الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
المشهور: أن النهي يفيد التكرار
، ومنهم من اباه، وهو المختار.
لنا: ان النهي قد يراد منه التكرار، وهو متفق عليه، وقد يراد منه المرة الواحدة؛ كما يقول الطبيب للمريض الذي شرب الدواء:" لا تشرب الماء، ولا تأكل اللحم " أي: في هذه الساعة، ويقول المنجم:" لا تفصد، ولا تخرج غلى الصحراء " اي: في هذا اليوم، ويقول الوالد لولده:(لا تلعب) أي: في هذا اليوم، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل؛ فوجب جعل النهي حقيقة في القدر المشترك.
الثاني: أنه يصح أن يقال: " لا تأكل السمك ابدا " وأن يقال: " لا تأكل اللحم في هذه الساعة، وأما في الساعة الأخرى، فكل "، والأول ليس بتكرار، والثاني ليس بنقض؛ فثبت أن النهي لا يفيد التكرار.
احتج المخالف بأمور:
أحدها: أن قوله: (لا تضرب) يقتضي امتناع المكلف من إدخال ماهية الضرب في الوجود، والامتناع من إدخال هذه الماهية في الوجود؛ إنما يتحقق إذا امتنع من إدخال كل أفرادها في الوجود؛ إذ لو أدخل فردا من أفرادها في الوجود، وذلك الفرد مشتمل على الماهية - فحينئذ يكون قد أدخل تلك الماهية في الوجود، وذلك ينافي قولنا: إنه امتنع من إدخال تلك الماهية في الوجود.
وثانيها: أن قوله: (لا تضرب) يعد في عرف اللغة مناقضا لقوله: (اضرب).
لأن تمام قولنا: (اضرب) حاصل في قولنا: (لا تضرب) مع زيادة حرف النهي، لكن قولنا:(اضرب) يفيد طلب الضرب مرة واحدة، فلو كان قولنا:(لا تضرب) يفيد الانتهاء أيضا مرة واحدة، لما تناقضنا؛ لأن النفي والإثبات في وقتين لا يتناقضان، فلما كان مفهوم النهي مناقضا لمفهوم الأمر، وجب ان يتناول النهي كل الأوقات حتى تتحقق المنافاة.
وثالثها: أن قوله: (لا تضرب) لا يمتنع حمله على التكرار؛ وقد دل الدليل على حمله على التكرار؛ فوجب المصير غليه.
إنما قلنا: إنه لا يمتنع حمله على التكرار؛ لأن كون الإنسان ممتنعا عن فعل المنتهى عنه أبدا ممكن، ولا عسر فيه.
وأما أن الدليل دل عليه؛ فلأنه ليس في الصيغدلالة على وقت دون وقت؛ فوجب الحمل على الكل؛ دفعا للإمال بخلاف الأمر؛ فإن يمتنع حمله على التكرار، لإفضائه إلى المشقة.
والجواب عن الأول: أنه لا نزاع في أن النهي يقتضي امتناع المكلف عن إدخال تلك الماهية في الوجود، ولكن الامتناع عن إدخال تلك الماهية في الوجود، قدر مشترك بين الامتناع عنه دائما، وبين الامتناع عنه، لا دائما؛ كما تقدم بيانه.
واللفظ الدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به يمتاز كل واحد من القسمين عن الثاني؛ فإ
ذن لا دلالة في هذا اللفظ على الدوام ألبتة.
وعن الثاني: أنك إن أردت بقولك: إن الأمر والنهي دلا على مفهومين متناقضين: أن هذا يدل على الإبات، وذلك يدل على النفي - فهذا مسلم،
ولكن مجرد النفي والإثبات لا يتنافيان إا بشرط اتحاد الوقت؛ فإن قولك:" زيد قائم، زيد ليس بقائم " لا يتناقضان؛ لأنه متى صدق الإثبات في وقت واحد، فقد صدق الإثبات، ومتى صدق النفي في وقت آخر، فقد صدق النفي.
ومعلوم أن الإثبات في وقت لاينافي النفي في وقت آخر؛ فمطلق الإثبات والنفي وجب ألا يتناقضا ألبتة.
