الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن لم يكن واجبًا، لم يكن ذلك استدلالًا يقينيًا؛ لأنّا إذا استدللنا بدليل مركب من مقدمات، ولم يكن المطلوب واجب اللزوم عن تلك المقدمات كان اعتقاد وجود ذلك المطلوب في هذه الحالة اعتقادًا تقليديًا، لا يقينيًا.
وإذا كان ذلك واجبًا فنقول: قبل حصول تلك المقدمات البديهية، امتنع حصول هذه القضايا الاستدلالية، وعند حصول تلك البديهيات، يجب حصول هذه الاستدلاليات؛ فإذن هذه الاستدلاليات في جانبي النفي والإثبات لا تكون باختيار المكلف.
وإذا ثبت هذا، ثبت أن التكليف بها تكليف بما ليس في الوسع؛ فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذه المسألة وبالله التوفيق.
النظر الثاني من القسم الثاني
قال القرافي: قوله: "يجوز ورود الأمر بما لا يقدر المكلف عليه"
قلنا: هذه العبارة لم تحرر محل النزاع؛ لأن بما لا يقدر المكلف عليه قد يكون معجوزًا عنه متعذرُا عادةً لا عقلًا، كالطيران في الهواء؛ فإنه متعذر عادة ممكن عقلًا، وقد يكون متعذرًا عقلًا، ممكنًا عادة، كمن علم الله تعالى عدم إيمانه؛ فإنه يستحيل وقوع الإيمان منه عقلًا لاستحالة خلاف المعلوم، وإذا سئل أهل العادة عنه قالوا: يمكنه الإيمان، وكذلك جميع الطاعات المقدر عدمها، وقد يكون متعذرًا عقلًا وعادةً، كالجمع بين السواد والبياض.
فمحل النزاع إنما هو من حيث يتعذر الفعل عادة كان معه التعذر العقلي أم لا؟
وهو قسمان: المتعذر عادة فقط، والمتعذر عادة وعقلًا، أما المتعذر عقلًا فقط، فلا خلاف فيه وننبهك على ذلك أن المعتزلة من أبعد الناس عن التكليف المتعذر؛ لقولهم: بالحسن والقبح، ومع ذلك فقد أجمعوا معنا على أمور:
منها: أن الله تعالى كلف الثقلين أجمعين بالإيمان.
ومنها: ان الله تعالى علم أن أكثرهم لا يؤمنون، وأخبر عنهم بذلك بقوله تعالى:{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ] يوسف: 103 [.
ومنها: أن خلاف المعلوم محال وقوعه عقلًا، ومع تسليمهم بهذه المقدمات، فقد قالوا بوقوع: تكليف ما لا يطاق عقلًا جزمًا.
وإنما ينازعوننا في المتعذر عادة، كيف كان متعذرًا عقلًا أم لا؟ هذا تلخيص محل النزاع، وبه يظهر لك بطلان أكثر ما وقع في المسألة من الأدلة.
وجوزها سيف الدين أكثر من الإمام فقال: اختلف قول أبي الحسن الأشعري في جواز تكليف ما لا يطاق نفيًا وإثباتًا كالجمع بين الضدين، وقلب الأجناس، وإيجاد القديم وإعدامه، ونحوه، وأكثر أقواله الجواز.
وقال بعض معتزلة (بغداد): يجوز تكليف العبد بما علم الله تعالى أنه يكون ممنوعًا عنه.
وقالت الكرامية: الختم على القلب والطبع مانعان من التكليف.
وقال بعض الأشعرية بوقوع تكليف ما لا يطاق نفيًا وإثباتًا، ووافقه على النفي بعض المعتزلة البغداديين، قال: وأجمع الكل على جواز التكليف مما علم الله تعالى أنه لا يكون، وعلى وقوعه شرعًا، كالتكليف بالإيمان لمن علم الله تعالى أنه لا يؤمن خلافًا لبعض المعتزلة.
