الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن حريث؛ فكانوا على ذلك إلى أن قدم الحجاج بن يوسف الثقفى أميرا
سنة [75 هـ] خمس وسبعين
.
ذكر ولاية الحجاج بن يوسف العراق وما فعله عند مقدمه
وفى هذه السنة استعمل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفى على العراق دون خراسان وسجستان، وأرسل «1» إليه بعهده وهو بالمدينة، فسار فى اثنى عشر راكبا على النّجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار، فبدأ بالمسجد، فصعد المنبر وهو متلثّم بعمامة خزّ حمراء، فقال: علىّ بالناس، فحسبوه خارجيّا، فهمّوا به وهو جالس على المنبر ينتظر اجتماعهم، فاجتمع الناس وهو ساكت قد أطال السكوت، فتناول عمير بن ضابىء البرجمى حصى «2» وقال: ألا أحصبه لكم! فقالوا: أمهل حتى ننظر. وقيل: إن الذى همّ بحصبه محمد بن عمير وقال: قاتله الله ما أعياه وأدمّه «3» ، والله إنى لأحسب خبره كرؤياه «4» .
فلما تكلم الحجاج جعل الحصى ينتثر من يده وهو لا يعقل، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن وجهه ونهض فقال:
انا ابن جلا «5» وطلاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفونى
أما والله إنى لأحمل الشر محمله، فآخذه «6» بفعله، وأجزيه بمثله،
وإنى لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، وإنى لأنظر
إلى الدماء بين العمائم واللحى
…
قد شمرت عن ساقها تشميراه.
هذا أوان الشدّ فاشتدّى زيم
…
قد لفّها الليل بسوّاق حطم «1»
ليس براعى إبل ولا غنم
…
ولا بجزّار على ظهر وضم «2»
قد لفّها اللّيل يعصلبى «3»
…
أروع خرّاج من الدوى «4»
مهاجر ليس بأعرابى
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا
…
وجدّت الحرب بكم فجدّوا
والقوس فيها وتر عردّ «5»
…
مثل ذراع البكر أو أشدّ
ليس أوان يكره الخلاط
…
جاءت به والقلص الأعلاط «6»
يهوى هوى سابق الغطاط «7»
إنى والله يأهل العراق ما يقعقع لى بالشّنان «8» ، ولا يغمز جانبى تغماز التين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتّشت عن تجربة، وجريت إلى الغاية القصوى. ثم قرأ «9» : «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ»
. فأنتم أولئك وأشباه أولئك. إنّ أمير المؤمنين عبد الملك نثر «1» كنانته فعجم «2» عيدانها عودا عودا، فوجدنى أمرّها عودا «3» ، وأصلبها مكسرا، فوجّهنى إليكم، ورمى بى فى نحوركم، فإنكم أهل بغى وخلاف وشقاق ونفاق، طالما أوضعتم فى الشرّ، واضطجعتم فى الضلالة، وسننتم سنن الغىّ، فاستوثقوا «4» واستقيموا، فو الله لأذيقنّكم الهوان ولأمرينّكم «5» حتى تدرّوا، ولألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السّلم «6» ، حتى تذلّوا، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل حتى تذروا العصيان وتنقادوا، ولأقرعنّكم قرع المروة حتى تلينوا. إنى والله ما أعد إلّا وفيت، ولا أهمّ إلا أمضيت، ولا أخلق «7» إلّا فريت، فإياى وهذه الجماعات، فلا يركبنّ رجل إلّا وحده، أقسم بالله لتقبلنّ على الإنصاف، ولتدعنّ الإرجاف، وقيلا وقالا، وما يقول فلان، وأخبرنى فلان، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا فى جسده، فيم أنتم وذاك، والله لتستقيمنّ على الحقّ أو لأضربنّكم بالسيف ضربا يدع النساء أيامى والولدان يتامى، وحتى تذروا السّمّهى «8» وتقلعوا
عن هاوها «1» ، ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ماجبى فىء ولا قوتل عدوّ، ولعطّلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزوا طوعا، ولقد بلغنى رفضكم المهلّب وإقبالكم على مصركم عاصين مخالفين وإنى أقسم بالله لا أجد أحدا من عسكره بعد ثالثة «2» إلّا ضربت عنقه، وأنهبت داره.
