الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنفسهم فمنهم من وفى شيئا من ديونه وعجز عن وفاء الباقي عليه، ومنهم من لم تسمح نفسه بوفاء ديونه التي تستغرق ثروته وهو يوسف باشا.
وأما عبد الله بك فقد كانت ديونه أكثر من ديون جميع المدينين لكنه ليس عنده ما يفي بعشرها، لأنه كان- كما قيل- نهابا وهابا. فاضطرته الحالة أن يستعين بذي رأي وتدبير على إيجاد وسيلة تدفع عنه هذه الغائلة، فلم يركفؤا لهذه المهمة غير يوسف باشا، فحضر إليه سرا وبعد أن تعاتبا وطرحا ما كان بينهما من التعاكس والتشاكس- اللذين تتطلب وحدة المصلحة طرحهما- تذاكرا في التماس وسيلة تدفع عنهما هذه المهمة المدلهمّة، فقر رأيهما على أن يدبرا إحداث ثورة إرهابية وقتية تضطر الوالي إلى أن يستعين بهما إلى إطفاء نائرتها، وعندها يرى من واجبه مسامحتهما بأموال المقاطعات المتأخرة بذمتهما. فقررا أن يذاع سرا بين الناس- بواسطة دهاة من سماسرتهما- تصميم الحكومة على أخذ عسكر بالقرعة، وإضافة ضريبة الأملاك المعروفة في تلك الأيام باسم (ترابيّة) وأن يجسّم ضرر هاتين البدعتين في أفكار العامة من أتباعهما تجسيما يحملهم على أن يثوروا في طلب رفضهما من تلقاء أنفسهم دون أن يدعوهم إلى الثورة أحد، تفاديا من وقوع تبعة الثورة على فرد معين.
قال المكانسي: وقد جرت هذه التدابير كلها من عبد الله بك ويوسف باشا على صورة خفية جدا، بحيث كان الثائرون أنفسهم لا يعرفون سببا لثورتهم سوى معارضتهم لتصميم الحكومة على أخذ القرعة وإضافة ضريبة الأملاك، وهم يجهلون كل الجهل اليد المحركة لثورتهم، وأن يوسف باشا وعبد الله بك لم يقصدا في تدبير ما دبّراه سوى ثورة بسيطة إرهابية لا تبلغ درجة التفاقم وتصل إلى الحد الذي وصلت إليه، ولو أنهما علما بما تجرّه هذه الثورة من الفظائع والمصائب وتعقبه من طائل المسؤولية، لما كانا اقترفاها، غير أنهما لما وصلت إلى ما وصلت إليه من الخطورة والتضخم لم يبق في قدرتهما منعها.
كيف كانت الثورة
؟:
بعد عشاء الليلة الثانية من عيد الأضحى سنة 1266 تألب جماعة من العوامّ وزعمائهم في سوق باب النيرب، وعولوا على إحداث ثورة ضد الحكومة. وأول عمل باشروه أنهم قصدوا جماعة الدرك في مخفرة باب الحديد، وهددوهم بإطلاق عيارات نارية اضطرت
جماعة الدرك إلى الهرب منهم والالتجاء إلى الرباط العسكري (القشلة) . ونمي الخبر إلى الوالي فحضر إلى محل الثوار بنفسه لإخماد ثورتهم، لكنه لما رأى جموعهم تجاه جامع التوبة، وما هم عليه من العربدة والهيجان وإطلاق الرصاص، هاله الخطب وانصرف عنهم ولسان حاله يقول: الهزيمة نصف الغنيمة. ولو أنه أظهر لهم الثبات وسطا عليهم بعض السطو لفلّت جموعهم وكفي شرّهم، لكنه لما قدم عليهم ظنوه هو ومن معه جماعة العسس «1» ، ولم يعلموا أنه هو الوالي إلا بعد انصرافه. فلما علموا بخوفه ورخاوته زاد شغبهم وقويت نفوسهم.