والمختار: إنما هو امتناع المستحيل لذاته، كاجتماع الضدين، وجوازه في المستحيل لغيره، وإليه مال الغزالي.
وهذا تلخيص حسن، وصرح بالنفي والإثبات، وما اتفق عليه من غيره، ونعني بالإثبات نحو (تحرك)، و (اسكن)، وبالنفي نحو (لا تتحرك)، و (لا تسكن) في كل ضدين لا ثالث لهما، وكذلك مثله الإمام والغزالي.
وصرح الغزالي وغيره: بأن المراد قلب الأجناس ونحوه من المستحيل العادي.
قوله: "إيمان الكافر يفضي إلى انقلاب العلم جهلًا؛ لأن العلم يتعلق بالشيء المعلوم إلى آخره".
تقريره: أن علم الله تعالى بعصيان (زيد) بترك الإيمان فرع تقرر عصيانه بترك الإيمان؛ لأن العلم والخبر تابعان لتقرير متعلقهما في (فواته) ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا، وعصيانه بترك الإيمان فرع الأمر بالإيمان، فيكون العلم بعدم الإيمان فرع الأمر بمراتب الإيمان، ويكون الأمر شرطًا في تعلق ذلك العلم، وأصل الشيء وشرطه لا ينافيه، وإذا كان العلم تابعًا، فأي شيء فرض مقررًا عليه تبعه العلم في ذلك.
قوله: "لو انقلب الإيمان واجبًا لكان العلم مؤثرًا في المعلوم".
قلنا: التأثير غير لازم؛ لأنا ندعي أن العلم يلزم لذاته امتناع خلاف ما تعلق به، واللازم قد يكون أثرًا؛ لأن العرض لازم للجوهر، وليس مؤثرًا فيه، والعلم لازم للإرادة، وليست مؤثرة فيه، وهو كثير في كل شرط مع مشروطه، وغير ذلك، وإذا كان اللزوم أعم من التأثير، فمن ادعى اللزوم لا يلزمه التأثير، بل هذا لازم للعلم لذاته، غير معلل، كسائر خصائص الحقائق.
قوله: "إن كان العلم سبب الوجوب لزم أن يكون قدرة".
قلنا: لا نسلم أن الوجوب هاهنا يقتضي أن يكون العلم قدرة؛ لأن الوجوب لازم عام للقدرة، والعلم والإرادة، وغيرها، غير أن وجوب الشيء بالعلم معناه أن الله تعالى قدر وجود الشيء بقدرته وإرادته، فعلمه كذلك تبعًا لوقوعه بالقدرة، ويستحيل إذا علم كذلك ألا يقع كذلك؛ لأن ذلك من خصائص العلم استحالة انقلابه جهلًا، بل هذه الحقيقة ثابتة لكل حقيقة؛ فإن انقلاب الحقائق محال في كل حقيقة، ووجود الشيء بالقدرة معناه: أن القادر استجمع لكل ما لابد منه في التأثير، وأثرت فيه القدرة،
وجعلت له الوجود، ونقلته من جهة العدم، فيلزم من ذلك الوجوب، والوجوب من الإرادة معناه: أن الله تعالى أراده في الزمن المعين موجودًا بالقدرة، فيستحيل ألا يكون كذلك، فالوجوب بالعلم لتعذر الانقلاب، والوجوب بالقدرة للتأثير والاستجماع، والوجوب بالإرادة لاستحالة عدم نفوذ الإرادة القديمة، فصار الوجوب لازمًا أعم الأسباب، خاصة في كل واحد من هذه، فلا يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر.
قوله: "يلزم أن تكون التكاليف كلها من باب تكليف ما لا يطاق، لأجل العلم؛ لأن المعلوم الوجوب يصير واجب الوقوع، والواجب لا يصح التكليف به إلا بتكليف ما لا يطاق، ومعلوم العدم يستحيل وجوده، فالتكليف به تكليف بما لا يطاق".
