الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في أن صيغة (من) و (ما) في المجازة للعموم
قال الرازي: ويدل عليه ثلاثة أوجه:
الأول: أن قوله: " من دخل داري، فأكرمه " لو كان مشتركا بين الخصوص والاستغراق، لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة، لكنه حسن؛ فدل على عدم الاشتراك، وتقريره ما تقدم في الفصل الأول.
الوجه الثاني: أنه إذا قال: " من دخل داري، فأكرمه " حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء، والعلم بحسن ذلك من عادة أهل اللغة ضروري، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه؛ وذلك لأنه لا نزاع في أن المستثنى من الجنس لابد وأن يصح دخوله تحت المستثنى منه؛ فإما ألا يعتبر مع الصحة الوجوب، أو يعتبر:
والأول باطل؛ وإلا لكان لا يبقى بين الاسثناء من الجمع المنكر؛ كقوله: (جاءني الفقهاء إلا زيدا) - فرق؛ لصحة دخول (زيد) في الخطابين، لكن الفرق معلوم بالضرورة من عادة العرب؛ فعلمنا أن الاسثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ؛ وهو المطلوب.
فإن قيل: ينتقض دليلكم بأمور ثلاثة:
أحدها: جموع القله؛ كالأفعل، والأفعال، والأفعلة، والفعلة، وجمع السلامة؛ فإنه للقلة؛ بنص سيبويه، مع أنه يصح استثناء كل واحد من أفراد ذلك الجنس عنها.
وثانيها: أنه يصح أن يقال: " اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا " ومعلوم أن ذلك المستثنى لا يجب أن يكون داخلا تحت ذلك المنكر.
وثالثها: أنه يصح أن يقال: " صل إلا اليوم الفلاني " ولو كان الاسثناء يقتضي إخراج ما لولاه لدخل، لكان الأمر مقتضيا للفعل في كل الأزمنة؛ فكان الأمر يفيد الفور والتكرار، وأنتم لا تقولون بهما.
سلمنا سلامته عن النقض؛ لكن لا نسلم أن قوله: " من دخل داري، أكرمه " يحسن استثناء كل واحد من العقلاء منه؛ فإنه لا يحسن منه أن يستثنى الملائكة، والجن، واللصوص، ولا يحسن أن يقول:" غلا ملك الهند، وملك الصين ".
سلمنا حسن ذلك؛ ولكن لم يدل على العموم؟
قوله: " المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه؛ فإما أن يكون الوجوب معتبرا مع هذه الصحة، أو لا يكون "
قلنا: لا نسلم أن المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه؛ فإن استثناء الشيء من غير جنسه جائز.
سلمناه؛ لكن لم قلت: إنه لابد من الوجوب؟
قوله: " لو لم يكن الوجوب معتبرا، لما بقي فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر، وبين الاستثناء من الجمع المعرف ".
قلنا: نسلم أنه لابد من فرق؛ لكن لا نسلم أن هلا فرق غلا ما ذكرتموه.
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على الوجوب؛ لكن معنا ما يدل على أن الصحة كافية؛ وبيانه من وجهين:
الأول: أن الصحة أعم من الوجوب، فيكون حمل اللفظ على الصحة حملا له على ماهو أعم فائدة.
الثاني: ان القائل، إذا قال لغيره:" أكرم جمعا من العلماء، واقتل فرقة من الكفار " حسن أن يستثني كل واحد من العلماء، والكفار؛ فيقول:" إلا فلانا، وفلانا " ولو كان الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله فيه - لوجب أن يكون اللفظ المنكر للاستغراق.
سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي أن تكون صيغة (من) للعموم؛ لكن لا يجب ان يكون الأمر كذلك.
بيانه: ان الاستدلال بالمقدمتين المذكورتين على النتيجة، إنما يصح لو ثبت أنه لا تجوز المناقضة على واضع اللغة؛ إذ لو جازت المناقضة عليه، جاز أن يقال: إنهم حكموا بهاتين المقدمتين اللتين توجبان عليهم أن يحكموا بأن صيغة (من) للعموم، ولكنهم لعلهم لم يحكموا بها؛ لأنهم لم يحترزوا عن المناقضة؛ بلى، لو ثبت أن اللغات توقيفية، اندفع هذا السؤال.
سلمنا أن صحة الاستثناء من هذه الصيغ دالة على أنها للعموم؛ لكنها تدل على أنها ليست للعموم من وجه آخر؛ وذلك لأنها لو كانت للعموم، لكان الاستثناء نقضا؛ على ما يسيأتي تقريره، إن شاء الله تعالى.