وفي نحو الساعة الثالثة من الليلة المذكورة مشوا بطبولهم وزمورهم إلى محلة الفرافرة ليوقعوا ببعض الأعيان لأنهم لم يدفعوا عنهم غائلة البدعتين المذكورتين، مع قدرتهم على دفعهما على زعمهم. وكان الأعيان قد بلغهم قيام هؤلاء الغوغاء فتركوا منازلهم والتجئوا إلى الرّباط العسكري. ولما وصل الثائرون إلى محلة الفرافرة لم يجدوا في منازل الأعيان سوى الحريم والخدم فرفعوا أصواتهم بالسب والشتم وأطلقوا بعض العيارات النارية، ثم توجهوا إلى محلة قارلق لمواجهة عبد الله بك ومطالبته بدفع البدعتين المذكورتين، لأنه هو متسلم البلد وهو المسؤول عن دفع الحيف والظلم عن أهلها. وبينما هم عند سبيل الدلي محمود في قرب بانقوسا إذ تقابلوا مع تقي الدين أفندي المدرس. حدثني خادمه محمد آغا الفراش- وقد وظف بعد فراشا في المدرسة العثمانية وكنت مجاورا فيها- أن الثائرين لما قبضوا على تقي الدين أفندي- قال: وكنت معه- أضجعوه إلى الأرض وأرادوا ذبحه، فقال بعضهم يحرم امتهان دم العالم وإراقته على الأرض كدم شاة. ثم تجرّد القائل من عباءته ومدّها تحت تقي الدين وقال: اذبحوه فوقها. وبينما هو يستعيث بهم ويطلب منهم الكفّ عنه إذ مرّ بهم الشيخ أحمد شنون- المعروف بالحجار- فتشفع به فعفوا عنه. قال خادمه محمد آغا: وقد أثر الرعب في تقي الدين حتى قطع نسله.
ثم إن الثوار أخذوا معهم تقي الدين إلى عبد الله بك ليرى رأيه فيه. فلما وصلوا إليه أنكر عليهم عملهم وبعث به إلى الرباط العسكري ومعه من يحفظه وقال عبد الله بك للثائرين: ماذا تريدون؟ فقالوا: لا نعطي عسكرا ولا ضريبة، وأنت في قدرتك إبطال
هاتين البدعتين. فأجابهم بأن هذا مما أمرت به الدولة ولا قدرة لي على ردّه. فقالوا:
إذا نحن نحارب الدولة ونجبرها على إبطالهما. فقال لهم: أنتم قوم فجّار، اذهبوا عني حيث شئتم. وكان قد انضم إليهم أتباعه وأحزابه فقالوا له: نريد أن نقصد النصارى ونطلب منهم مالا نشتري به ذخيرة لأن النصارى يشاركوننا بالاستفادة من نتيجة قيامنا، فتسقط عنهم أيضا ضريبة الأملاك وغيرها من الضرائب التي تصمم الدولة على طرحها. فقال لهم: أنتم قوم أشرار اذهبوا عني حيث شئتم. فتوجهوا إلى جهة محلات النصارى وقد كثر جمعهم وانضم إليهم البدوي والقروي وعلت ضوضاؤهم وهم يضربون طبولهم وينشدون زجلاتهم ويرفعون أصواتهم بقولهم: (عسكر ما نعطي فردي ما نعطي) .
ولما وصلوا إلى محلة الألماجي والماوردي قصدوا بطريرك طائفة الروم مكسيموس مظلوم وأرادوا القبض عليه لأنه كان منذ أيام إبراهيم باشا المصري وما بعدها يدور أحيانا بشوارع حلب وهو راكب بأبهة زائدة وموكب حافل، يتلقى المسلمون منه ذلك كإرغام لهم وتعال عليهم، فكانوا ينقمون عليه هذا الصنيع ويحملونه منه على قصد إهانتهم. ولما أحسّ بقدوم الثائرين على محلته هرب منها إلى خان العلبية واختبأ عند بيت الركوبلي، ثم سافر من غده.
أما الثوار فقد أخذوا بإطلاق الرصاص وتكسير الأبواب والنهب في محلة الألماجي والماوردي إلى قرب طلوع الشمس ثم توجهوا إلى محلة الصليبة، وكان عبد الله بك قد أرسل إلى أكابرها يطلب منهم ألف ذهب عثماني بشرط ألّا يتعرض لهم أحد بسوء. فلم يجيبوه على طلبه وقالوا: إن أصابنا ضرر طلبنا تعويضه من الحكومة فعلام ندفع للثوار ألف ذهب؟
وحينئذ دخل الثوار إلى محلة الصليبة وشرعوا بتحطيم الأبواب والنهب، وكان أكثر أغنيائها قد تركوا بيوتهم وتحصنوا بالخانات مع عيالهم، ومنهم من أخذه لبيته بعض معارفه من المسلمين وحماه عنده، ومنهم من دعا إلى بيته بعض أصحابه من المسلمين ليحامي عنه، فسلمت بذلك بيوت كثيرة وسلم من كيد الثوار عدة جهات كحارة المحبّي والشرعسوس، لأن بعض سكانها كانوا من وجهاء المسلمين فدافعوا عن جيرانهم النصارى فلم يصب أحد منهم بسوء.