قلنا: تعلق العلم بوجود الطاعة من زيد فرع أمره بالطاعة، وفرع تقدير الله تعالى له الطاعة، فالأمر شرط وأصل لتعلق العلم فلا ينافيه، كما تقدم بسطه.
قوله: "النص كقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}] البقرة: 286 [".
تقريره: أن ذكر ذلك في سياق الامتنان يدل على إمكان ضده؛ إذ المتعين للوقوع لا يحسن به الامتنان.
فإن قلت: يشكل عليك بقوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} ] فصلت: 46 [مع أن سبب الظلم معين.
قلت: هذا من باب التمدح وهو سلب النقائض المستحيلة، بخلاف الامتنان، فهما بابان لا باب واحد.
قوله:"كل متميز ثابت":
قلنا: أي شيء تريد بالثابت؟ إن أردت في الخارج فممنوع، وإن أردت ثبوته في الذهن والعلم من حيث بالجملة، فلم قلت: إن ذلك يأباه المستحيل؟
قوله: " إذا جوزتم التكليف بالمحال، فجوزوا تكليف الجمادات، وإرسال المرسل إليها ":
قلنا: ذلك لا يتصور عقلاً، والتكليف بالمحال متصور عقلاً، أما عدم تصور الأول فلأن التكليف يرجع إلى النعيم في الطاعة، والعقوبة في المعصية، وذلك إنما يتصور في الحي المدرك، وغير المدرك لا يتصور منه لذة، ولا ألم، ولا أن يخير في شيء بفعله أو بتركه، وأما تصور التكليف بما لا يطاق؛ فلأن معناه أنه يعاقبه؛ لأن المأمور به يتعذر الحصول، ومعاقبة الحي متصورة عقلاً، وإنما تحيلونه أنتم لقاعدة الحسن والقبح، ونحن لا نقول بها، فلم يبق منه مانع عقلي، فظهر الفرق بين البابين.
قوله في الجواب: " وقوع العلم في الأزل يمنع من حصول ضد المعلوم ".
قلنا: قد تقدم أن تعلق العلم تابع للأمر فلا ينافيه، ثم إن هذا مانع عقلي، فلا نزاع فيه.
قوله: " تغيير الشيء في الماضي محال ".
تقريره: أن الماضي تعين فيه أحد النقيضين الوجود أو العدم، وكذلك الحاضر ورفع الواقع محال، وأما الأزمنة المستقبلة فقابلة للوجود والعدم كل واحد منها بدلاً عن الآخر لعدم التعين، فلا جرم لم يصح تعلق الأوامر إلا بالمستقبل.
قوله: " اللازم عن تعليلنا حصول الوجوب عند تعلق العلم، أما أن ذلك الوجوب به أو بغيره فغير لازم ".
قلنا: هذه عبارة توهم تأثير العلم؛ لأن لفظه الباقي قولك: " به أو بغيره " للسببية، فكأنكم التزمتم السببية، ورددتموها بين العلم وغيره، وليس كذلك، بل المتجه أن تقولوا: أما أن ذلك الوجود بتأثير فلا كما تقدم بيانه أن اللزوم أعم من التأثير.
قوله: " تعلق العلم به على الوجه المخصوص يكشف عن أن قدرته وإرادته تعالى تعلقنا به على ذلك الوجه ".
قلنا: قولكم: " العلم يكشف " غير متجه، بل العلم مكشوف لا كاشف، إنما الكاشف الواقع فينظر العقل في الواقع، فإن عصى زيد علم أن علم الله تعالى وإرادته وقدرته تعلقت بذلك، وأن من قال: تعلق العلم بإيمانه، فصار الواقع هو الذي يكشف عن تعلق العلم وغيره والصفات مدولة ومكشوفة، أما دالة كاشفة فلا.