والجواب: أما النقض بجموع القله: فلا نسلم أنه يحسن استثناء أي عدد شئنا منه: مثلا لا يجوز أن يقول: " أكلت الأرغفة إلا ألف رغيف " وتوافقنا على أنه يجوز استثناء أي عدد شئنا من صيغة (من) في المجازاة؛ مثل أن يقول: " من دخل داري، أكرمته، إلا أهل البلدة الفلانية ".
قوله: " ينتقض بقوله: اصحب جمعا من الفقهاء إلا زيدا ".
قلنا: هب ان الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما لولاه، لصح دخوله فيه؛ فلم قلت: غن في سائر الصور كذلك؟
قوله: " يلزم أن تكون صيغة الأمر للتكرار ".
قلنا: لم لا يجوز أن يكون اقتران الاستثناء بلفظ الأمر قرينة دالة على دلالة الأمر على التكرار؟
قوله: " لا يحسن استثناء الملائكة واللصوص، وملك الهند وملك الصين ".
قلنا: لان المقصود من الاستثناء خروج المستثنى من الخطاب، وقد علم من دون الاستثناء خروج هذه الأشياء من الخطاب؛ ولهذا لو لم يعلم خروجها منه، لحسن الاستثناء.
ألا ترى أنه لو كان الخطاب صادرا عن الله تعالى، لحسن منه تعالى هذا الاستثناء؛ مثل أن يقول:" إني أطعم من خلقت إلا الملائكة، وانظر بعين الرحمة إلى جميع خلقي إلا الملوك المتكبرين ".
قوله: لم قلت: إنه يجب صحة دخول المستثنى تحت المستثنى منه؟
قلنا: لأن الإجماع منعقد على ذلك في استثناء الشيء من جنسه؛ فلا يتوجه جواز الاستثناء من غير الجنس.
ولأن الاستثناء مشتق من الثني، وهو: الصرف، وإنما يحتاج إلى الصرف، لو كان بحيث لولا الصارف لدخل.
قوله: " لم قلت: إنه لا فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر، ومن الجمع المعرف، غلا ما ذكرت؟ ".
قلنا: لأن الجمع المنكر هو: الذي يدل على جمع يصلح أن يتناول كل واحد من الأشخاص، فلو كان الجمع المعرف كذلك، لم يبق بين الأمرين فرق؛ وحينئذ لا يبقى بين الاستثناء من الجمعين فرق.
قوله: " حمل الاستثناء على الصحة أولى؛ لكونها أعم فائدة ".
قلنا: يعارضه أن حمله على الوجوب أولى؛ لأن الصحة جزء من الوجوب، فلو حملناه على الوجوب، لكنا قد افدنا به الصحة والوجوب معا.
ولو حملناه على الصحة وحدها، لم نفد به الوجوب أصلا، والجمع بين الدليلين بقدر الإمكان واجب.
قوله: " الاستثناء من الجمع المنكر ليس إلا لدفع الصحة ".
قلنا: هب أنه كذلك؛ فلم قلت: إن التناقض على الواضعين لا يجوز؟ ".
قلنا: لأن الأصل عدم التناقض على العقلاء؛ لاسيما، وقد قرر الله تعالى ذلك الوضع.
قوله: لو كانت الصيغة للعموم، لكان الاستثناء نقضا ".
قلنا: سيجيء الجواب عنه، إن شاء الله تعالى.
فهذا أقصى ما يمكن تمحله في هذه الطريقة.
الوجه الثالث: لما أنزل الله تعالى قوله: {إنكم وماتعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] قال ابن الزبعري: " لأخصمن محمدا " ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يامحمد، أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى؟ " فتمسك بعموم اللفظ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ حتى نزل قوله تعالى:{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101].
فإن قلت: السؤال كان خطأ؛ لأن (ما) لا تتناول العقلاء، قلت: لا نسلم؛ لقوله تعالى: {والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها} [الشمس: 5 - 7] والله أعلم.
الفصل الثاني
في أن (من) و (ما) في المجازة للعموم
قال القرافي: قد تقدم، ما سبب الاحتراز بقيد المجازاة، وما يرد بسببه من الأسئلة.
قوله: " يحسن استثناء كل واحد من العقلاء ".
قلت: الاستثناء اربعة أقسام: ما لولاه لعلم دخوله؛ كالاستثناء من الأعداد؛ نحو: " له على عشرة إلا اثنين " وما لولاه لظن دخوله، وهو
الاستثناء من العمومات؛ نحو " اقتلوا المشركين إلا زيدا " وما لولاه لجاز دخوله، وهو أربعة أقسام.
