الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن بزغت في ذلك الوقت شمس الدولة العثمانية على العالم الإسلامي فوقفت تيار غلبة الروس عليه من جهة القفقاس، واستولت على كثير من بلاد خانات القريم المسلمين الذين هم من بقايا أعقاب جنكز خان.
ومن الملوك الجنكزية أو كداي خاقان بن جنكز خان جلس على سرير السلطنة في القريم سنة 626 وكان ملكا عادلا محبا للمسلمين، ولكنه كان كآبائه غير متدين. وفي أيام سلطنته وسلطنة من بعده من أولاد جنكز خان- مثل منكو خان وقبلاي خاقان- انتشر الإسلام في ممالك الصين قاطبة، ودامت قطعة الصين في تصرفهم إلى سنة 769 والجوامع الموجودة الآن في بيكين وغيرها من دواخل الصين بنيت في عصر أولئك الخواقين «1» وطائفة «دونكان» المسلمين من أهل الصين هم من الذين أسلموا في تلك المدة على أن معظم أهل الأصقاع التركية في القريم وغيرها ما زالوا من ذرية جنكز خان وأتباع أولاده وأعقابه وهم القزاق والتتار وبقية أصناف الترك الذين لم يزالوا على جانب عظيم من التمسك بالدين رغما عما تنصبه لهم روسيا من الغوائل والعراقل.
وخلاصة الكلام أن الإسلام بواسطة الخواقين الجنكزية قد امتد من الصين إلى بلاد الغرب وأنهم قد خدموا الإسلام خدمات يحق لها كل مدح وثناء ويجدر بها أن تكون كفارة عما صدر من جدهم الأعلى جنكز خان وهلاكو ابن ابنه في حق المسلمين مما هو محتم مقدور، وفي الكتاب محرر مسطور.
شجاعة الأتراك
اتفقت كلمة الباحثين في طبقات الأمم- وما يخص كل أمة من النعوت والطباع- على أن الأتراك موصوفون من قديم الزمان بالشجاعة والبطولة والفروسية ومعاناة الحروب ومعالجة آلاتها والصبر على ركوب الخيل والحذق بالرمي، وغير ذلك من الأمور التي يرافقها الظفر والغلبة على العدو مما لا يوجد إلا في الجندي التركي.
ونحن نأتي هنا بخلاصة في ذلك من رسالة للجاحظ، وكتاب تلفيق الأخبار، وغيرهما فنقول:
من صفات الجندي التركي أنه يدور حول العسكر فوق الخيول ويحيط بعدوّه بأسرع ما يكون ويشتت شمله، لا يعرف الفرار فهو في الحرب طالب غير مطلوب. لا يغتر بعظم جثة الفرس بل هو ينتقي خيولا مدربة لا يسبقها غيرها يستنتجها عنده ويركبها وهي فلوّ «1» ويسميها بأسماء يناديها بها فتتبعه.
كل واحد من فرسان الأتراك فارس وسائس وبيطار وحدّاد وراع. وكل واحد منهم ماهر في هذه الصنائع لا يحتاج فيها إلى غيره. إذا اجتمعت قوة الجندي الفارسي والعراقي والخارجي في شخص واحد لا يعادل ذلك الشخص واحدا من الأتراك. الجيش التركي يقطع مسافة عشرين ميلا في زمن يقطع فيه غيره عشرة أميال، فإنه يفارق سائر العساكر ويميل إلى اليمين والشمال وينزل إلى بطون الأودية ويصعد إلى قمم الجبال ويصيد بهذه الكيفية الهاربين من أعدائه ولو كانوا من مشاهير الأبطال.
متى وقع اليأس من الصلح والمسالمة وتقرّر الحرب فإن الأتراك يدافعون عن أنفسهم بتحصين مواقعهم العسكرية ويبذلون في ذلك غاية جهدهم من غير أدنى فتور. ومن علو همتهم وصفاء مداركهم لا يخطر بخواطر أعدائهم انتهاز الفرصة عليهم أو التشبث بحيلة ما لإغفالهم «2» .
قال يزيد بن مزيد في وصف الأتراك: لا ثقلة لأبدان الأتراك على الفرس والأرض.
والتركي يدرك الشيء الذي يجيء من ورائه كما يدركه من أمامه، حال كون فرساننا لا يرون الذي يجيء من أمامهم. والجندي التركي يعدّنا صيدا ويعدّ نفسه أسدا وفرسه حيّة.
وإذا ألقي الجندي التركي في بئر مربوط اليد يخلّص نفسه منها من غير أن يتشبث بحيلة.
والجنود الترك يميلون بالطبع إلى الكفاف، ويرجحون ما ينالونه بسهولة على كل شيء سواه، ويحبون أن يكون قوتهم من الصيد وأموال الغنائم، ويثبتون فوق ظهور خيولهم طالبين أو مطلوبين من غير هرب ولا فرار.