قوله: " لما قلت: إن الجبر الناشيء عن تعلق علم الله تعالى محال ".
تقريره: أن الجبر له تفسيران.
أحدهما: مذهبنا وهو كون العبد مقهوراً من حيث تعلق الصفات الربانية بفعل العبد لا من جهة نفسه، ولا من جهة ذات الفعل.
وثانيهما: أن الجبر معناه: أن حركات الحيوانات وتحركات الأشجار لا اختيار لها فيها، ولا كسب عادي، وهو مذهب الجبرية المشهور بذلك، ونحن لا نقول به، بل نقول: تعلق الصفات الربانية بفعل العبد، منها ما هو تابع لكونه يفعل أو يترك وهو العلم والخبر، ومنها متبوع وهو الإرادة، وعلى كل تقدير الفعل في مجرى العادات ومكتسب.
قوله: " المختار: أن العلم ليس سبباً للوجوب، لكنه يكشف عن سبب الوجوب ".
قلنا: هاهنا مناقشتان:
أحدهما: قولكم: " المختار "؛ فإنه يشعر أن بين العقلاء اختلافا في ذلك، وليس كذلك فيما علمت، وكيف يتصور أن يجوّز عاقل إنقلاب العلم جهلاً وإنقلاب الحقائق مطلقاً محال.
وثانيهما: قولكم: إنه يكشف عن الوجوب؛ فإنه قد تقدم أن العلم لا يكشف إلا المعلوم للعالم به، فعلم الله تعالى يكشف له معلوماً لا لنا، بل الذي يكشف لنا علمه تعالى هو الواقع - كما تقدم - فالعلم لا يكون كاشفاً إلا المعلوم للعالم خاصة.
قوله: " إذا أمر بإدخال الإيمان في الوجود حالة حصول العلم بعدم الإيمان، فقد كلفه الجمع بين الضدين ".
قلنا: لا نسلم أنه كلفه الجمع بين الضدين، بل علم الله تعالى مانع من أحد الضدين، والأمر طالب للضد الآخر، فيبقى ذلك كالسيد إذا أمر عبده بالحركة، ومنعه منها؛ فإن العقلاء لا يقولون: إنه كلفه بالضدين، بل كلفه بأحدهما فقط ومنعه منه، وفرق بين أن يكون متعلقه الضدين، وبين أن يكون متعلقه أحدهما فقط، ويمنعه منه كذلك، وإن كان مستدركاً لا يكون من جهة التكليف بالمحال، بل من جهة كون سبب العصيان كان من قبل السيد أنه منعه كما لو أمره بالسفر، ومنعه منه بعد ذلك لا يقول أحد: إنه كلفه بغير مقدور، بل مقدور، والسيد بسبب عوقه عن الطاعة.
قوله: " الآية معارضة بقوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286].
تقريره: أنهم سألوا رفعه، وسؤال رفعه فرع إمكانه في نفسه؛ لأن الدعاء بما لا يقع محرم شرعاً، والمحرم شرعاً لا يمدحون به، وهذه الآية وردت في سياق المدح.
قوله: " لو لم يكن المحال متصوراً لامتنع الحكم عليه بالامتناع ".
قلنا: تعارض في هذا المقام قاعدتان:
إحداهما: أن المحكوم عليه لا بد أن يكون متصوراً.
وثانيهما: أن المحال في الخارج محال في الذهن، ولا يمكن تصوره، فلا يتمكن العقل أن يتصور ثوباً في غاية السواد وهو أبيض في غاية البياض، فتصوره على هذه الصفة مستحيل، وكذلك العدم نفي محض في الخارج، وما كان نفياً محضاً امتنع أن يكون له ثبوت في الذهن، فلا يتصور الذهن إلا موجوداً، والقاعدتان ضروريتان، ولا سبيل إلى إهمال إحداهما، وهما متناقضتان كما ترى.
