الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظر الرابع في المأمور وفيه مسائل
قال الرازي:
المسألة الأولى: قال أصحابنا: المعدوم يجوز أن يكون مأمورا
، لا بمعنى أنه حال عدمه يكون مأمورا، فإنه معلوم الفساد بالضرورة؛ بل بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجوداً في الحال، ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر، وأما سائر الفرق، فقد أنكروه.
لنا: أن الواحد منا، حال وجوده، يصير مأمورا بأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أن ذلك الأمر ما كان موجوداً إلا حال عدمنا.
وكذلك لا يبعد أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد، وأنه لو قدر بقاء ذلك الطلب؛ حتى وجد الولد، صار الولد مطالبا بذلك الطلب، فكذا المعنى القائم بذات الله تعالى، الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد، معنى قديم، وأن العباد، إذا وجدوا، يصيرون مطالبين بذلك الطلب.
فإن قيل: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير لازم على أحد، بل هو عليه الصلاة والسلام أخبر أن الله تعالى يأمر كل واحد من المكلفين عند وجوده، فيصير ذلك إخبارا عن أن الله تعالى سيأمرهم عند وجودهم، لا أن الأمر حصل عند عدم المأمور.
سلمنا أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم واجب الطاعة، ولكن وجد هناك في الحال من سمع ذلك الأمر، وبلغه إلينا، أما في الأزل، فلم يوجد أحد يسمع ذلك الأمر، وينقله إلينا، فكان ذلك الأمر عبثا.
ثم ما ذكرتموه معارض بدليل آخر، وهو: أن الأمر عبارة عن إلزام الفعل، وفي إلزام الفعل من غير وجود المأمور عبث؛ فإن من جلس في الدار يأمر وينهى، من غير حضور مأمور، ومنهي، عد سفيها مجنونا، وذلك على الله محال.
والواجب: قوله: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن الإخبار، قلنا: من أصحابنا من قال ذلك، وكذلك أمر الله تعالى عبارة عن إخباره بنزول العقاب على من يترك الفعل الفلاني، إلا أن هذا مشكل من وجهتين:
أحدهما: أنا بينا فيما تقدم: أنه لو كان الأمر عبارة عن هذا الإخبار، لتطرق التصديق والتكذيب إلى الأمر، ولامتنع العفو عن العقاب على ترك الواجبات؛ لأن الخلف في خبر الله تعالى محال.
الثاني: أنه لو أخبر في الأزل، لكان: إما أن يخبر نفسه، وهو سفه، أو غيره؛ وهو محال؛ لأنه ليس هناك غيره.
ولصعوبه هذا المأخذ، ذهب عبد الله بن سعيد بن كلاب التميمي من أصحابنا إلى أن كلام الله تعالى في الأزل لم يكن أمرا، ولا نهيا، ثم صار فيما لا يزال كذلك.
ولقائل أن يقول: إنا لا نعقل من الكلام إلا الأمر، والنهي، والخبر، فإذا سلمت حدوثهما، فقد قلت بحدوث الكلام.
فإن ادعيت قدم شيء آخر، فعليك البيان بإفادة تصوره، ثم إقامة الدلالة على أن الله تعالى موصوف به، ثم إقامة الدلالة على قدمه.
وله أن يقول: أعني بالكلام القدر المشترك بين هذه الأقسام، ويمكن الجواب
عن أصل الإشكال؛ بأن قاعدة الحكمة مبنية على قاعدة الحسن والقبح، وقد تقدم إفسادها
المسألة الأولى
المعدوم يجوز أن يكون مأمورا
قال القرافي: قوله: " أمر الرسول عليه السلام إخبار عن أن الله تعالى يأمر كل واحد منا عند وجوده؛ لا أنه مأمور حالة عدمه ".
قلنا: الحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير آمر، ولا ناه، ولا مشرع، إنما هو مبلغ عن الله تعالى، والله تعالى هو المشرع وكل مبلغ مخبر، فالرسول عليه السلام مخبر، لكن مخبرنا عن الله تعالى أنه أمرنا بأمره القديم الأزلي في الأزل على تقدير وجودنا، كما علمنا بعلمه القديم، وحصل التعلق في الأزل بما سيوجد من الحركات في المستقبل، فكما تعلق العلم بالمستقبل يتعلق الخطاب في المستقبل بالمعدوم، ولا نزاع في ذلك، وأخبر الرسول عليه السلام أيضا أنا إذا وجدنا، وحصلت شروط خاصة بذلك الزمان هو زمان تعلق أمر الله تعالى وأحكامه، والكائن قبل تلك الشروط ليس متعلق الحكم فالكلام وتعلقه قديمان كالعلم وتعلقه والمتجدد ومتعلقه، وكما يستحيل وجود علم بلا معلوم يستحيل وجود أمر بلا مأمور، لكن الأمر في الأزل بالتعلق في الأزل على شرائط مخصوصة، وكذلك يتعلق العلم على شرائط مخصوصة، فما علم الله أن زيدا يصير عالما، ويعيش مائة سنة إلا بناء على أسباب كثيرة، وشرائطه متعددة في كل يوم شرائط كثيرة لضرورة الحياة من النفس، والغذاء أو أسباب عادية في الحفظ للعلوم، وغير الحفظ، فالبابان سواء، فكما عقل في أحدهما التعلق في الأزل الذي سيوجد فيما لا يزال، فليفعل في الآخر وأما أنه عليه السلام أخبر بتجدد أمر الله تعالى عند وجودنا فممنوع.
