الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في أن صيغة (الكل) و (الجميع) تفيدان الاستغراق
ويدل عليه وجوه:
الأول: أن قوله: " جاءني كل فقيه في البلد " يناقضه قوله: " ما جاءني كل فقيه في البلد " ولذلك يستعمل كل واحد منهما في تكذيب الآخر، والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد الكل الاستغراق؛ لأن النفي عن البعض لا يتناقض الثبوت في البعض.
الثاني: أن صيغة (الكل) مقابلة في اللفظ لصيغة (البعض) ولولا أن صيغة الكل غير محتملة للبعض؛ وإا لما كانت مقابلة لها.
الثالث: أن الرجل، إا قال:" ضربت كل من في الدار " وعلم أن في الدار عشرة، ولم يعرف سوى هذه اللفظة، أعنى: أنه لم يعرف أن في الدار أباه وغيره ممن يغلب على الظن أنه لا يضربه، بل جوز أن يضربهم كلهم؛ فإن الأسبق إلى الفهم الاستغراق؛ ولو كانت لفظة (الكل) مشتركة بين (الكل) و (البعض) لما كان كذلك؛ لأن اللفظ المشترك، لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية، امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر.
الرابع: أن يتمسك بسقوط الاعتراض عن المطيع، وتوجهه على العاصي.
أما الأول: فهو: أن السيد إذا قال لعبده: " كل من دخل اليوم داري، فأعطه رغيفا " فلو أعطى كل داخل؛ لم يكن للسيد أن يعترض عليه؛ حتى إنه لو أعطى
رجلا قصيرا، فقال له: لم أعطيته، مع أني أردت الطوال؟ فللعبد أن يقول: ما أمرتني بإعطاء الطوال، وإنما أمرتني بإعطاء من دخل، وهذا قد دخل.
وكل عاقل سمع هذا الكلام، رأى اعتراض السيد ساقطا، وعذر العبد متوجها.
وأما الثاني: فهو: أن العبد لو أعطى الكل إلا واحدا، فقال له السيد:" لم لم تعطه؟ " فقال: " لأنه طويل، وكان لفظك عاما، فقلت: لعلك أردت القصار " استوجب التأديب بهذا الكلام.
الخامس: إذا قال: " أعتقت كل عبيدي وإمائي " ومات في الحال ن ولم يعلم منه أمر آخر سوى هذه الألفاظ حكم بعتق كل عبيده وإمائه.
ولو قال: (غانم حر) وله عبدان اسمهماغانم، وجبت المراجعة، والاستفهام؛ فعلمنا عدم الاشتراك.
السادس: أنا ندرك تفرقة بين قولنا: (جاءني فقهاء) وبين قولنا: (جاءني كل الفقهاء) ولولا دلالة الثاني على الاستغراق، وإلا لما بقى الفرق.
السابع: معلوم أن أهل اللغة، إذا أرادوا التعبير عن معنى الاستغراق، فزعوا إلى استعمال لفظة (الكل) و (الجميع) ولا يستعملون الجموع المنكرة، ولولا أن لفظة (الكل) و (الجميع) موضوعة للاستغراق، وإلا لكان استعمالهم هاتين اللفظتين عند إرادة الاستغراق، كاستعمالهم للجموع المنكرة.
فإن قلت في جميع هذه المواضع: إنما حكمنا بالعموم؛ للقرينة، قلت: كل ما تفرضونه من القرائن أمكننا فرض عدمه مع بقاء الأحكام المذكورة.
وأيضا: لو قيل: كل من قال لك (جيم) فقل له: (دال)، فهاهنا لا قرينة تدل على هذه الأحكام، مع أن العموم مفهوم منه.
وأيضا: الأعمى يفهم العموم من هذه الألفاظ، مع أنه لا يعرف القرائن المبصرة، وأما المسموعة فهي منفية؛ لأنا فرضنا الكلام فيمن سمع هذه الألفاظ، ولم يسمع شيئا آخر.
الثامن: لما سمع عثمان رضي الله عنه قول لبيد (الطويل):
: وكل نعيم لا محالة زائل "
قال: كذبت؛ فإن نعيم الجنة لا يزول، فلولا أن قوله أفاد العموم، وإلا لما توجه عليه التكذيب، والله أعلم.
الفصل الثالث
(كل) و (جميع) للعموم
قال القرافي: قوله: " جاءني كل فقيه
…
، ولذلك استعمل كل واحد منهما لتكذيب الآخر ".
تقريره: أن هذا مبني على قاعدة، وهي أن القضايا المحصورة المشهورة أربعة أقسام:
موجبة كلية، وسالبة كلية، موجبة جزئية، وسالبة جزئية، فالكلية لا تناقضها الكلية؛ لأن قولنا:" كل عدد زوج، لا شيء من العدد بزوج " كاذبتان، والنقيضان لا يكذبان معا، وإذا كانت الكليتان لا تتناقضان،
فالجزئيتان أيضا لا تتناقضان؛ فإن قولنا: " بعض العدد زوج، بعض العدد ليس بزوج " صادقتان، والنقيضان لا يجتمعان، ولا يرتفعان؛ فتعين أن الذي يناقض الكلية إنما هو الجزئية، إذا اختلفتا في السلب والإيجاب، والشروط الثانية المذكورة في علم المنطق.
إذا تقرر هذا، فقولنا:" جاءني كل فقيه " موجبة كلية، و " ما جاءني كل فقيه " جزئية سالبة؛ لأن سلب الكلية يكفي فيهما السالبة الجزئية، فمن قال:" كل حيوان إنسان " وأردت تكذيبه في الكلية، قلت له:" ليس كل حيوان إنسانا " وأنت لا تريد السالبة الكلية، بل الجزئية، فعلمنا أن قولنا:" ليس كل حيوان " إنسانا سالبة جزئية، كذلك " ما جاءني كل فقيه " سالبة جزئية.
فإذا ثبت التناقض بين قولنا: " جاءني كل فقيه " و " ما جاءني كل فقيه " والثانية سالبة جزئية، لزم أن تكون الأولى موجبة كلية، وهذا هو العموم.
وإذا تقرر ذلك في العرف، وجب أن يكون ذلك في اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم النقل والتغير.
ويرد عليه: " إن جاءني كل فقيه " فعند الخصم مطلق لا عام، والمطلق، إذا دخل عليه حرف النفي، صار سالبة كلية، فتناقض " جاءني كل فقيه "؛ لأنه عنده موجبة جزئية، فتحقق التناقض، ولكن يعكس مقصود المصنف، فيتلخص للسائل القول في الوجوب؛ فسلم التناقض، ولا يثبت الإيجاب الكلي الذي قصده المستدل، بل بالإيجاب الجزئي؛ وهو الإطلاق.
قوله: " صيغة الكل مقابلة لصيغة البعض، ولولا أن صيغة الكل غير محتمله للبعض لما كانت مقابلة لها " عبارة غير متجهة، فإن الكلية مستلزمة للجزئية؛ بالضرورة، ولفظها دال عليها؛ إجماعا، فكيف ينفى عنها