وكان الشيخ شمس الدين الخسروشاهي: يورد هذا لسؤال بين هاتين القاعدتين.
ويجيب عنه: أن المحال يستحيل تصوره باعتبارذاته، ويمكن تصوره باعتبار بسائطه، فالجمع بين السواد والبياض متصور باعتبار أنا نتصور السواد على حدة، والبياض على حدة، ومطلق الجمع على حدة، وهذه بسائطه.
ونقول: للعقل حصول مطلق الجمع لهذين محال، وكذلك يتصور مطلق الشريك وصانع العالم من حيث هو صانع، ومطلق الشركة.
ونقول: حصول مطلق الشركة بين هذين محال، وكذلك جميع المحالات إنما نتصورها من جهة بسائطها، وإنما العدم الصرف الذي لا تركيب فيه، فإنما يتصور من جهة مقابله الذي هو الوجود، فيتصور الوجود.
ونقول: مقابل هذا الوجود ممكن وسابق عليه، ولا حق له، وممتنع الوقوع، ونقيضه، إلى غير ذلك مما يحكم به على العدم، ومتى تصور الشيء من جهة بسائطه، أو من جهة مقابله، فقد تصور من وجه من
وجوهه، والحكم على الشيء لا يقتضي أن يكون متصوراً على التفصيل، بل يكفي وجه، فاجتمعت القاعدتان حينئذ، وصدق على المستحيل أنه متصور باعتبار بسائطه، وغير متصور باعتبار ذاته.
قوله: " أخبر عن قوم أنهم لا يؤمنون ".
قلنا: المانع حينئذ عقلي، ولا نزاع فيه.
قوله: " انقلاب الخبر غير مطابق محال؛ إما للجهل أو للحاجة على قول المعتزلة، أو لنفسه كما هو مذهبنا ":
تقريره: أما الجهل فلأنه الغالب على إخبارات البشر، إنما يقع كذباً لعدم العلم بالواقع، فهو جهل مركب.
والمعتزلة يقولون: ذلك محال على الله تعالى لأن الكذب في العادة إنما يكون للحاجة، وكذلك قبح الكذب من الملوك أكثر لعدم الحاجة، والحاجة على الله تعالى محال، فغير المطابق على الله تعالى محال.
ومذهبنا: أن هذا من باب المستحيلات لذاتها لا من المستحيلات لغيرها، والمستحيل لذاتها لا تعلل كالجمع بين النقيضين، والضدين، وغير ذلك.
وعند المعتزلة: هو من المستحيلات لغيرها لوجود ما علم الله تعالى عدمه.
قوله: " أخبر الله تعالى عن أبي لهب أنه لا يؤمن مع تكليفه بالإيمان ".
قلنا: لا نسلم أن الله تعالى أخبر عنه بأنه لا يؤمن، وإنما نتوهم ذلك في موضعين:
أحدهما: قوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب
…
الآية} [المسد: 1].
وثانيهما: قوله تعالى {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] ولا مستند فيهما:
أما الأول: فلأن " التب " هو الخسران، وقد يخسر الإنسان، ويدخل النار وهو مؤمن بسبب معاصيه، فلا ينافي الآية الإيمان، أما الآية الأخرى فقد دخلها التخصيص اتفاقاً، وآمن بعض من كان قد كفر قبل نزول هذه الآية، فإن قلنا: العام المخصوص ليس حجة، فلا كلام.
وإن قلنا: هو حجة فأبو لهب يجوز أن تكون الآية مخصوصة به أيضاً، وإنما الظاهر يتناوله، والوعيد القاطع لحثه على الإيمان، وإذا اجتمع الظاهر والقاطع قدم القاطع، فيؤمن ضرورة.
سلمنا دليلكم، لكن هذه مقدمات نظرية يجوز خلو ذهن أبي لهب عنها، فلا يكون ذلك مانعاً له من الإيمان عادة.
