفسدة الحاصلة؛ بسبب الإقدام عن المنهى عنه؛ فوجب أن يتناوله الأمر؛ ليكون متمكنا من استيفاء المصلحة الحاصلة؛ بسبب الإقدام على المأمور به.
فإن قيل: لا نسلم أنه يتناوله النهي، وأما الحد، فذاك؛ لأنه التزم أحكامنا.
سلمنا؛ لكن الفرق بين الأمر والنهي هو أنه مع كفره يمكنه الانتهاء عن المنهيات، ولا يمكنه مع كفره الإتيان بالمأمورات.
والجواب عن الأول: أن من أحكام شرعنا ألا يحد أحد بالفعل المباح.
وعن الثاني: أن قولكم: " الكافر المكلف يمكنه الانتهاء عن المنهيات " إن عنيتم به: أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية، فهو أيضا متمكن من فعل المأمورات من غير اعتبار النية.
وإن عنيتم به: أنه متمكن من الانتهاء عن المنهيات؛ لغرض امتثال قول الشارع - فمعلوم أن ذلك حال عدم الإيمان - متعذر.
فالحاصل أن المأمور والمنهي استويا في أن الإتيان بهما من حيث الصورة لا يتوقف على الإيمان، والإتيان بهما؛ لغرض امتثال حكم الشارع - يتوقف في كليهما على الإيمان؛ فبطل الفرق الذي ذكروه.
واحتج المخالف بأمرين:
أحدهما: أنه لو وجبت الصلاة على الكافر، لوجبت عليه: إما حال الكفر، أو بعده:
والأول باطل؛ لان الإتيان بالصلاة في حال الكفر ممتنع، والممتنع لا يكون مأمورا به.
والثاني باطل؛ لإجماعنا على أن الكافر، إذا أسلم، فإنه لا يؤمر بقضاء ما فاته من الصلاة في زمان الكفر.
وثانيهما: لو وجبت هذه العبادات على الكافر، لوجب عليه قضاؤها؛ كما في حق المسلم، والجامع تدارك المصلحة المتعلقة بتلك العبادات؛ ولما لم يكن الأمر كذلك، علمنا أنها غير واجبة عليه.
والجواب عن الأول: أنا بينا أنه لا تظهر فائدة هذا الخلاف في الأحكام