الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ولاية مصعب بن الزبير البصرة ومسيره إلى الكوفة وقتاله المختار وقتل المختار بن أبى عبيد
كانت ولايته البصرة وعزل الحارث بن أبى ربيعة الملقّب بالقباع عنها فى أول سنة (67 هـ) سبع وستّين، قال: فقدمها مصعب، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال «1» : بسم الله الرّحمن الرّحيم. طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
، وأشار بيده نحو الشام، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
، وأشار نحو الحجاز، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
، وأشار نحو الشام، وقال:
يأهل البصرة، بلغنى أنّكم تلقّبون أميركم، وقد لقّبت «2» نفسى الجزّار.
قال: ولما هرب أشراف الكوفة من المختار يوم وقعة السّبيع، أتى جماعة منهم إلى مصعب، فكان منهم شبت بن ربعىّ، أتاه على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها، وشقّ قباءه وهو ينادى:
واغوثاه! وأتاه أشراف الكوفة فدخلوا عليه وسألوه المسير إلى المختار ونصرتهم، وقدم محمد بن الأشعث، واستحثّه على المسير فأدناه وأكرمه، وكتب إلى المهّلب بن أبى صفرة، وهو عامله على فارس يستدعيه ليشهد معهم قتال المختار، فقدم فى جموع كثيرة وأموال عظيمة، فبرز مصعب بالجيوش، وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة، وأمره أن يخرج إليه من قدر عليه، ويثبط الناس عن المختار، ويدعوهم إلى بيعة ابن الزبير سرّا، فسار ودخل الكوفة مستترا، وفعل ما أمره، وسار مصعب وقدم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطىّ «1» التميمىّ، وجعل عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، والمهلّب على ميسرته، ومالك بن مسمع على بكر، ومالك بن المنذر على عبد القيس، والأحنف بن قيس على تميم، وزياد بن عمرو العتكىّ على الأزد، وقيس بن الهيثم على أهل العالية، وبلغ الخبر المختار فقام فى أصحابه فندبهم إلى الخروج مع أحمر بن شميط، ودعا رءوس الأرباع الّذين كانوا مع ابن الأشتر فبعثهم مع ابن شميط، فسار وعلى مقدّمته ابن كامل الشاكرىّ، فوصلوا إلى المذار «2» ، وأقبل مصعب فعسكر بالقرب منه، وعبّأ كلّ واحد منهما جنده، فتقدّم عباد بن الحصين إلى أحمر وأصحابه، وقال: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، فقال الآخرون: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله وإلى بيعة المختار، وأن نجعل هذا الأمر شورى فى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فرجع عبّاد وأخبر مصعبا، فقال: ارجع فاحمل عليهم، فرجع وحمل على ابن شميط وأصحابه، وحمل المهلّب على ابن كامل حملة بعد أخرى، فهزمهم، وثبت ابن كامل ساعة فى رجال من همدان، ثم انصرف، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وانهزم أصحابه، وبعث مصعب عبّادا على الخيل، وقال له: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه، وسرّح محمد بن الأشعث فى خيل عظيمة من أهل الكوفة، وقال: دونكم ثأركم فكانوا [حيث انهزموا]«1» .
أشدّ على المنهزمين من أهل البصرة، فلم يدركوا منهزما إلّا قتلوه، فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل.
ثم أقبل مصعب حتى قطع من تلقاء واسط، [القصب]«2» ، ولم تكن [واسط]«3» بنيت بعد، فأخذ فى كسكر، ثم حمل الرجال أثقالهم والضعفاء فى السفن، فأخذوا فى نهر خرشاذ «4» ، ثم خرجوا إلى نهر قوسان، ثم خرجوا إلى نهر الفرات، وأتى المختار خبر الهزيمة والقتلى «5» ، فقال: ما من الموت بدّ، وما من ميتة أموتها أحبّ إلىّ من أن أموت مثل موتة ابن شميط.