قوله: " صار مكلفاً بأن يؤمن، بأنه لا يؤمن ".
قلنا: لا نسلم أنه مكلف بأن يؤمن، بأنه لا يؤمن، وإنما يلزم ذلك أن لو كلف بجعل الخبر صادقا ً، وفرق بين التكليف بالتصديق، وبين جعل الخبر صادقا ً، فإن جعل الخبر صادقاً هو وقوع المخبر عنه، وذلك غير لازم في التكليف بالتصديق، ألا ترى إذا أخبرك أحد أن زيداً سيدخل الدار فإنك تصدق الآن بذلك، وتخرج عن العهدة، وأما أنك مكلف بأن يدخل زيد الدار حتى يصير الخبر صادقا حتى يسعى في عدم إيمانه، إنما هو يصدق الخبر فقط.
وكذلك نقول في جميع الكفار الذين لم يؤمنوا: إنهم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون وكلفوا بتصديق ذلك الخبر، ومع ذلك لم يقل
أحد: إنهم كلفوا بأن يكفروا حتى يصير ذلك الخبر صادقا، فمتعلق التكليف إنما هو الإيمان فقط، أما عدمه فلا يلزم التكليف به، وإن كلف بالتصديق بالخبر الدال عليه، فبطل قولهم: إنه مكلف بأنه لا يؤمن؛ لأن هذا إشارة إلى التكليف بجعل الخبر صادقا لا بتصديق الخبر، فما تعلق التكليف بالمحال.
قوله: " الفعل يتوقف على داعية غير مخلوقة للعبد ".
قلنا: هذا الدليل إلى آخره تقدمت الأسئلة عليه في مسألة الحسن والقبح.
قوله: "وإن كانت الداعية غير مخلوقة للعبد لزم الجبر ".
قلنا: هذا يقتضي أنه غير مطاق عقلاً، ولا نزاع فيه بل في المتعذر العادي، وكذلك نسلم أن التكاليف كلها غير مقدورة عقلاً وهي مقدورة عادة، وذلك كافٍ في حسن التكليف بالاتفاق كما تقدم تقريره عن المعتزلة وغيرهم.
قوله: " إن توجه التكليف حالة إستواء الداعي كان تكليفاً بتحصيل الرجحان عند حصول الاستواء ".
قلنا: ومن ورود التكليف لا يطلب فيه الفعل البتة، بل في الزمان الذي يليه، فيما بعده من الأزمنة المستقبلة، والأزمنة المستقبلة لم تعين لوقوع التساوي، ولا الراجحة ولا المرجوحة، بل المكلف مأمور في زمان ورود الأمر أن يحصل في الزمان المستقبل الرجحان في زمان لم يتعين فيه ما يضاده، ولا يمنعه، وحينئذ نختار أنه ورد حالة التساوي بالترجيح في المستقبل، ولا يلزم محال حالة الرجحان، ولا يلزم تحصيل الحاصل، ولا الجمع بين المثلين؛ لأنه أمر في وقت الرجحان أن يحصل مثله في الزمن المستقبل.
وحينئذ لا محال، وتتوجه حالة المرجوحية، وتكلف بأن يحصل الرجحان.
في الزمن المستقبل بدلا عن هذه المرجوحية، فعلى كل تقدير لا محال البتة، فاندفعت النكتة.
قوله: " إذا استحال إسناده إلى غيره استحال إسناده إلى فعل فاعل ".
قلنا: لا نسلم؛ لجواز أن يكون استحالة إسناده إلى غيره؛ ولأجل استجماعه هو لكل ما لا بد منه في التأثير فيه، وحينئذ يكون وقوعه هو سبب وجوبه، وإستحالة صدوره عن غيره، فبطل قولكم: إنه يستحيل إسناده إلى فعل فاعل، بل هو مستند إلى فاعل، وهو فاعله المستجمع، إسناده إلى فعل فاعل، بل هو مستند إلى فاعل، وهو فاعله المستجمع، ولا يكون فاعله مكلفا بما لا يطاق؛ لأنه وجب وتعين للوقوع بسبب قدرته وإرادته، واختياره وداعيته، فلا ينافي ذلك مدحه أو ذمه عليه.
