الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وترى طيور الماء في وكناتها
…
تختار حرّ النار والسفّودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوى
…
عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما
…
حرّك لنا عودا وحرّق عودا
وتحرير هذا الخبر هو أننا أمسينا يوم الخميس 30 كانون الأول الرومي والغيوم البيضاء متلبدة في السماء والهواء لطيف معتدل، وما كاد ينقضي الهزيع الأول من الليل حتى أخذ الثلج يتساقط بكثرة فاستبشرنا بذلك لأن الأرض كانت عطشى مشتاقة إلى الماء، وبعض الزروع الشتوية قد أشرف على التلف. فنمنا ليلتنا فرحين مسرورين إلى أن كان الصباح نهضنا من مضاجعنا لقضاء حوائجنا فما راعنا غير الثلج المتكاثف قدر ذراع وقد تغير الهواء وقرس البرد والغيوم باقية على تلبدها، تثلج مرة وتمسك أخرى، مستمرة كذلك مدة سبعة أيام متوالية، إلى أن كان مساء يوم الخميس سادس كانون الثاني اشتد الدمق «1» وبرد الهواء حتى هبط الزئبق إلى الدرجة العاشرة تحت الصفر في مقياس السانتغراد تحت السماء، فجمد الثلج القديم وتكاثف فوقه الثلج الحديث قدر ذراع والغيوم لم تزل متلبدة ترسل الثلج تارة وتمسكه أخرى، إلى أن انقضى كانون الثاني وتم العقد الأول من شباط. وفي هذه الأثناء قرس البرد حتى بلغ درجة لم نشهد نظيرها فيما مر من حياتنا ولا حدثنا الأشياخ أنهم شاهدوا نظيرها قطّ، فقد أصبحت أصقاعنا في هذه الأيام تضارع الأصقاع القريبة من القطب الشمالي المعروفة باسم (سبيريا) حيث يهبط الزئبق إلى الدرجة الثلاثين تحت الصفر، وقد هبط عندنا في هذه الأيام إلى الدرجة الرابعة والعشرين. وفي رواية- عمن عني بهذا الأمر وحققه- أن الزئبق هبط في بعض الأيام إلى الدرجة السابعة والعشرين تحت الصفر بالمقياس المذكور.
تأثير الثلج والقرّ:
وقد نجم عن هذا الثلج والقرّ العظيمين وقوف حركة القطار الناري مدة ثلاثين يوما بين حلب ودمشق وبيروت، ثم سار من حلب إلى حمص بعد عناء شديد وبقيت الطريق مسدودة من حمص إلى بيروت ودمشق إلى أوائل شباط، فكأن القطار كان يعتذر عن وقوف حركته في لبنان بقول المتنبي:
وعقاب لبنان وكيف بقطعها
…
وهو الشتاء، وصيفهنّ شتاء
لبس الثلوج بها عليّ مسالكي
…
فكأنها ببياضها سوداء «1»
وقد انقطع سير القوافل من سائر الجهات القاصية والدانية، فغلت الأسعار لا سيما الفحم، فقد ارتفع ثمن رطله من قرشين إلى اثني عشر قرشا وثمن رطل الحطب من قرش إلى ثلاثة قروش، فقاسى الفقراء الشدائد والأهوال من قلة القوت وفقد مادة الوقود وقام الدعّار والشطّار ينهبون أغلاق أبواب قناء الماء ودفوف سقائف الأسواق وتسلطت الأمراض الصدرية والعصبية، فمات مئات من الناس بالأزمة والذبحة الصدرية وذات الجنب وذات الرئة والفالج وسكتة القلب، وكأن الصّقع «2» بدأ يجري على أهله الانتخاب الطبيعي فأخذ من يضعف عن برده وأبقى من يقوى عليه، وقد جمد عدد غير قليل ممن كان مسافرا على الطرق أو كان مضطرا لمعاناة خدمة شاقة في البلد فمات أو كاد يموت لو لم يتداركه الناس بالدّفء أو الأخذ إلى الحمام، ولذا ألزمت الحكومة أصحاب الحمامات بأن يفتحوها ليلا لتكون ملجأ لمن أصابه الجمد، ومأوى للفقراء الذين فقدوا وسائط الدّفء.