وعن الثالث: أن النهي لا دلالة فيه إلا على مسمى الامتناع، فحيث تحقق هذا المسمى، فقد وقع الخروج عن عهدة التكليف.
(تنبيه) قلنا: إ النهي يفيد التكرار، فهو يفيد الفور؛ لا محالة؛ وإلا فلا.
المسألة الثانية
النهي للتكرار
قوله: " وقد ترد للمرة ".
قلنا: التكرار في الشرع كثير، كالزنا والسرقة ونحوهما، وأما المرة الواحدة في الشرع فعسير الوجود، بخلاف الأمر مرة واحدة كما في الحج، والموجود من النهي إنما هو إن لم يدم فلغاية معينة كتحريم الصيد إلى زمن الحل أو الخروج من الحرم ونحوهما، أما المرة الواحدة، فلا يكاد يوجد.
قوله: " والاشتراك والمجاز خلاف الأصل ":
قلنا: يعارضه أمور:
أحدها: أن المتبادر إلى الذهن من النهي إنما هو التكرار، والمبادرة دليل الحقيقة.
وثانيها: أن النهي يعتمد المفاسد، والمفسدة مطلوبة الدفع دائما، فلو قال لولده: لا تشرب السم، فإنه لو شرب السم في أي زمان كان حصلت المفسدة، ومات الولد.
وثالثها: أن جعله حقيقة في التكرار يوجب مزيد حسن التجوز به إلى أصل الترك؛ لأنه يستلزمه، بخلاف العكس؛ لأن التكرار ليس لازما لأصل الانتهاء.
قوله: " يصح أن يقال: لا تأكل السمك، ولا تأكل اللحم في هذه الساعة، والأول ليس تكرارا، والثاني ليس نقضا ً ".
تقريره: أن على القول بالتكرار يكون النهي يفيده، وكذلك قوله:(أبدا ً) يفيده فيلزم التكرار، ويكون قوله:" في هذه الساعة فقط "، ووجود الدليل بدون المدلول نقض على الدليل.
وقوله: " وليس تكرارا ولا بنقض " بمعنى أن الأصل عدمهما، فهما منفيان بالأصل، ولا زمان على مذهب الخصم.
ويرد عليه: أن المناهي الشرعية والعرفية أكثرها وردت في الدوام، فيلزم أن يكون مجازا، والأصل عدم المجاز أيضا، قوله:(لا تضرب) يناقض قوله: (اضرب)؛ لأن تمام قولنا: (اضرب) حاصل في قولنا: (لا تضرب) مع زيادة حرف النفي، والأمر للمرة، والنهي يقتضي التكرار.
قلنا: لا نسلم أن تمام قولنا: (اضرب) في قولنا (لا تضرب)؛ لأن الهمزة في قولنا: (اضرب) وليست في (لا تضرب) دعواكم المناقضة في اللغة ممنوع، بل هما خلافان عند الخصم لا نقيضان، ولا ضدان، ولا مثلان، ثم إن قولكم:(إن حرف النفي وجد) ممنوع، فإن (لا) الناهية ليست للنفي، ولو كانت للنفي لكانت خبرا عن النفي، فيلزم ألا يقع المنهى عنه أبدا؛ لأن الله تعالى أخبر عن عدمه، وليس كذلك بالإجماع، بل الذي يليق أن يقال: إن النهي في معنى النفي من جهة أنه متعلق بالإعدام، كما أن النفي متعلق بالعدم، أما أنه نفي فلا.
قوله: " لا دلالة للفظ على خصوص الوقت، فوجب حمله على الكل دفعا للإجمال ":
قلنا: عدم الدلالة على خصوص الأوقات لا يوجب إجمالا على تقدير عد الحمل على الكل، كما في المطلقات، والأمر بالماهيات الكليات يقتصر فيها على مسمى اللفظ، ويخرج عن العهدة، ولا إجمال كما في قوله تعالى:{فتحرير رقبة} [البقرة: 92]
قوله: " الامتناع قدر مشترك بين الامتناع عنه دائما، وبين الامتناع عنه لا دائما ":
قلنا: لا نسلم أنه قدر مشترك؛ لأن المفهوم من الامتناع اجتناب تلك.