الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يضع منه سوى النزر اليسير الذي ربما كان هو المتساهل بحفظه ليكون فداء عن باقي دولته وليتمكن من التنكيل بأعدائه وإبادتهم.
إن بقاءه سلطانا وسلامة ملكه من أيدي الأغيار تلك المدة- مع فقر خزائن الدولة وخلّو مدخراتها من السلاح وبحارها من الأساطيل- لما يدهش له الإنسان ويأخذه منه العجب كل مأخذ. غير أنه إذا أمعن النظر بالأسلوب الذي كان يسير عليه في سياسة الأمة وإدارة الملك لا يلبث أن يزول عنه العجب ويقنع بأن ذلك الأسلوب حقيق أن ينتج عنه تلك النتيجة.
كيف كانت سيرته في رعيّته:
كانت الطبقة الدنيا والوسطى من الرعية على اختلاف عناصرها تخافه وتحبه:
تخافه لقوة بطشه وعظيم دهائه وتمكنه من الاطلاع على أحوال رعاياه، فإنه كان لا تخفى عليه خافية من أحوالهم وكل ذي شخصية بارزة في ممالكه معروف عنده واقف تمام الوقوف على ما هو عليه من المحاسن والمساوئ.
وتحبه رعاياه لأنه كان لا يحب أن يبهظهم بالضرائب، فكان الرخاء في أيامه شاملا والرعية راتعة في بحبوحة التنعم والرفاهية، وكان عظيم العناية بكل ما يرضي رعاياه لا سيما البسطاء منهم، غير متوان عن الإتيان بكل ما ينطبق على رغائبهم، خصوصا بما كان له علاقة بالدين كخدمة شعائره وإعمار المعابد، فقد عمر في أيامه ما يعسر على القلم إحصاؤه من المساجد والجوامع والمدارس الدينية والزوايا والتكايا وأضرحة الأولياء والصالحين. وكان من أجل آثاره وأكبر حسناته- وأقواها اجتذابا لقلوب المسلمين عامة وقلوب رعيته خاصة- سكة الحديد الحجازية فإنه هو وحده الساعي بإنشائها وبسعيه المشكور تم أمرها. وكان لا يقصر بإنقاذ المستغيثين به من مخالب الظلم ما لم يكن الظالم من مردته وأتباعه.
عدم سماحه عمن يمسّ شخصه وسلطانه، وكيف كان يعاقب المسيء إليه بالنفي وغيره من العقوبات:
وهو لا يؤاخذ أحدا على إطلاق لسانه بالظلمة والمستبدين من مستخدمي الحكومة
أو متنفذي الرعية، فقد كان الإنسان في أيامه يطلق لسانه بما شاء وبمن شاء لا بأس عليه بذلك، إلا أن يتكلم بما يمس سلطانه فإنه لا يسامحه بأقل كلمة سوء تصدر منه في حقه فيعاجله بالنفي عن وطنه، لكن مع تعيين راتب شهري له يقوم بتمام كفايته حسب مقامه.
وهذه العقوبة جعلها مختصة بمن يتجرأ عليه بقول أو عمل يشتمّ منه رائحة المساس بشخصه أو سلطانه ولو من مسافة بعيدة. على أن العقوبة بالنفي على هذه الصفة كانت تعدّ من أهون العقوبات وأخفها عبئا على من يستحقها.
سألت الفريق عابد باشا- أحد كبار المنفيين إلى حلب- عن سبب نفيه فقال:
حدثت في استانبول هزة أرض لم ينجم عنها ضرر، فقلت لجماعة من أصحابي وأترابي:
«بظلّ ملجأ الخلافة لم يحصل من هذه الهزة خطر» . قلت ذلك بلسان تهكم وسخرية، أعني بهما المتملقين من اللائذين بقصر يلديز وكتبة الجرائد الذين يأتون بهذه العبارة في مقدمة كل مقال ينمقونه بالإخبار عن كل حادث، طبيعيا كان أم مفتعلا. مثلا يقولون:
بظلّ ملاذ الخلافة وقع في حلب مطر غزير، وبظلّ حامي حمى الخلافة بني في دمشق مكتب للإناث، وبظلّ السلطان الأعظم كانت هذه السنة ذات فيض وبركة. قال عابدين «1» باشا: فاتصلت كلمتي تلك بسمع السلطان بواسطة أحد جلسائي الذين قلتها بحضورهم، مع أنني لم أفه بها إلا وأنا معتقد أنهم جميعا من خواص أصحابي وأترابي ولم يخطر لي على بال قط أن بينهم متجسّسا لعبد الحميد.
وحكى لنا عزيز بك- وهو من كبار المنفيين أيضا- أن سبب نفيه «2» أنه كان أمّ السلطان مرادا بصلاة التراويح. وحكى لي عثمان بك أحد المبعدين إلى حلب- وهو ممن غلب عليه البله، وكان يعاني في استانبول مهنة الحلاقة- أن السلطان عبد الحميد نفاه لأنه كان يبري الأقلام للسلطان رشاد وكان عثمان بك حسن الخط.
هكذا كان السلطان عبد الحميد يعاقب بالنفي على أدنى كلمة وأقل حركة يرى بها مساسا لشخصه أو سلطنته ولو توهما وتظنيا.
أما عقوبته بالتغريق أو الاغتيال أو الحبس فقد جعلها نصيب من يتوهم منه صدور