الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثمانين، وخلّف ولدين أمير شاه وشاه رخ، ولم يكونا معه. فجلس على سرير الملك حفيده خليل بن أمير شاه، وكان أبوه واليا على ممالك تبريز فقتله قره يوسف حاكم أذربيجان ولما مات خليل المذكور تولّى الملك عمه الشاه رخ. ثم سطا على ملكهم الفاتحون وتلاشت دولتهم سوى بعض أعقاب لتيمور كانوا سلاطين في جهات من الهند.
والناس في أمر تيمور مختلفون: فمنهم من يعدّه كافرا باغيا لإفراطه بإراقة دماء المسلمين، وتسلّط جيوشه على نهب الأموال والأرواح وهتك الأعراض. ومنهم [من] يقول بإسلامه ويعدّه عاصيا ويكل أمره إلى الله تعالى. ومنهم من يزعم أنه مصلح كبير لم يقصد من غاراته على بلاد المسلمين غير ردع ملوك الإسلام وجهادهم كي يكفوا عن مظالمهم التي كانوا يعاملون بها رعاياهم، ويرعووا عن قتل بعضهم البعض، حتى إنني سمعت من بعض علماء الأتراك القاطنين في بخارى- وقد جمعتني وإياهم باخرة كنت ركبتها في سفري إلى جهات غزّة- أن عددا كبيرا من علماء تركستان وخواصهم يعدّون إيقاع تيمور بالبلاد الإسلامية جهادا مقدسا، ويعتقدون فيه الولاية والكرامة ويترضون عنه كما يترضون على أولياء الله وأصفيائه، وأن ما كان يصدر من جيوشه وعساكره من قتلهم البريئين وهتك أعراض المخدّرات لم يكن عن علم منه ولا رضاء به.
وقد وضع العلماء والمؤرخون كتبا قيمة وأخبارا طوالا في سيرة تيمور وترجمته، أكثرها مطبوع متداول، وأعمّها كتاب «عجائب المقدور في أخبار تيمور» لابن عربشاه. وقد اقتصرنا على ذكر هذه النبذة في الكلام عليه طلبا للإيجاز.
مجيء تيمور إلى حلب وما أحله فيها من الويل والصخب
هذه الحادثة من أعظم الحوادث التي دهت حلب قديما وحديثا وأضرّت بها ضررا مخلّدا، محت آثارها وأطفأت أنوارها وأخذ بها تيمور من الأموال وأفنى من النفوس، وأسر من العلماء وأرباب الحرف والصناعات ما لا تحصيه الأقلام ولا يعلم عدده إلا العليم العلام، وذلك أن تيمور بعد أن أقلع عن قلعة الروم- كما حكيناه- تقدّم إلى عينتاب فأجفل أهل القرى بين يديه وجفل أهل البلاد الحلبية. ثم اجتاز بمرج دابق، وفي يوم الخميس تاسع ربيع الأول سنة 803 نازل حلب، وكان نائبها المقرّ السيفي دمرداش الخاصكي
وقد حضرت إليه عساكر الملكة الشامية كعسكر دمشق مع نائبها سودون، وعسكر طرابلس مع نائبها المقرّ السيفي شيخ الخاصكي، وعسكر حماة مع نائبها دقماق، وعسكر صفد وغزّة فاختلفت آراؤهم فمن قائل: ادخلوا المدينة وقاتلوا من الأسوار، وقائل:
اخرجوا إلى ظاهر البلد تلقاء العدو بالخيام.
فلما رأى نائب حلب اختلافهم أذن للناس في إخلائها والتوجه حيث شاؤوا، وكان نعم الرأي لو فعلوا، فلم يوافقوا على ذلك وضربوا خيامهم في ظاهر البلد تلقاء العدو، وحضر قاصد تيمورلنك فقتله نائب دمشق قبل أن يسمع كلامه، وبئسما فعل. ثم إن النواب ومعهم بعض العساكر والعامة خرجوا إلى جهة بابلّي تحت مشهد الشيخ فارس، وسمع بعضهم دمرداش وهو يقول للتتر: إنا إذا حملتم أنكسر، أو كلاما مثل هذا. ولما وقف الحلبيون والتقى الجيشان قرأ ابن القلعيني قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ
الآية وكان صيّتا. واستمر القتال يوم الخميس والجمعة.