الاستثناء من المحال؛ نحو: " أكرم رجلا إلا زيدا وعمرا " فإن كل شخص، فهو محل لأعمه، ولا يتعين اندراجه فيه، ولا يظن.
وكذلك الاستثناء من الأزمنة، نحو:" صل إلا عند الزوال " ومن الأمكنة؛ نحو: " صل إلا عند المزبلة " ومن الأحوال؛ كقوله تعالى: {لتأتثني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف: 66].
وهذه الأربعة كلها ليس فيها إلا الجواز بغير ظن، وما لولاه لامتنع دخوله، وهو الاستثناء المنقطع؛ نحو:" رأيت إخوتك إلا ثوبا " فانقطع تقدم اندراج الثوب في الإخوة، وإذا كان الاستثناء أعم من كل واحد من هذه الأقسام الاربعة، امتنع الاستدلال به على الوجوب؛ فإن الخصم لا يعتقد فيه إلا الجواز في هذه الصورة.
قوله: " الفرق بين الاستثناء من المعرف والمنكر معلوم بالضرورة ".
قلنا: هذه الضرورة ليست في ذهن الخصم، بل الكل عنده سواء، سلمناه؛ لكن لم لا يجوز رجوع الفرق إلى قوه القرب؟ فإن الجائز على الشيء قد يكون في غاية البعد عنه؛ كالتعبير بالشيء عن لوازمه البعيدة، وقد يكون في غاية القرب؛ كالتعبير بالشيء عن اللوازم القيبة، فليس التعبير بالجزء عن الكل، كالتعبير بالكل عن الجزء؛ بل الثاني أقوى، وكذلك السبب أقرب في التعبير به عن المسبب من العكس، وهو كثير في اللغة.
قوله: " ينتقض دليلكم بجموع القلة، فإنه يصح استثناء كل واحد من أفراد ذلك الجنس عنها ".
تقريره: أن جموع القلة العشرة فما دونها لغة، وغنما تستعمل فيما زاد على ذلك مجازا، مع أنه يصح أن يقال:" رأيت المسلمين إلا زيدا وعمرا وخالدا، وهلم جرا إلى مائة، والعشرة " لا يجوز أن يخرج منها مائة مع أنه استثناء من الجنس، فلو أنه عبارة عما لولاه لوجب دخول المائة في العشرة؛ وهو محال.
وجوابه: ان جموع القلة إن أخذوها معرفة، فهي عندنا للعموم لا للعشرة، وغنما نقول: للتكثير حال القلة فقط، وإن أخذوها نكرة، فلا يلزم النقض؛ لأنا إنما ادعينا العموم ووجوب الاندراج في المستثنى - في المعرفة، ومن شرط النقض وجود غير ما ادعاه المستدل؛ فظهر أنه على التقديرين لا يلزم النقض.
قوله: " يصح ان يقال: اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا ".
قلنا: هذه مسالة اختلف النحاة فيها، فمنعها الشلوبين، وابو عمرو بن الحاجب وجماعة؛ وقالوا: لا يجوز الاستثناء من الجمع إذا كان معرفا، وجعلوا قوله:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] من هذا الباب.
وقالوا: إنما وجب الرفع في اسم (الله) لأنه استثنى من (آلهة) الذي هو جمع منكر، فلما تعدد الاستثناء، تعين أن يرفع على الصفة؛ فلذلك كان استثناء من موجب، وهو مرفوع.
ونص صاحب (التنقيحات) وغيره على جوازه؛ فللخصم أن يمنع على أحد القولين.
قوله: " الاستدلال بالمقدمتين المذكورتين، إنما يصح أن لو امتنعت المناقضة على الواضع ".
تقريره: أنه نقل عن العرب مقدمتين:
إحداهما: أنه يدخل في صيغة العموم
وثانيهما: أن الاستثناء عبارة عما لولاه، لوجب اندراجه، فقال السائل: لعل الواضع بعده، إن نقل عنه، غير وضعه؛ فجعل الاستثناء لا يدخل في صيغة العموم، وجعل الاستثناء عبارة عما لولاه، لامتنع فيما يتم؛ لأنهم يبنونه على أمور منسوخة، والبناء على المنسوخ باطل.
وجوابه: أن الأصل عدم الرجوع.
قوله: " لو ثبت أن اللغات توقيفية، امتنع ذلك ".
قلنا: لا نسلم أنه يمتنع؛ لأن الله سبحانة وتعالى إذا جاز عليه نسخ الشرائع والأحكام المتضمنة للمصالح العظيمة، ونقلها إلى أضدادها، جاز عليه نقل الأسماء والألفاظ عن موضوعاتها، لا سيما ووضع اللفظ المعين للمعنى ليس بينهما مناسبة، بل بمجرد الإرادة.