واهتمت الحكومة بجمع الإعانات من أصحاب الخير فجمعت زهاء ثلاثة آلاف ليرا، فرقت ثلثها على الفقراء نقودا وثلثها اشترت به طحينا وفرقته وثلثا أحضرت به فحما من جهات حمص وبعلبك شحنته مجانا إلى حلب، إلا أنه لما قارب حماه عارضته الثلوج التي تجدد سقوطها فبقي القطار هناك نحو خمسة عشر يوما إلى أن تمكن من المجيء إلى حلب في أوائل شباط، فبيع منه جانب برأسماله وفرق باقيه على الفقراء. وكانت الحاجة إلى الفحم كثيرة، الفقير والغني فيها على السواء وكان طلب الناس له أشد من طلب القوت، وسبب ذلك أن القوت كان وافرا في حلب بسبب جودة الموسم، أما الفحم فإنه كان- في الوقت الذي جرت العادة على ادّخاره- مفقودا لأن الدوابّ التي تحمله من محلاته في فصل الخريف كانت مشغولة بأعمال الحبوب وكان الناس مؤملين بكثرة وجود الفحم في فصل الشتاء حين تفرغ الدواب من نقل الحبوب، كما يقع ذلك في أكثر السنين التي يكون فيها الموسم جيدا والشتاء معتدلا يمكن أن تسير فيه قوافل الفحم من الجبال وغيرها. أما
الآن فقد كاد يستحيل أن تسير القوافل إلى حلب ولو من أقرب محل إليها ولهذا عزّ وجود الفحم على الغني والفقير وصار من أحب الهدايا بين المتحابين وأفضل الصدقات عن المتصدقين، وكان الناس يستعملون بكثرة مواقد الكاز البترول بالطبخ ويحتالون باستعمالها للدفء بأن يرتكز عليها صفحة الحديد المعروفة بالصاج، ويضعون فيها رملا ويدفؤون عليه.
وفي هذه المدة هلك مئات من الكلاب في حلب وغيرها مما أبقته آفة التسميم التي سلطتها الحكومة عليها في الصيف الماضي، وقد هامت الوحوش والضواري على وجوهها في ضواحي حلب ومفاوزها وهجم بعضها على القصبات، وهلك وصيد ما لا يحصى من الغزلان والذئاب والضباع والنمور والثعالب والأرانب وأنواع الطيور الدواجن وغيرها، وتلف مقدار نصف مليون من غنم القنية «1» وغنم التجار المرسلة من جهات الموصل وأرضروم، ولحق تجار حلب من ذلك نحو سبعين ألف رأس، فانكشف حال كثيرين منهم وارتفعت أسعار اللحم والسمن خمسة وعشرين في المائة ووقفت حركة التجارة، وأقفلت أكثر حوانيت الباعة في الأسواق والخانات، وتعطل كثير من الأفران لفقد مادة الوقود وتهدم مقدار عظيم من سقائف الأسواق، بطبعه، أو هدمته الحكومة خوفا من خطره. وخرب في أنطاكية عدد غير قليل من البيوت لأن بناءها غير مستعد لتحمل أثقال الثلوج التي لا تقع هناك إلا نادرا. وجمد نهر العاصي على مقدار أربعة أذرع من جانبيه، وجمد نهر الفرات كله من بعض جهاته وتفطّر في بعض مساجد حلب أعمدة صخرية مر على ركزها في محلها ستمائة سنة فلم يحصل بها خلل سوى هذه السنة.
وبهذا يستدل على أن برد هذه السنة مما لم يسبق له نظير في حلب منذ ستمائة سنة، وتكسر كثير من الحجارة المرصوفة في سفل الأبواب المعروفة باسم البرطاش وعدد غير قليل من الأدراج الحربية، وتفرقع أكثر الرخام المفروش في المنازل والمساجد، وتحطم مالا يحصى من الأواني الزجاجية التي يحفظ فيها بعض المائعات كالخلّ والأشربة الحلوة، وتخرق الكثير من الظروف النحاسية واختلت طلنبات رفع الماء وتكسر أكثرها، وصقعت
الخضر «1» والبقول الشتوية في البساتين كالسلق والإسفانج والقنّبيط، ولم يسلم منها سوى ذوات الجذور كالجزر واللفت، وعطب شجر البرتقال وما هو من هذه الفصيلة، وشجر التين والجوز والزيتون والرمان في حلب وأنطاكية والباب وأرمناز وسلقين وما قارب تلك النواحي، وقبحت مناظر المنازل والشوارع بما تراكم فيها من الثلوج وأكداس الجليد واندلاع ألسن الميازيب وسيلان أنوف الأسطحة مما تقشعرّ لمنظره النفوس وترتعد له الفرائص.
