الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إن الشرطة حاولت إعادة المرأة إلى القلاية فامتنعت وقالت لهم: إذا أكرهتموني على الرجوع إليها فإني أنتحر نفسي «1» . ولما رأوا إصرارها على الامتناع من متابعة زوجها الأرمني أحضروا زوجها المسلم من الحبس وسلموه إياها وأخذوا منه كفيلا على أن يسلمها إليهم متى أرادوا أخذها منه. فعادت هي وزوجها المسلم إلى بيتهما، وهي لم تزل عنده حتى الآن في غبطة من العيش، قد ولدت له عدة أولاد، والنساء يثنين على أخلاقها الثناء العاطر.
ومن هذا القبيل أيضا قضية غلام في السادسة من عمره مولود من أبوين مسلمين حلبيين، ادّعاه رجل أرمني أنه ولده فأخذته جمعية الصليب من يد أبيه المسلم قسرا وسلّمته إلى الرجل الأرمني الذي ادّعاه. فشقّ هذا الأمر على أبوي الغلام وأسرته. ورغما عن شهادة القابلة التي ولّدته وعن الجمّ الغفير من جيران أهل الغلام المسلمين والمسيحيين بأن هذا الغلام هو ابن الرجل المسلم الحلبي؛ لم ترجعه الجمعية إليه. وحينئذ تقدم إلى الوالي جماعة من جيران والد الغلام وأخبروه بأنه مولود من أبوين مسلمين حلبيين، وأنهم يطلبون من الوالي التبصر بهذه القضية. فجمع الوالي في بهو منزله رجالا من الأرمن والحلبيين المسلمين متشابهين بالملامح والهيئات، بينهم أبو الولد الحقيقي والأرمني الذي ادّعاه، وأدخل الولد إلى البهو بغتة فما كان منه إلا أن عدا نحو والده الحقيقي والتفّ به وعانقه، وطفقت دموع والده تنحدر على خديه، وبكى بعض الحاضرين متأثرا من هذا المنظر الغريب.
وإذ ذاك قنع ضباط الإنكليز الحاضرون أن الولد هو ولد الحلبي، خصوصا حينما رأوا في ملامحه شبها قويا بملامح أبيه، فأذنوا له بأخذه فأخذه وانصرف.
كيف كانت هذه الفتنة
؟
قبل حدوث الفتنة بأيام اشترى أحد الحلبيين المسلمين من أرمني بقرة؛ ظهر لها بعد شرائها صاحب ادّعى أنها بقرته وقد سرقت من إصطبله. وبعد أن برهن دعواه بما لا يحتمل الإنكار لم يسع مشتري البقرة غير الإذعان لدعوى صاحبها فسلّمه البقرة. ثم أخذ يبحث عن الأرمني الذي اشتراها منه ليرجع عليه بثمنها فلم يظفر به.
ولما كانت ضحوة يوم الجمعة 28 جمادى الأولى سنة 1337 و 28 شباط سنة 1919 م كان الحلبي يتجول في سوق الجمعة- وهو سوق عام ينعقد في كل يوم جمعة، في فضاء واسع يعرف بفضاء تحت القلعة، يباع فيه من جميع السلع والبضائع، ويحضره ألوف من الناس، ومن جملة فروعه فسحة واسعة تباع فيها الخيل والبغال والحمير والبقر- وبينما كان مشتري البقرة يتصفح وجوه الناس للبحث عن غريمه الأرمني، إذ وقع نظره عليه فأسرع نحوه وطلب منه ثمن البقرة. وكان الواجب على الأرمني أن يتلطف بذلك الرجل ويستمهله وفاء ثمن البقرة ويدفع الشرّ بالتي هي أحسن؛ غير أن نفسه لم تطاوعه على التساهل مع صاحب الحق، بل طفق يعربد وينكر القضية بتمامها ويفوه بكلام يشقّ على العامة سماعه.
فاشتد النزاع بين الرجلين وعلت أصواتهما في ذلك الجمع العظيم الذي لا يقلّ عن عشرة آلاف إنسان، ما بين مسلم ومسيحي ويهودي، وقد هرعت العامة إلى محل المشاجرة ووقفوا ينظرون إلى ما يؤول إليه أمرها. ثم انتقل الحال بين الرجلين من الكلام إلى الملاكمة واللّطام، وقد أخذا بتلابيب بعضهما، وانبرى لكل واحد منهما نصراء من قومه يدافعون عنه ويعينونه على خصمه- وقد علمت مما تقدم كيف كان توغر صدور الحلبيين وحنقهم على الأمة الأرمنية للقضايا التي أسلفنا بيانها- فلما شاهد هذا الجمع النزاع القائم بين هذين الرجلين وعلموا أن المعتدي منهما هو الأرمني، وأن الأرمن قد التفوا حوله ينصرونه على خصمه، هاجت الأحقاد في صدورهم وتقدموا يدفعون الأرمني عن الحلبي.
فاشتدت الضوضاء وعلا الصراخ وهاج هذا الجمع العظيم وماج، وانقضّت العامة على الأرمن يضربونهم بالعصي والسكاكين ووزنات الحديد «1» وأعمدة الخشب. فما مضى غير دقائق إلا وجثث بضع «2» وثلاثين أرمنيا مطروحة على الأرض، وقد اتصل الصوت ببعض الجهات القريبة من محلات الأرمن فقام بعض الدعّار يهجمون على بيوتهم ويسلبون ما فيها من الأثاث ويقتلون من يعارضهم من أهلها. وكان مجموع ما قتل في هذه الفتنة العمياء مسلم واحد- كان مارا في الطريق فرماه أرمني من داخل داره برصاصة فقتله-