ولما كان يوم السبت حادي عشر الشهر المذكور ركب تيمور وجمع وحشد، والفيلة تقاد بين يديه وهي ثمانية وثلاثون فيلا وزحف على حلب فانخذل دمرداش وانحاز إليه سرا يعلمه المخازي، وانهزم المسلمون بين أيدي التتر وجعلوا يلقون أنفسهم من الأسوار والخنادق، والتتر في أثرهم يقتلون ويأسرون وقد أحالت العساكر بالحوافر أجساد العامة، وجرى من دخول المنهزمين بالأبواب من فساد الأجساد وذهاب المهج ما أذهب العقول.
وأما سودون نائب دمشق فإنه قاتل على باب النيرب قتالا عظيما وحمل عليه معظم جيش تيمور وهو ثابت صابر، إلا أنه لما شاهد الغلبة دخل حلب. ودخلها جيش تيمور ينهبون الأموال ويحرقون المباني ويخربونها ويقتلون الكبار والصغار ويفتضّون الأبكار، ويأخذون المرأة ومعها ولدها الصغير على يدها فيلقونه من يدها ويفسقون بها. فلجأ النساء عند ذلك إلى الجامع الكبير ظنا منهنّ أن هذا يقيهنّ من أيدي الكفرة، وصارت المرأة تطلي وجهها بطين أو بشيء يشوّه محاسنها، فيأتي ذلك العلج إليها ويغسل وجهها ويتناولها ويتمسح بالأوراق الشريفة. ودام هذا الحال من يوم السبت إلى يوم الثلاثاء. ومع ذلك فإن طائفة من عساكر التتر لم يزالوا يشتغلون بنقب القلعة وبها جميع النواب وخواص الناس وأكثر أموالهم ونفائس أمتعتهم.
وفي يوم الثلاثاء المذكور- وهو رابع عشر ربيع الأول- أخذ تيمور القلعة بالأمان، ونزل إليه دمرداش، وخلع تيمور عليه وصعدها في اليوم الثاني فدخل مقام الخليل وأسفّ رأسه «1» عند عتبته وقبّلها. ثم جلس في المقام وطلب علماء حلب وقضاتها، فحضر إليه القاضي شرف الدين موسى الأنصاري، والعلامة محب الدين بن الشحنة.
وكمال الدين بن العديم، وعلاء الدين أبي الحسن «2» علي بن خطيب الناصرية وغيرهم فوقفهم ساعة ثم أمر بجلوسهم وطلب من كان معه من أهل العلم وقال لأميرهم وهو المولى عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي، وكان والده من العلماء المشهورين بسمرقند:
قل لهم إني سائلهم عن مسألة سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وغيرهما من البلاد التي فتحتها، فلم يفصحوا عن جوابها فلا تكونوا مثلهم، ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم، وليعرف ما يتكلم فإني خالطت العلماء ولي بهم اختصاص وألفة، ولي في العلم طلب قديم.