ولما بلغه أنّ مصعبا قد أقبل إليه فى البرّ والبحر سار حتى نزل السّيلحين «6» ، ونظر إلى مجتمع الأنهار، نهر الخريرة «7» ، ونهر
السّيلحين، ونهر القادسيّة، ونهر يوسف، فسكر الفرات «1» ، فذهب ماؤها فى هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة فى الطين، فخرجوا من السفن إلى ذلك السّكر «2» فأصلحوه، وقصدوا الكوفة، وسار المختار فنزل حروراء «3» ، وحال بينهم وبين الكوفة بعد أن حصّن القصر والمسجد، وأقبل مصعب وجعل على ميمنته المهلّب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين، وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندىّ، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمدانى، وعلى الخيل عمر «4» بن عبد الله النّهدىّ، وعلى الرجال مالك بن عبد الله «5» النّهدى، وأقبل محمد بن الأشعث فيمن كان قد هرب من أهل الكوفة، فنزل بين مصعب والمختار، فلمّا رأى المختار ذلك بعث إلى كلّ خمس من أهل البصرة رجلا من أصحابه، وتدانى الناس، فحمل سعيد بن منقذ على بكر وعبد القيس وهم فى ميمنة مصعب، فاقتتلوا قتالا شديدا، وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومى، فحمل على من بإزائه وهم أهل العالية، فكشفهم [فانتهوا إلى مصعب فجثا مصعب على ركبتيه ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة وتحاجزوا ثم حمل المهلب على من بإزائه فكشفهم]«6» واشتدّ القتال، فقتل ابن الأشعث وذلك عند
المساء، وقاتل المختار على فم سكّة شبث عامّة ليلته، وقاتل معه رجال من أهل البأس، وقاتلت معه همدان أشدّ قتال، ثم تفرق الناس عن المختار، فقال له من معه: أيّها الأمير، اذهب إلى القصر، فجاء حتّى دخله، فقال له بعض أصحابه: ألم تكن وعدتنا الظفر، وأنّا سنهزمهم؛ فقال: أما قرأت فى كتاب الله «1» : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.
قال: فلما أصبح مصعب أقبل يسير فيمن معه نحو السّبخة، فمرّ بالمهلّب، فقال المهلّب، يا له فتحا ما أهناه لو لم يقتل محمد بن الأشعث، فقال: صدقت؛ ثم قال [مصعب]«2» للمهلب: إن عبيد الله بن عليّ بن أبى طالب قد قتل، فاسترجع المهلّب. فقال مصعب: إنّما قتله من يزعم أنه شيعة لأبيه، ثم نزل مصعب السّبخة فقطع عن المختار ومن معه الماء والميرة، وقاتل المختار ومن معه قتالا ضعيفا، واجترأ الناس عليهم، فكانوا إذا خرجوا رماهم الناس من فوق البيوت، وصبّوا عليهم الماء القذر، وكان أكثر معاشهم من النساء تأتى المرأة متخفّية ومعها القليل من الطعام والشراب، ففطن مصعب لذلك، فمنع النساء، فاشتد على المختار وأصحابه العطش، فكانوا يشربون ماء البئر بالعسل، ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر، واشتدّ الحصار، فقال المختار لأصحابه: ويلكم، إنّ الحصار لا يزيدكم إلّا ضعفا، فانزلوا بنا نقاتل حتّى نقتل كراما إن نحن قتلنا، والله ما أنا يائس إن صدقتموهم أن ينصركم الله، فضعفوا ولم يفعلوا، فقال لهم:
أما أنا فو الله لا أعطى بيدى ولا أحكّمهم فى نفسى، ثم تطيّب وتحنّط وخرج من القصر فى تسعة عشر رجلا منهم السائب بن مالك الأشعريّ، فتقدّم المختار فقاتل حتى قتل، قتله رجلان أخوان من بنى حنيفة، وهما طرفة وطرّاف ابنا عبد الله بن دجاجة، فلما كان الغد من مقتله، دعا بجير بن عبد الله المسلىّ «1» من معه بالقصر إلى ما دعاهم المختار، فأبوا عليه، وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم، ونزلوا على حكمه، فأخرجوا مكتّفين، فاستعطفوه، فأراد أن يطلقهم، فقام عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث فقال: أتخلّى سبيلهم؟ اخترنا أو اخترهم.