قوله: " لو كانت أفعال العبد مخلوقة له لكان عالما بها ".
تقريره: أن العبد فاعل، مختار، والفاعل المختار إنما يؤثر بواسطة القصد والاختيار، والقصد بما لا شعور به محال، فتعين أن غير العالم غير مؤثر، وأن كل مؤثر بالإختيار فهو عالم.
قوله: " إن كان اختيار العبد من الله تعالى كان العبد مضطرا في ذلك الاختيار ".
قلنا: هو مضطر في أنه لابد أن يصير مريدا؛ فإنه إذا خلق الله تعالى الإرادة في نفسه استحال ألا يكون مريدًا، واضطراره لكونه مريدا لا يقدح ذلك في أنه مريد، ومتى كان مريدا كان الفعل واقعا باختياره وإرادته، فلم يكن ذلك متعذرا في العادة، فلا ينافي التكليف، ولا يكون في محل النزاع، إنما النزاع في المتعذر عادة.
قوله: " القدرة لا توجد قبل الفعل؛ لأن القدرة صفة متعلقة، والصفة المتعلقة لا توجد غير متعلقة ".
قلنا: لا نسلم، بل الصفات المتعلقة قسمان:
منها ما لا يوجد غير متعلق بالفعل كالعلم. والإرادة، والسمع،
والبصر، والأمر، والخبر، والطلب، والاستخبار، ونحو ذلك من أنواع الكلام وغيرها.
أما القدرة: فلها تعلقان: تعلق صلاحية، وتعلق بالفعل.
فكل صحيح المزاج كامل القدرة يجد في نفسه صلاحية القيام، وإن لم يوجد القيام، وكذلك قدرة الله تعالى في الأزل موجودة، والعالم غير موجود، ولها صلاحية التعلق فيما لا يزال، ولما أوجد الله تعالى العالم تعلقت به بالفعل.
وأما علمه تعالى، وجميع الصفات المتقدمة، فكانت متعلقة بالفعل في الأزل، والعلم بالمعلومات، والطلب بالأفعال والتروك على تقدير الوجود، والإرادة خصصت في الأزل كل ممكن زمانه وهيئاته، وسمعه تعالى بكلامه النفساني، وخبره تعالى بذاته، وصفاته العلى، فكل صفة لها صلاحية التعلق فهي متعلقة بالفعل دائما في الشاهد والغائب إلا القدرة؛ فإنها قد تنفك عن تعلق الفعل، وتنفرد بتعلق الصلاحية، وإنما الأصحاب قرروا هذه المقدمة بطريق آخر، فقالوا: قدرة العبد عرض، والعرض لا يبقي زمانين، فلو وقعت قبل الفعل لم تكن مؤثرة لعدم بقائها لزمن الفعل، فتعين أن تكون مقارنة.
ثم هذه النكتة على تسليمها لا تفيد شيئاً؛ لأن الأمر موجود قبل الفعل - مسلم، ولكنه لم يطلب منه الفعل في زمن الأمر، بل في المستقبل بعده، وذلك الزمان فيه القدرة، فما لزم من تقدم الأمر تكليف بغير مقدور، بل بمقدور؛ لأن الأوامر لا تتعلق إلا بالازمنة المستقبلة.
قوله: " لو تعلقت قدرة العبد بالفعل حالة وجوده لزم تحصيل الحاصل ".