قال ابن الشحنة: وكان بلغنا عنه أنه يعنّت العلماء في الأسئلة ويجعل ذلك سببا لقتلهم أو تعذيبهم، فقال القاضي شرف الدين عن ابن الشحنة: هذا شيخنا ومدرّس هذه البلاد وفقيهنا اسألوه والله المستعان. فقال عبد الجبار لابن الشحنة: سلطاننا يقول إنه بالأمس قتل منّا ومنكم فمن الشهيد: قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع وقالوا في أنفسهم: هذا الذي بلغنا عنه من التعنّت. فسكت القوم. قال ابن الشحنة: وفتح الله عليّ بجواب سريع بديع وقلت: هذا سؤال سئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجاب عنه، وأنا مجيب بما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الشّحنة: قال لي صاحبي القاضي شرف الدين بعد انقضاء الحادثة: والله العظيم، لما قلت: هذا سؤال سئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجاب عنه، وإنك لمحدّث زماننا وعالمنا، قد اختل عقله. وهو معذور؛ فإن هذا سؤال لا يمكن الجواب عنه في مثل هذا المقام. ووقع في نفس عبد الجبار مثل ذلك، وألقى تيمور سمعه وبصره إلي، وقال لي:
عبد الجبار يسخر من كلامي كيف سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف أجاب؟ قلت: جاء أعرابيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الرجل يقاتل حميّة ويقاتل شجاعة ويقاتل ليعرف مكانه، فأيّنا في سبيل الله؟ فقال عليه السلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي
العليا فهو في سبيل الله، ومن قاتل منّا لإعلاء كلمة الله فهو الشهيد. فقال تيمور: خوب.
وقال عبد الجبار: ما أحسن ما قلت. وانفتح باب المؤانسة، وقال تيمور: إني رجل نصف آدمي وقد أخذت بلاد كذا وكذا وعدد سائر ممالك العجم والعراق والهند وسائر بلاد التتر. فقلت: اجعل شكر هذه النعمة عفوك عن هذه الأمة ولا تقتل أحدا. فقال:
إني والله لم أقتل أحدا قصدا وإنما أنتم قتلتم أنفسكم في الأبواب، وو الله لا أقتل منكم أحدا وأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم.
وتكررت الأسئلة منه والأجوبة منّا، وطمع كل أحد من الفقهاء الحاضرين، وجعل يبادر إلى الجواب ويظن أنه في المدرسة، والقاضي شرف الذين ينهاهم ويقول: اسكتوا ليجاوب هذا الرجل فإنه يعرف ما يقول. يريد بالرجل ابن الشحنة. وآخر سؤال سأل عنه: ما تقولون في عليّ ومعاوية ويزيد؟ فأسرّ شرف الدين إلى ابن الشحنة- وكان إلى جانبه- أن أعرف كيف تجاوبه فإنه شيعي. فلم يفرغ ابن الشحنة من سماع كلام تيمور إلا وقد قال القاضى علم الدين بن القفصي الصيفي المالكي كلاما معناه أن عليا اجتهد وأصاب وله أجران، ومعاوية اجتهد وأخطأ وله أجر واحد. فتغيظ تيمور لذلك. ثم أجاب القاضي أبو البركات موسى الأنصاري الشافعي بأن معاوية لا يجوز لعنه لأنه صحابي.
فقال تمرلنك: ما حدّ الصحابي؟ فأجابه: إنّه «1» كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال تمرلنك:
فاليهود والنصارى رأوه. فأجابه: بشرط أن يكون [الرّائي «2» ] مسلما. وأجاب شرف الدين أيضا بأني رأيت حاشية على بعض الكتب أنه يجوز لعن يزيد فقط. فتغيظ لذلك ووعدهم بالقتل وقال: علي على الحق ومعاوية ظالم ويزيد فاسق وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزيديون قتلوا الحسين.