لم يزل النهب مستمرا ومتعاطوه في كثرة وازدياد حتى انضم إليهم الفلاح والبدوي ورعاع الناس من أهل حلب، وكان يتقدم الثائرين طبل لتجميع الناس إليهم فكانوا كلما مروا على رجل ولم يتبعهم أوسعوه ضربا وسبا. وأخبرني بعض تلامذة والدي أن والدي
بينما كان واقفا على باب مسجد أشقتمر- المعروف بجامع السكاكيني- إذ مرت عليه شرذمة من الثوار فنادوه: «شيخ امشي معنا» . فقال لهم: اسبقوني حتى ألبس ثيابي وألحقكم. ثم دخل إلى الجامع وأغلق بابه ولم يخرج منه إلا بعد أيام. هذا وإن النهب لم يزل يجري أحكامه إلى اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة وكان البدوي قد ينهب الشيء من أثاث المنزل وهو لا يعرف ماذا يراد من استعماله. وصادف أن بدويا نهب ساعة دقاقة ظنها صندوقا فيه نقود، وبينما هو سائر بها إذ دقت الساعة فارتاع منها وحسب أن فيها جنيا فبصق عليها وطرحها إلى الأرض فتحطمت. ورأى بدوي في بعض البيوت كيسا فيه لؤلؤ ظنّه رزا فحمله فلما كان في أثناء الطريق ذاقه فلم تقطعه أسنانه فحسبه خرزا فرماه إلى الأرض فتبعثر وسحق تحت الأقدام.
في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وقف النهب لأن الأعيان والحكومة أرسلوا إلى زعماء الثائرين يؤمنونهم مما يخافون، ويتعهدون لهم بما يطلبون. وفي اليوم الثالث عشر من هذا الشهر ترددت الرسل بين الطرفين واستقرت القاعدة على أن يكون عبد الله بك هو المفوض بالأمور، وأن تستثنى حلب من القرعة العسكرية ومن عدة ضرائب أميرية، وأن يسامح عبد الله بك ورفقاه من أموال المقاطعات المتأخرة في ذممهم، وأن لا يسترق النصارى الإماء والعبيد المسلمين، وأن يمتازوا عن المسلمين بعلامات فارقة، إلى غير ذلك من الطلبات والاقتراحات. والذي اضطر الحكومة أن تجيبهم إلى ما طلبوا خلوّ القلعة والرباط العسكري من الحامية، إذ لم يكن موجودا فيهما سوى مائتي جندي. وبعد أن استقر الصلح على الشروط المذكورة أقام الثوار سلطانا عليهم ابن حميدة، فجعل وزيره عبد الله بك وصار ابن حميدة يأمر وينهى كسلطان قاهر. وكان الأعيان والوجهاء قد نزلوا من الرباط إلى تكية بابا بيرم، وبقي الوالي في الرباط لشدة جبنه وخوفه.
ولم يقتل من النصارى في هذه الحادثة سوى خمسة نفر قتلوا لا عن قصد انتقام سوى واحد منهم: فالأول: القس جبرائيل الكلداني استمات على حفظ أمانات للكنيسة كانت عنده فقتل وأخذت الأمانات. الثاني: أخو القسيس السرياني، احترق في كنيسة السريان تبعا لها لأنها احترق معظمها. وكان المسبب بإحراقها شماس موكل بحفظ ما فيها من الآثار الفضية فسرقها وألقى النار في الكنيسة وادعى أن النار هي التي أتت على الآثار. الثالث:
رجل يقال له ابن القصاب، وهو الذي قتل عمدا لأنه كان يؤذي المسلمين بما كان يجريه
من التيه والعجرفة والازدراء بهم وسبّهم وشتمهم، مستندا في ذلك على أنه كان من عساكر النمسا. الرابع والخامس: نعمة الله الحمصي وخادمه. أما نعمة الله فسبب قتله أن عبد الله بك حينما أرسل إلى أهل محلة الصليبة يطلب منهم ألف ذهب رضي أكثرهم بإعطاء هذا المبلغ وأرادوا تقديمه إليه فمنعهم عن ذلك نعمة الله، وأجاب رسل عبد الله بك بما تقدم بيانه. فقتل وقتل خادمه معه لمحاماته عنه.