قوله: " وجد في زمانه صلى الله عليه وسلم من يبلغ إلينا، أما في الأزل فليس ثم أحد، فكان ذلك الأمر عبثا ".
قلنا: ذكر العبث في هذا المقام من قاعدة الحسن والقبح، ونحن نمنعه، سلمناه، ولكن القبيح أن يتكلم الإنسان بكلامه اللساني، وليس هناك من يسمعه، فهذا قبيح عرفا، أما جلوس الإنسان في خلوته مفكرا في أمر معاده ومعاشه، ولا يكون هنالك أحد فهذا ليس قبحا، بل أجود الفكرة حال الخلوة، ولا معنى للفكرة إلا الكلام النفساني وأنواع الإخبارات، ونحن ما ندعي في الأزل إلا الكلام النفساني الذي لا يقبح حالة عدم الغير، فلا عبث حينئذ على قاعدتنا ولا على قاعدة المعتزلة في الحسن والقبح.
وبهذا التقرير يظهر بطلان قولهم: لو قعد الإنسان في بيته يأمر وينهى، وليس هنالك أحد كان عبثاً.
قوله: " الأمر إلزام للفعل، وإلزام الفعل من غير موجود مأمور محال ".
قلنا: هذه مغالطة، ما ألزم الفعل إلا الموجود؛ لأنه تعالى إذا ألزم في الأزل المكلف على تقدير وجوده، فما ألزمه إلا حالة وجوده، ولم يلزمه حالة عدمه شيئا، ففرق بين إلزام المعدوم إذا وجد حالة وجوده وبين إلزام المعدوم حالة عدمه، المحال إنما هو في الثاني دون الأول، ونحن لا نقول بالثاني فلا محال حينئذ.
قوله: " لو أخبر في الأزل فأما أن يخبر بنفسه، وهو محال ".
قلنا: لا نسلم أنه محال؛ لأن كل عاقل يسند في فكره طول ليله ونهاره، ولا معنى للإسنادات إلا الإخبارات، ومع ذلك أجمع العقلاء على حسنه، فلا يكون في حق الله تعالى قبيحا، بل الله تعالى عالم بجميع معلوماته، ويخبر عن كل معلوم بخصائص صفاته وأحواله، وذلك
غير متناه في متعلقه، وليس في ذلك محال البتة، بل ذلك واجب عقلا عند أهل الحق على ما قالوه، والله تعالى في الأزل، وما لا يزال مخبرا عن صفات كماله، ونعوت جلاله بعينه بكلامه النفساني، وذا واجب الوقوع عقلا أزلا وأبدا، ولا يسمع ذلك إلا الله تعالى، بسمعه القديم، وإلى هذا الإخبار أشار عليه السلام بقوله:(لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
معناه: تبارك المستحق هو ثناؤك على نفسك، والله تعالى مثنٍ على نفسه دائما أزلا وأبدا، ولا معنى للثناء إلا الإخبار، فهذا واجب حق لا ينكره إلا من لم يرتض بالعلوم العقلية الكلامية.
قوله: " له أن يقول: الكلام هو القدر المشترك بين هذه الأقسام ".
تقريره: أن الخبر: إسناد يحتمل التصديق والتكذيب بما هو خبر لا يفيد إضافته إلى مخبر خاص أو مخبر عنه خاص.
والطلب: إسناد الاقتضاء في الفعل والترك إلى مكلف معين.
والتخيير: هو إسناد التسوية إلى مخبر من المخاطبين، فصار الإسناد الذي هو المفهوم العام هو القدر المشترك بين أنواع الكلام، لكن المشترك لا يقع في الوجود إلا في أحد أنواعه، فعند أهل الحق وقع هذا الكلي في الأزل في الخبر وجوبا، وفي الطلب والتخيير جوازا بالنظر إلى ذلك الكلام؛ لأنه من الجائز على الله تعالى ألا يخلق العالم، وعلى هذا التقدير لا