فأخذ ابن الشحنة في ملاطفته بالاعتذار عن المالكي بأنه أجاب بشيء وجده في الكتاب لا يعرف معناه. قال في كنوز الذهب: فلم يقبل وقال: أريد منكم مالا وأنتم أعلم ببعضكم بعضا. فأخذوا الورقة وكتبوا فيها أسماء من عليهم المال، وقدر ما على كل واحد. وقصد بذلك أن يعلم درجتهم في المال. ثم أخذ بعد ذلك في مصادرة الناس وعقوبتهم. ثم إن
تيمور عاد حلمه في ذلك المجلس. قال ابن الشحنة: وأخذ عبد الجبار يسأل مني ومن شرف الدين، فقال عن ابن الشحنة: هذا عالم مليح، وعن شرف الدين: هذا رجل فصيح. قال ابن الشحنة: فسألني تيمور لنك عن عمري فقلت: مولدي سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقد بلغت الآن أربعا وخمسين. وقال للقاضي شرف الدين: كم عمرك؟ قال:
أنا أكبر منه بسنة. فقال تيمور لنك: أنتم في عمر أولادي، أنا عمري اليوم بلغ خمسا وسبعين سنة.
وحضرت صلاة المغرب وأقيمت الصلاة وأمامنا عبد الجبار وصلّى تيمور لنك إلى جانبي قائما يركع ويسجد ثم تفرقنا. وفي اليوم الثاني غدر بكل من في القلعة وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة مما لا يحصى. قال ابن الشحنة: أخبرني بعض كتابه أنه لم يكن أخذ من مدينة قطّ مثل ما أخذ من هذه القلعة ولا ما يقاربه، وعوقب غالب المسلمين بأنواع العقوبات وحبسوا بالقلعة ما بين مقيّد ومزنجر ومسجون ومرسم عليه. ونزل تيمور لنك من القلعة بدار النيابة وصنع وليمة على زي المغل ووقف سائر الملوك والنواب في خدمته وأدار عليهم كؤوس الخمر، والمسلمون في عقاب وعذاب وسبي وقتل وأسر، وجوامعهم ومساجدهم ومدارسهم وبيوتهم في هدم وحرق وتخريب ونبش إلى آخر ربيع الأول.
ثم طلبني ورفيقي القاضي شرف الدين وأعاد السؤال علينا فقلت له: الحق كان مع علي، وليس معاوية من الخلفاء، فإنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة. وقد تمت بعلي. فقال تيمور لنك: قل على عليّ الحق ومعاوية ظالم. فقلت:
قال صاحب الهداية: يجوز تقلّد القضاء من ولاة الجور، فإن كثيرا من الصحابة والتابعين تقلدوا القضاء من معاوية وكان الحق لعلّي في نوبته. فانسرّ لذلك وطلب الأمراء الذين عينهم للإقامة بحلب وقال لهم: إن هذين الرجلين نزول عندكم بهذه البلدة فأحسنوا إليهما وإلى ألزامهما وأصحابهما ومن ينضم إليهما ولا تمكّنوا أحدا من أذيتهما ورتّبوا لهما علوفة ولا تدعوهما في القلعة بل اجعلوا إقامتهما بالمدرسة، يعني السلطانية التي تجاه القلعة. وفعلوا ما أوصاهم به إلا أنهم لم ينزلونا من القلعة، وقال لنا الذي ولي الحكم منهم بحلب الأمير موسى ابن الحاجب طغاي: إني أخاف عليكما، والذي فهمته من نسق تيمور أنه إذا أمر بسوء فعل بسرعة ولا محيد عنه، وإذا أمر بخير فالأمر فيه لمن وليه.
وفي أول يوم من ربيع الآخر برز إلى ظاهر حلب متوجها نحو دمشق، وثاني يوم أرسل يطلب علماء البلد، فرحنا إليه والمسلمون في أمر مريج وقطع رؤوس، فقلنا: ما الخبر؟ فقيل: إن تيمور يطلب من عسكره رؤوسا من المسلمين على عادته التي كان يفعلها في البلاد التي أخذها. فلما وصلنا إليه أرسلنا رسولا يقول له: إننا قد حضرنا وهو حلف ألّا يقتل أحد منا صبرا. فعاد إليه ونحن ننظره وبين يديه لحم سليق في طبق يأكل منه، فتكلم معه يسيرا ثم جاء إلينا شخص بشيء من ذلك اللحم فلم نفرغ من أكله إلا وزعجة قائمة، وتيمور صوته عال، وساق شخصا هكذا وآخر هكذا وجاءنا أمير يعتذر ويقول:
إن سلطاننا لم يأمر باحضار رؤوس المسلمين وإنما أمر بقطع رؤوس القتلى وأن يجعل منه قبة إقامة لحرمته على جاري عادته، ففهموا عنه غير ما أراد وإنه قد أطلقكم فامضوا حيث شئتم.