بعد أن تم الصلح على الشروط المتقدم ذكرها كتب الوالي بالخبر مع بريد خاص إلى الآستانة. وكان قد أنفذ الرسل إلى حكام أنطاكية وأذنة وعينتاب وأغوات العمق يطلب منهم الإمداد وإرسال ما تيسر لهم من العساكر. فما مضى على ذلك سوى بضعة أيام حتى أخذت العساكر والمتطوعون من فرسان ومشاة يتواردون من الجهات المذكورة من جهة سيورك، فيدخلون القلعة والرباط خفية حتى اجتمع فيهما قوة كافية لخذل البغاة وكبتهم. وحينئذ كتب الوالي والأعيان إلى عبد الله بك بأن يحضر إلى دار الحكومة زعماء الثائرين ليعطيهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ويحرر أسماءهم في دفتر يرفعه إلى الدولة لتقرر كل واحد منهم بوظيفته ويستقر الحال على ذلك. فأجابهم عبد الله بك إلى هذا الطلب وعيّن لهم اليوم الذي يجمع فيه الزعماء المذكورون ويعمل فيه هذا العمل.
وكان الوالي والفريق عبد الكريم باشا انتخبا نحو مئة وخمسين عسكريا من ذوي البسالة والنجدة وسيّراهما «1» ليلا إلى دار بني الجلبي حيث كان يسكن الوالي، وهي اليوم تعرف بدار العدلية داخل دار الحكومة، فخبّأ العساكر المذكورين في تلك الدار وأمراهم متى جاءهم النذير أن يخرجوا بغتة ويحيطوا بكل من رأوه في دار الحكومة ويوقعوا القبض عليه ويسقوه «2» إلى الرباط العسكري. فلما كان الغد وهو يوم الثلاثاء رابع محرم الحرام سنة 1267 حضر الزعماء المذكورون إلى دار الحكومة ليأخذوا الأمان وتحرر أسماؤهم على الصفة المتقدم ذكرها. سرى الخبر إلى العساكر المخبوءة بدار بني الجلبي فأسرعوا الكرّة بأسلحتهم، ولم يشعر الزعماء إلا والعساكر قد أحاطت بهم وخالطتهم وأوقعت القبض عليهم ومشت بهم إلى الرّباط وأودعوهم فيه، وكان من جملتهم عبد الله بك. ولما اتصل الخبر
بأتباعهم وحواشيهم وبقية أحزابهم قامت فيهم الحمية الجاهلية وهاجوا وماجوا وأخذوا يطلقون الرصاص على الرباط والقلعة، وذلك في صبيحة يوم الأربعاء خامس محرّم هذه السنة 1267 فقابلهم الجنود بإطلاق البنادق والمدافع واشتدت الحرب وكانت من الرباط أشد، وكلّ من الحصنين صوّب أفواه مدافعه على محلة النيرب ومحلة قارلق وبانقوسا.
وكان كثير من سكان هذه المحلات قد لجؤوا إلى المحلات الداخلة في البلد لأنهم لم يكونوا من حزب الثوار.
وما زال الحال سائرا على هذا المنوال إلى ظهيرة اليوم المذكور. ثم أخذت الحرب تخف حسب اشتداد الحرّ وبقي الحال هكذا إلى وقت العصر. وقد أظهر الجنود أنهم قد انكسروا لعلمهم أن الثائرين يقاتلون من غير رئيس يقدّم لهم الذخيرة من البارود والرصاص، فقصدوا بإظهار الكسرة أن يستصفوا ما عند الثوار من الذخيرة. وفي تلك الأثناء تسلّق جماعة من الثوار سطح الجامع الخسروي، وقلعوا ألواح الرصاص الذي صفحت به القبة ليصبوه بندقا. ولما كان بعد العصر سكن إطلاق الرصاص من الجانبين المتحاربين وعرض أعيان البلد الصلح عليهما فرضيا به. وقرأت في أحد مجاميع والدي أنه لما كان بعد غروب هذا اليوم (يوم الأربعاء) أقبلت العربان على حلب من فرق شتى كالعنزة والحديديين والبقّارة والعساسنة وغيرهم، ما ينوف على أربعة آلاف رجل نجدة للثوار، فقويت نفوس الثائرين ونكثوا عن الصلح.