ثم أمر بكتاب عبد الملك فقرىء، فلما قال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين: سلام عليكم، فإنى أحمد الله إليكم- فلم يقل أحد شيئا، فقال: اكفف، ثم قال: يا عبيد العصا، يسلّم عليكم أمير المؤمنين فلا يردّ رادّ منكم السلام. هذا أدب ابن نهيّة «3» ، أدّبكم به، والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمنّ. ثم قال، للقارىء: اقرأ. فلما بلغ سلام عليكم قالوا بأجمعهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله. ثم نزل ودخل منزله، ودعا العرفاء وقال: ألحقوا الناس بالمهلّب، وائتونى بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضى هذه المدة.
قال: فلما كان فى اليوم الثالث سمع تكبيرا فى السوق، فخرج وجلس على المنبر، فقال: يأهل العراق، يأهل الشقاق والنّفاق
ومساوىء الأخلاق، إنى سمعت تكبيرا ليس بالتّكبير الذى يراد به وجه الله، ولكنه التكبير الذى يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف «1» ، يا بنى اللّكيعة «2» ، وعبيد العصا، وأبناء الأيامى، ألا يربع رجل منكم على ظلعه «3» ويحسن حقن دمه، ويعرف «4» موضع قدمه، فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها.
فقام إليه عمير بن ضابىء الحنظلى «5» التميمى، فقال: أصلح الله الأمير، أنا فى هذا البعث وأنا شيخ كبير عليل، وابنى هذا هو أقوى منى على الأسفار أفتقبله منّى بديلا؟ فقال: نفعل. ثم قال:
ومن أنت؟ قال: أنا عمير بن ضابىء. قال: أسمعت كلامنا بالأمس! قال: نعم. قال: ألست الذى غزا عثمان بن عفّان؟ قال: بلى.
قال: يا عدوّ الله، أفلا بعثت بديلا إلى أمير المؤمنين، وما حملك على ذلك؟ قال: إنه حبس أبى، وكان شيخا كبيرا. قال: أولست القائل «6» :
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى
…
تركت على عثمان تبكى حلائله
إنى لأحسب أنّ فى قتلك صلاح المصرين، وأمر به فضربت رقبته، وأنهب ماله، وأمر مناديا فنادى: ألا إنّ عمير بن ضابىء أتى
بعد ثالثة «1» ، وكان قد سمع النداء، فأمرنا بقتله، ألا وإن ذمّة الله بريئة ممّن بات الليلة من جند المهلب.
فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرج العرفاء إلى المهلّب وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلّب: قدم العراق اليوم رجل ذكر، اليوم فويل «2» العدو.
وقال: ولما قتل الحجاج عميرا لقى إبراهيم بن عامر الأسدى عبد الله بن الزّبير «3» [رضى الله عنهما]«4» فى السوق، فسأله عن الخبر، فقال «5» :
أقول لإبراهيم لمّا لقيته
…
أرى الأمر أضحى منصبا متشعبا
تجهّز فأسرع والحق الجيش لا أرى
…
سوى الجيش إلا فى المهالك مذهبا
تخير فإمّا أن تزور ابن ضابىء
…
عميرا وإما أن تزور المهلّبا
هما خطّتا خسف «6» نجاؤك منهما
…
ركوبك حوليّا من الثلج «7» أشهبا
فحال ولو كانت خراسان دونه
…
رآها مكان السّوق أو هى أقربا
قال: وكان الحجاج أول من عاقب بالقتل على التخلّف عن الوجه الذى يكتب إليه.
قال الشعبى: كان الرجل إذا أخلّ بوجهه الذى يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلىّ رضى الله عنهم نزعت عمامته ويقام للناس، ويشهر أمره، فلما ولى مصعب قال: ما هذا بشىء، وأضاف إليه حلق الرءوس واللّحى، فلما ولى بشر بن مروان زاد فيه، فصار يرفع الرجل عن الأرض ويسمّر فى يديه مسماران فى حائط، فربما مات، وربما خرق المسمار يده، فسلم.
فلما ولى الحجاج قال: كلّ هذا لعب، أضرب عنق من يخلّ «1» بمكانه من الثغر.
قال: وكان قدوم الحجاج فى شهر رمضان، فوجّه الحكم بن أيوب الثقفى على البصرة أميرا، وأمره أن يشتدّ على خالد بن عبد الله، فبلغ الخبر خالدا فخرج عن البصرة فنزل الجلحاء «2» وشيّعه أهل البصرة فقسم فيهم ألف ألف.