وقال محمد بن عبد الرحمن بن سعيد الهمدانى مثله، وقال أشراف الكوفة مثلهما، فأمر بقتلهم، فقالوا: يا ابن الزّبير، لا تقتلنا واجعلنا على مقدّمتك إلى أهل الشام غدا، فما بكم عنّا غدا غنى «2» ؛ فإن قتلنا لم نقتل حتى نضعفهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لكم، فأبى عليهم وقتلهم برأى أهل الكوفة، وأمر مصعب بكفّ المختار فقطعت وسمّرت إلى جانب المسجد فبقيت حتى قدم الحجاج فأمر بنزعها.
وكتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ويقول:
إن أطعتنى فلك الشام وأعنّة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب «3» ما دام لآل الزّبير سلطان.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن الأشتر أيضا يدعوه إلى طاعته ويقول: إن أنت أجبتنى فلك العراق.
فاستشار إبراهيم أصحابه فى ذلك، فاختلفوا، فقال: لو لم أكن أصبت ابن زياد وغيره من أشراف الشام لأجبت عبد الملك، مع أنى لا أختار على [أهل]«1» مصرى وعشيرتى غيرهم، فدخل فى طاعة مصعب، وبلغ مصعبا إقباله [إليه]«2» ، فبعث المهلّب على عمله بالموصل والجزيرة وإرمينية وأذربيجان.
قال: ثم دعا مصعب بن الزبير أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار، وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارى امرأته الأخرى، وسألهما عنه، فقالت أم ثابت: أقول فيه بقولك أنت فيه، فأطلقها؛ وقالت عمرة: رحمة الله عليه، كان عبدا صالحا.
فكتب إلى أخيه عبد الله: إنها تزعم أنه نبى، فأمره بقتلها، فقتلت ليلا بين الحيرة والكوفة، فقال عمر بن أبى ربيعة المخزومىّ «3» :
إنّ من أعجب العجائب «4» عندى
…
قتل بيضاء حرّة عطبول «5»
قتلت هكذا على غير جرم «6»
…
إن لله درّها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا
…
وعلى المحصنات «7» جرّ الذّيول
وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف على ابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وإن مصعبا لمّا سار إليه فبلغه مسيره أرسل إليه
أحمر بن شميط، وأمره أن يواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار «1» ، لأنه بلغه أن رجلا من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنّما كان الحجّاج «2» فى قتال عبد الرحمن ابن الأشعث، وأمر مصعب عبادا الحبطىّ بالمسير إلى جمع المختار، فتقدّم وتقدّم معه عبيد الله بن علىّ بن أبى طالب، وبقى مصعب على نهر البصريّين، [على شط الفرات]«3» ، وخرج المختار فى عشرين ألفا، وزحف مصعب ومن معه فوافوه مع اللّيل، فقال المختار لأصحابه: لا يبرحنّ أحد منكم حتّى يسمع مناديا ينادى: يا محمّد، فاذا سمعتموه فاحملوا، فلما طلع القمر أمر مناديا فنادى: يا محمد؛ فحملوا على أصحاب مصعب فهزموهم وأدخلوهم عسكرهم، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا، وأصبح المختار وليس عنده أحد، وقد أوغل أصحابه فى أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزما حتى دخل قصر الكوفة، وجاء أصحابه حين أصبحوا، فوقفوا مليّا، فلم يروا المختار، فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب، فاختفوا بدور الكوفة، وتوجّه منهم نحو القصر ثمانية آلاف، فوجدوا المختار فى القصر، فدخلوا معه وكانوا قد قتلوا تلك الليلة من أصحاب مصعب خلقا كثيرا، منهم محمد بن الأشعث.
وأقبل مصعب فأحاط بالقصر، وحاصرهم أربعة أشهر يخرج المختار كلّ يوم فيقاتلهم فى سوق الكوفة، فلمّا قتل المختار بعث