وفي صبيحة الغد وهو يوم الخميس سادس محرم هذه السنة (1267) نشبت الحرب بين الفريقين وحمي وطيسها، وصبر كل منهما للآخر. واستمر الحال هكذا إلى وقت الظهر، فتقهقر الثوار ودهشت العربان ثم عوّلوا على الفرار، وانكسر الثائرون كسرة شنيعة وانحلّت جموعهم. فنزلت العساكر من الحصون في أثر الثوار وأسعرت النار في سوق بانقوسا وسوق باب النيرب وقارلق، فالتهمتها النار عن آخرها بعد أن غنم الجند أكثر ما فيها من الأموال والبضائع وألقوا النار في كثير من بيوت المنهزمين وقتلوا عددا كبيرا من الثائرين وغيرهم الذين لا دخل ولا تصنّع لهم بإحداث الفتنة. وكانوا يقتلون كل من صادفوه حتى العميان والأولاد الصغار. وهكذا أخذ المظلوم بجريمة الظالم. وهذا مصداق قوله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً
. وكان أكثر القتل في رجال تلك المحلات ووقع القبض على كثير منهم وكسبت بيوتهم وبيوت أخر اختبئوا فيها داخل
البلدة، وتبعتهم العساكر إلى القرى يقبضون عليهم وينكّلون بهم تنكيلا. اه.
قال صاحب كتاب «محررات نادرة» التركي العبارة ما خلاصته بعد التعريب: لما وصل خبر هذه الحادثة إلى استانبول انعقد في اليوم الخامس والعشرين من ذي الحجة هذه السنة 1266 مجلس خاص لتلافي ما يقتضيه الحال في هذه الحادثة. وبعد مفاوضة طويلة استقرّ رأي المجلس على إرسال أربعة كتائب (طوابير) من العساكر: اثنتين منهما من عساكر استانبول، واثنتين «1» من العساكر؛ لأنه لا يوجد سوى هذين العسكرين صالحا للإرسال إلى حلب، لأن جميع عساكر الدولة في ذلك الوقت كانت مشغولة بما هو أهم من هذا. ولما استقرّ رأي المجلس على إرسال تلك العساكر كانت بواخر الدولة المعدة لحمل العساكر والأعتاد الحربية مشغولة، بعضها مسافر وبعضها متصدّع، وقسم منها في محافظة المواني. فاضطرت الدولة أن تنتظر باخرة من بواخرها إلى أن حضرت فأرسلت فيها العساكر المذكورة ومعها ستة مدافع، وعزلت والي حلب ظريف باشا وعينت بدله محمد باشا القبرصي، وتوجه مع العساكر فوصل إلى حلب في محرّم سنة 1267 وكانت الأمور قد هدأت وشمل البغاة قد تشتّت.
ومع هذا فإن محمد باشا أخذ من يوم وصوله إلى حلب يستقصي حقائق الأمور ويفحص عن السبب والمتسبب، حتى ظهرت له جلية الحال فنفى نحو 800 شخص إلى جهات مختلفة- كعكّا وكريد وقبرص- وأمر بعقد مجلس خاص لتحصيل أموال النصارى وجعل رئيسه محمد آغا المكانسي، وأعلن أن المال المتحصّل يدفع لذويه بعد أن يبرهنوا عليه، وأن ما لم يتحصل من أموالهم تقدر له قيمة وتوزع على أهل البلد وتجمع منهم بواسطة الحكومة، كما أنها هي التي توزع القيمة على النصارى الذين لا تظهر أعيان ما نهب لهم من الأموال في هذه الفتنة. وبعد أن فرغ الوالي من تقرير هذه المهمة شرع بأخذ العسكر من ذوي الاختلال بلا قرعة، ثم شرع يأخذ العسكر بالقرعة الشرعية من عامة أهل البلدة، وهي أول قرعة كانت في حلب أيام الدولة العثمانية. وما زال الوالي يدبر أمور البلدة ويقطع دابر المفسدين حتى استتبّ الأمن وعادت المياه إلى مجاريها. اه.
قال شيخنا المكانسي: وقبل وصول محمد باشا القبرصي إلى حلب صدر أمر الدولة