وأما في الأحكام: والإرادة والمصالح الكلية، فليس ذلك بمستحيل على الله تعالى، بل تجويزه على الله تعالى أقرب؛ لأن الله تعالى لا يقبح من فعله شيء في مادة الإمكان، واليسير يقبح منه عادة يبطل شيئا لغير غرض صحيح.
قوله: " لو كانت للعموم، لكان الاستثناء نقضا ".
تقريره: أن النقض عبارة عن وجود الدليل بدون المدلول، أو العلة بدون المعلول، أو الحد بدون المحدود، والألفاظ اللغوية كلها أدلة على مسمياتها، فإذا استثنى من صيغة العموم، يكون الدال على العموم قد وجد، وهو صيغة العموم، ولم يوجد العموم؛ لأنه ابطل بعضه بالاستثناء، فقد وجد الدليل بدون المدلول، وهو حقيقة البعض
قوله: " لا نسلم أنه يجوز استثناء أي عدد كان من جموع القلة؛ فلا يجوز أن يقال: أكلت الأرغفة إلا ألف رغيف ".
قلنا: هذا جائز على مذهبكم؛ لأن جموع القلة إذا تعرفت، صارت للعموم.
ويجوز استثناء أي عدد كان من صيغة العموم، وكل من قال: بأن اللام للعموم، جوز ذلك؛ فلا معنى لهذا المنع، بل لو أورد هذا الخصم بصيغة التنكير، أمكن اتجاه المنع مع ان فيه نظرا؛ لأنه إذا قال:" أكلت أرغفة إلا هذا الألف رغيف " صح؛ لأن قوله: (أرغفة): مدلوله لفظ كلي يتناول اثنين أو ثلاثة من الأرغفة بدلالته، ويصلح لغة للعشرة فما دونها، ولا يدل عليها، وعلى كل تقدير، فهذا المفهوم الكلي يصح أن يعين في هذه الألف وفي غيرها، فهذا الألف من بعض محالها، واستثناء بعض المحال من الكل قد تقدم الخلاف فيه؛ فإنه كالاستثناء عن التكرار حرفا بحرف، وهو أحد الأقسام الأربعة المذكورة في أقسام الاستثناء الذي هو عبارة: عما لولاه لجاز دخوله، هذا إذا قال: إلا هذه الألف رغيف.
وكذلك إذا قال: " إلا هذا الرغيف، وهذا الرغيف " ويكرر ذلك حتى يكمل ألف رغيف، فإنه يجوز على القول بجواز الاستثناء عن النكرات؛ لأن هذه الأفراد كلها محال لذلك الأمر الكلي والجزئي، فهو محل لأعمه، نعم إذا تكرر وقال:" أرغفة إلا ألفا " فهذا يمتنع بشرط أن يكون استعمل اللفظ في حقيقته، وهو ما دون العشرة؛ لأنه يصير معناه:" أكلت عشرة أو أقل إلا ألفا " وهذا ممتنع إجماعا؛ لأن استثناء أكثر من المدلول المساوي ممتنع إجماعا، فالأكثر أولى بالمنع، أما إن استعمل اللفظ في مجازه، وهو جمع الكثرة، جاز أن يستثنى ألفا وأكثر؛ لأن الذي استعمل اللفظ فيمن يصلح
لذلك: فإن جهل الحال، كان الاحتمال قائما؛ لأجل احتمال التجوز إلى جمع الكثرة، ولا يتعين المنع، فظهر أن المنع غير متجه مطلقا.
قوله: " لم لا يجوز أن يكون اقتران الاستثناء بصيغة الأمر قرينة دلالة الأمر على التكرار؟ ".
قلنا: الدلالة: فهم المعنى من اللفظ، وإذا لم يكن اللفظ موضوعا للتكرار لا يدل عليه، وإن احتفت به القرائن، غير أن القرينة إن اقتضت التكرار مع الصيغة، يكون الدال هو المجموع المركب من اللفظ والقرينة.
وأما الاستثناء فليس قرينة دالة على التكرار؛ لأن التكرار إثبات، والاستثناء نفي؛ لأنه يقتضي الإخراج، نعم: مقتضى الإخراج أن المتكلم أراد بالأمر التكرار، فهو دال على الإرادة، لا على الدلالة.
قوله: " إنما لم يحسن استثناء الملوك من الداخلين للدار؛ لأنهم قد علم خروجهم ".