قلنا: لا نسلم، بل القدرة في الشاهد والغائب إنما تتعلق حالة الوجود،
ولا يلزم تحصيل الحاصل، ولا إيجاد الموجود؛ لأن التأثير إنما يكون في زمان الحدوث، وزمان الحدوث هو أول أزمنة الوجود، وأول أزمنة الوجود الأثر فيه موجود، فما أثرت القدرة إلا في موجود، بل نقول: لا يوجد إلا موجود، أما المعدوم فلو وجد اجتمع النقيضان، وإنما يكون إيجاد الموجود محالا إذا تعدد الزمان، فيتقدم الموجود في زمان.
ثم يقال له في الزمان الثاني: أوجده في الزمان الأول، فهذا إيجاد الموجود، وتحصيل الحاصل.
أما إذا قيل أوجد الموجود في الزمان الأول في الزمان الثاني، فليس محالا؛ لأنه يصير معناه صير الوجود الأول مقترنا بالزمان الثاني، كما كان مقترنا بالزمان الأول، وهذا ممكن لا مستحيل.
وكذلك إذا قيل له: أوجد هذا الأثر في زمن حدوثه ليس محالا، بل لا يتصور الإيجاد عقلا إلا كذلك.
قوله: " إن توجه الأمر بمعرفة الله تعالى على العارف بالله تعالى لزم تحصيل الحاصل، واجتماع المثلين ".
تقريره: أن المعرفة المأمور بها، إما أن تكون غير المعرفة الأولى، أو مثلها.
والأول: هو تحصيل الحاصل.
والثاني: اجتماع المثلين.
ويرد عليه: أن العارف بالله تعالى قد يكون عارفا بالله على سبيل الإجمال، فيؤمر بتحصيل المعرفة على سبيل التفصيل، فكان الوجه المعلوم ثانيا غير الوجه المعلوم أولاً.
قوله: " إذا لم يكن عارفا بالله تعالى استحال أن يكون عارفا بأن الله تعالى أمره بشيء "
قلنا: لا نسلم؛ فإنه يكفي في أنه يعلم أن الله تعالى أمره بالعرفان من وجه ولو قل، فلو جاءنا رسول من خلف جبل وقال: إن خلف هذا الجبل ملكا عظيما يأمركم بالقيام إليه، أمكننا حينئذ أن نعلم ثم ملكا قيل عنه: إنه أمر بذلك، ونفحص عن صدق الرسول، ولم نعلم حينئذ إلا قول المبلغ عنه فقط، وإذا كان مثل هذا الوجه كافيا في السعي في المعرفة، فالأقل منه يوجد في حق الله تعالى.
قوله: " الوجه المشعور به يستحيل طلبه لكونه مشعوراً به، وغير المشعور به يستحيل طلبه لكونه غير مشعور به ".
قلنا: الوجهان في الحقيقة الواحدة هي موضع الجواب، وبينها وبين الحقيقتين فرق ظاهر؛ لأن بين الوجهين في الحقيقة تلازما يبعث على الإنتقال من المعلوم للمجهول، بخلاف الحقيقتين المتباينتين.
ويوضح ذلك أنه إذا علمنا في المدينة رجلا عالما يستحيل الفحص عنه؛ لأنا عرفناه وإن دخل المدينة رجل عالم، ولم يشعر به البتة استحال منا طلبه، لعدم الشعور به، فهاتان حقيقتان متباينتان.
وأما لو أخبرنا مخبر أن رجلا عالما وصل المدينة فقد عرفناه من وجه، وهو كونه مخبرا عنه بذلك الخبر، فبعثنا ذلك على تعرف بقية أوصافه؛ لأن بين هذا الوجه المعلوم وبين تلك الوجوه المجهولة ملازمة باجتماعهما في ذات ذلك العالم، والمعلوم منهما أشعر بأن ثم أوصافا مجهولة ينبغي طلبها، فحصلت الملازمة والشعور بأن ثم مجهولاً ينبغي طلبه، فتعين طلبه.
قوله: " إن لم يلزم مجرد تلك التصورات لزم بعضها لبعض، فهي تقليد به ".