قال ثمامة بن الأبرش «3» : حينما كنت أسيرا بأيدي الأتراك رأيت منهم لطفا وإكراما
ورأيت أسبابهم مكملة. الجندي التركي لا يخاف قط بل هو يخيف غيره. والأتراك لا يطمعون في غير مطمع ولا يقعدون عن طلب شيء يريدون تحصيله فمتى حصلوه لا يضيعون شيئا منه. ويبذلون غاية جهدهم في أمر يقدرون عليه إلى أن ينالوه، وكل أمر لا يقدرون عليه لا يضيعون وقتهم في تحصيله. وهم لا ينامون إلا إذا غلبهم النوم ومع ذلك لا يكون نومهم ثقيلا بل هو خفيف جدا بحيث ينامون بالتيقظ والانتباه.
وقال ثمامة: رأيت مرة في بعض محاربة المأمون صفوف الخيل في طرفي الطريق:
في اليمين مائة خيل من الأتراك، وفي الشّمال مائة من الفرسان المختلطة منتظرين مجيء المأمون، وكان الوقت حارا وقد قرب نصف النهار واشتدت الحرارة، فنزل الفرسان المختلطة عن أفراسهم سوى ثلاثة أو أربعة منهم، ولم ينزل من الأتراك سوى ثلاثة أو أربعة.
قال الجاحظ ما خلاصته: والجندي التركي من أشد الناس تحملا للأسفار، وأصبرهم على قشف المعيشة وقلة النوم. يخرج غازيا أو مسافرا أو متباعدا في طلب الصيد فتتبعه رمكته وأفلاؤها «1» ، إن أعياه اصطياد الناس اصطاد الوحش، وإن احتاج إلى طعام فصد دابة من دوابّه وتغذى من دمها، وإن عطش حلب رمكة من رماكه، وإن أراح واحدة ركب أخرى من غير أن ينزل إلى الأرض. وليس أحد في الأرض يصبر عن اللحم كالتركي، وكذلك دابته تكتفي بأصول النبات والعشب والشجر لا يظلّها صاحبها من شمس ولا يكنّها «2» من برد. وهو أصبر من جميع أصناف العساكر على ركوب الخيل وقطع المسافات بحيث إذا طال السّرى «3» واشتد الحر أو البرد على بقية أجناس العساكر وأعياهم التعب- حتى صمتوا عن الكلام وتمنوا أن لو كانت الأرض تطوى لهم وأخذ كلّ واحد منهم يئنّ أنين المريض ويتداوى مما به بالتمطي والتضجع- ترى التركي في هذه الحالة وقد سار ضعف ما سار غيره، يرى قرب المنزل ظبيا أو ثعلبا أو غيره من الأوابد فيركض خلفه كأنه استأنف السير في ذلك الوقت. وإذا ازدحم الناس على مسلك واد أو قنطرة ضرب التركي بطن برذونه «4» فأقحمه النهر، أو الوادي، ثم طلع من الجانب
الآخر كأنه كوكب. وإذا انتهى الجيش إلى عقبة ترك السير عليها وذهب في الجبل صعدا وتدلّى من موضع يعجز عنه الوعل «1» مع ما يبدو على محيّاه من النشاط والجد.
قال الجاحظ: والتركي يحب القتال طبعا وطلبا للغنم ثم لما دان بالإسلام صار يحب القتال طبعا وطلبا للغنيمة وتدينا ودفاعا عن الوطن فصار لا يباريه في الحرب أحد ولا يدانيه في الصبر على الحر والبرد وقشف المعيشة مدان.
حكى ثمامة بن الأبرش «2» قال: خرجت من بغداد فرأيت فصيلة من الفرسان الخراسانيين والأعراب وغيرهم قد عجزوا عن إمساك فرس ندّ «3» منهم فمر بهم فارس تركي راكب على فرس هزال ضعيف فلما رآهم عجزوا عن إمساكه تصدى هو له فشرعوا يضحكون عليه ويسخرون به قائلين: إن الأمر الذي قد عجز عنه هؤلاء الأسود كيف يقدر عليه هذا المسكين؟ فلم يمض غير قليل حتى أمسك الفرس مع قصر قامته وهزال فرسه وأسلمه إليهم، ومضى لسبيله غير ملتفت إلى دعائهم ولا إلى حسن ثنائهم ومكافأتهم، ولا متفاخرا إزاء احتقارهم إياه، كأنه لم يصدر منه شيء قط.
قلت: إن الجندي التركي الآن غير الجندي التركي في تلك الأزمان، غير أنه مع ذلك لم تزل له ميزة على سائر أجناس العساكر، فهو ما برح معروفا بالصبر على الحر والبرد وقشف العيشة ومعاناة مشاقّ السفر، والطاعة لقواده والجرأة على أعدائه، والقناعة بالزهيد من الأكل والشرب وقلة الهجوع. وحسبك شاهدا على تفوق الجندي التركي بمزاياه الجندية قول نابليون بنابرته: أعطوني الجندي التركي أفتح لكم الدنيا.
كنا نسمع من الجندي العربي في أثناء الحرب العامة تذمرا كثيرا وشكوى مرة من قلة الأكل والشرب ورداءة الطعام وظلم القادة ورداءة الكسوة وغير ذلك من المشقات التي يبديها لنا في صورة ينبو تحملها عن طوق البشر لأنها من المهلكات التي يحرم على الإنسان أن يلقي إليها بنفسه، وإن ذلك من أعظم الأعذار التي تبيح الهرب من الجندية.
أما الجندي التركي فإننا كنا نراه في تلك الحرب الضّروس في حالة مألوفة له غير مخالفة