يريد: بقرينة العادة؛ فإن القائل إذا قال: " من دخل داري، فأعطه درهما " يعلم بالعادة أنه لم يرد الملوك ونحوهم.
قوله: " الاستثناء مشتق من (الثنى) وهو: الصرف، وإنما يحتاج للصرف إذا كان يندرج ".
قلنا: أما قولكم: (الصرف) فليس مشتقا منه؛ لأن من شرط الاشتقاق استواء الصيغتين في الحروف الأصلية.
وأما قولكم: " إنما يصح إذا كان يتعين دخوله ".
فنقول: لم لا يكفي خروجه من الجواز؛ فبعده لا يجوز المراد به.
قوله: " الجمع المنكر: هو الذي يدل على جمع يصلح أن يتناول كل واحد من الأشخاص ".
تقريره: أن قولنا: (رجال) يدل على ثلاثة رجال يصلح أن يدخل في هذه الثلاثة كل فرد فرد من الرجال على البدل، لا على الجمع؛ كالمطلقات كلها.
قوله: " فلو كان المعرف كذلك، لم يبق بين المنكر والمعرف فرق ".
قلنا: قد تقدم بيان الفرق بينهما؛ على تقدير عدم العموم.
قوله: " الصحة جزء من الوجوب ".
تقريره: أن كل ما وجب وتعين دخوله في الوجود، جاز دخوله في الوجود، إذا فسرنا الجواز بالإمكان العام، وقد تقدم الفرق بين الإمكان العام والخاص، في تفسير الحسن أول الكتاب، وكذلك في الشرعيات: كل ما وجب فعله، جاز الإقدام عليه.
أما الجواز المفسر بالإمكان الخاص، فلا يتعين، فتأمله هنالك؛ لأن في تكريره طولا، والإمكان العام هو المراد هاهنا، غير أن قوله (جزء) لا يتعين صحته؛ لاحتمال أن يقال: نحن نسلم أنه يلزم من صدق الوجوب صدق الجواز، لكن صدق الشيء مع الشيء أعم من كونه جزءه أو لازمه؛ فلم قلتم: إن الجواز جزء؟ فلم لا يجوز أن يكون لازما؟
ومقصود المصنف حاصل على التقديرين، غير أن المناقشة في العبارة.
قوله: " فلو جعلناه للصحة وحدها، لم يفد الوجوب أصلا ".
تقريره: أن الكل دال على الجزء أو اللازم؛ لأنه يدل على الأول تضمنا، وعلى الثاني التزاما، والدال على الجزء واللازم لا يدل على الكل ولا اللزوم؛ لأن الجزء (و) اللازم قد يكونا أعم؛ كالخمسة مع العشرة؛ لوجودها معها وبدونها، وقد يكون مساويا؛ كالناطق مع الإنسان، وكل
فصل مع نوعه، واللازم قد يكون أعم؛ كالزوجية مع العشرة، وقد يكون مساويا كالناطق مع الإنسان، والأعم لا يستلزم الأخص، وكل واحد منهما أعم من كونه أعم؛ فلا يدري السامع من أي السبيلين هو؛ فلا يحصل له الفهم.
قوله: " والجمع بين الدليلين بقدر الإمكان واجب ".
تقريره: أن الدليل، إذا دل على أنه للصحة، ودل دليل آخر على أنه للوجوب، فإذا جعلناه للوجوب، كان دالا على الامرين؛ لاستلزام الوجوب الصحة، فقد علمنا بالدليلين مع أنه قد تقدم أن الاستثناء أربعة أقسام، آخرها الصحة وحدها، وهي أربعة أقسام.
قوله: " الأصل في عدم التناقض، لاسيما وقد قرر الله تعالى ذلك الوضع ".
تقريره: أن الله تعالى وضع الكتاب العزيز وأنه عربي، وورد فيه الاستثناء عن الجموع في قوله تعالى:{إلا الذين تابوا} [المائدة: 34] وورود بوجوب ما لم يرد فيه استثناء مع قوبله؛ كما في قوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] فكل فريق من المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛ اتفاقا مع صحة استثنائه، وإذا ورد الكتاب العزيز بذلك الوضع، كان تقريرا له.
قوله: " سيجيء الجواب عن كون الاستثناء نقضا ".
قلنا: ليس له بعد هذا، إلا أن الاستثناء مع المستثنى منه؛ كاللفظة الواحدة الموضوعة لما بقى بعد الاستثناء.
فإذا قلت: " له عندي عشرة إلا اثنين " نقول: للثمانية عبارتان: ثمانية، وعشرة إلا اثنين؛ ولذلك صرح به الحنفية في كتبهم، وقالوا: " الاستثناء