ولسان حال الناظر إلى ذلك يقول:
فإن كنت يوما مدخلي في جهنّم
…
ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم
مناظر تخدع العين وتدهش العقل، فيحسب السائر في منازل حلب وشوارعها أنه سائر في خرابة عظيمة رومانية أخنى عليها الدهر وعاثت بها أيدي الأيام والليالي، حتى عادت أنقاض أطلالها ركاما وأبنيتها المتزاحمة وديانا. عطلت الحكومة جميع المكاتب والمدارس وانقطع البريد عن حلب من جميع الجهات مدة ثلاثين يوما، فاجتمع في ثغر بيروت من الكتب والرسائل ما يملأ ثلاثين عدلا. ثم في العشر الأول من شباط حملت في البحر إلى إسكندرونة ومنها إلى حلب.
وكان الناس في بحران هذه الأزمة «2» الشديدة قد لزموا منازلهم وانقطعوا عن السمر والسهر عند بعضهم، وكان كثير من العائلات المتوسطة في الحال- التي كانت العائلة الواحدة منها تسكن أفرادها متفرقة في خلوات الدار وغرفها- قد انضموا في أثناء هذه الشدة إلى بعضهم، وصاروا كلهم، كبار وصغار «3» ، يقومون ويقعدون في خلوة واحدة طلبا للدفء فلا يجدونه، وكان الإنسان يتدثّر بأثقل ما عنده من الدثار حتى يكلّ متنه ويوقد في خلواته المناقل العديدة فلا يتيسر له الدفء الذي يريده، وقد جمد مداد المحابر وما في ظروف الماء الموضوعة قرب منافذ الخلوة. وكنا نأخذ قطع الجليد ونذيبها في النار فلا تذوب إلا بعد بضع دقائق، وكأنها- لمّا كان جمودها ببرودة درجتها بضع
وعشرون تحت الصفر- كان ذوبانها موقوفا على حرارة تعدل درجتها درجة برودتها.
ومن الغريب أن رجلا احتاج إلى منقل مهجور عنده فأسعر فيه النار وطبخ عليها قهوة البن ثم أراد طمر النار في رماد المنقل فأحسّ بجرم في أسفل المنقل تحت الرماد فعالجه فإذا هو قطعة جليد في أسفل المنقل لم تؤثر بها كل هذه النار ولا أذابتها. ومما تقشعر منه النفوس ويقطر له القلب دما موت كثيرين من عرب البادية المخيمين في بيوت الشعر في المفاوز المنقطعة. من ذلك ما حكاه صديق لي من تجار السجاد القافلين من بغداد في هذه الأيام، قال: لما بلغنا مدينة الدير الحمراء واشتد علينا البرد وكثر تساقط الثلج صرنا نسير في عربة مغطاة جلّلناها بالسجاد مع خيولها، ووضعنا فيها موقدة كاز استحضرناها معنا لمثل هذا الطارئ، ولولا ذلك لهلكنا وهلكت دوابنا.
قال: وبعد أن جاوزنا ضواحي الدير قاصدين حلب مررنا على واد لاح لنا فيه بعض بيوت من الشعر منغمسة بالثلج، قال: فنزلت من العربة وقصدت بيتا منها لأستأنس بأهله وأستطلع أحوالهم فوصلت إليه بعد مشقة زائدة، ثم رفعت طرف الخباء ولفتّ نظري إلى داخله فرأيت؛ ولكن ماذا رأيت، لا أراك الله مكروها؟ رأيت ما غشّى على بصري وأوهى عزائمي، رأيت كلبا وأربعة أوادم مطروحين على الأرض جثثا هامدة بلا روح، تبصّ «1» ذرّات الجمد من وجوههم وأيديهم، فعلمت أنهم من شهداء البرد، وعدت عنهم وقلبي يخفق وأعضائي ترتجف. قال: وشاهدت في أثناء الطريق على ضفاف الفرات مئات من جيف الأغنام التي اغتالها البرد. اه.
ورأيت رسالة واردة من بعض تجار اليهود في عينتاب أرسلها إلى شريكه في حلب يقول فيها: بلغ عدد ما افترسته الوحوش من الأوادم في عينتاب وضواحيها في أثناء الثلج بضعا وثلاثين شخصا. وذكر عن واحد قدم من ملطية في هذه الأيام أنه قال: شاهدت في أثناء الطريق المتوسطة بين ملطية وعينتاب نحو ألف صندوق من التفاح وغيره ملقاة على الأرض، قد تخفّف أصحابها بإلقائها وفازوا بأنفسهم ودوابهم.
والخلاصة أن تأثير هذه الحادثة الكارثة عظيم وأضرارها خطيرة لو أفضنا بذكرها لملأنا