قلت: وحكى القرماني عن بعض الثقات أنه شاهد بظاهر حلب قد بني شبه المآذن من رؤوس الرجال مرتفعة البناء، دورها نيّف وعشرون ذراعا وعلوّها في الهواء نحو عشرة أذرع بارزة وجوهها تسفي عليها الرياح وعدّتها عشرة. ثم قال ابن الشحنة: وركب تيمور لنك من ساعته وتوجه نحو دمشق فعدنا إلى القلعة ورأينا المصلحة في الإقامة بها.
وأخذ الأمير موسى في الإحسان إلينا وقبول شفاعتنا وتفقد أحوالنا مدة إقامته بحلب وقلعتها، وتأتينا الأخبار بأن السلطان الملك الناصر فرج قد نزل إلى دمشق وأنه كسر تيمور، ومرة نسمع بالعكس، إلى أن انجلت القضية عن توجه السلطان إلى مصر بعد أن قاتل تيمور قتالا شديدا أشرف منه تيمور على الكسرة والهزيمة.
ولما كان سابع عشر شعبان المعظم من السنة المذكورة وصل تيمور عائدا من الشام إلى الجبّول شرقي حلب ولم يدخل حلب بل أمر المقيمين بها من جهته بتخريب القلعة وإحراق المدينة ففعلوا ونزلوا من القلعة، وطلبني الأمير السيد عز الدين، وكان من أكبر أمرائه وقال: إن الأمير «تيمور قان» يسلم عليك ويقول: إن عنده مثلك كثيرا وهذه البلاد باب مكة وليس بها عالم فلتكن أنت بها، وقد رسم بإطلاقك ومن معك من القضاة، فاطلب من شئت وأكثر لأروح معكم إلى مشهد الحسين وأقيم عندكم حتى لا يبقى من عساكرنا أحد. وكان القاضي شرف الدين لا يفارقني، وطلبنا من تأخر من القضاة في القلعة واجتمع منا نحو ألفي مسلم، وتوجّهنا صحبة المشار إليه لمشهد الحسين وأقمنا به
ننظر إلى حلب والنار تضرب في أرجائها. وبعد ثلاثة أيام لم يبق من التتر أحد ونزلنا إلى بيوتنا بالمدينة فاستوحشنا منها ولم يقدر أحد منا على الإقامة ببيته من النّتن والوحشة، ولم يمكن السلوك في الأزقة من ذلك، كما قال:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا
…
أنيس، ولم يسمر بمكة سامر «1»
قال أبو ذر في تاريخه: وأما الجامع الكبير فكانت القتلى فيه من الباب الشرقي إلى البركة، وصار الناس يمشون على القتلى إلى بعد ذهاب هذه المحنة فدفنوا بالحجازية «2» من الجامع.
قال ابن خطيب الناصرية في تاريخه: وقال الشعراء في هذه الحادثة المدلهمة عدة قصائد، فمن ذلك ما قاله بعض أهل الأدب:
يا عين جودي بدمع منك منسكب
…
طول الزمان على ما حلّ في حلب
من العدوّ الذي قد أمّ ساحتها
…
ناح الغراب على ذاك الحمى الخرب
ويلاه ويلاه يا شهبا عليك وقد
…
كسوتني ثوب حزن غير منسلب
من بعد ذاك العلا والعزّ قد حكمت
…
بالذل فيك يد الأغيار والنّوب
وحين جاء قضاء الله ما دفعت
…
عنك الجيوش ولا الشجعان بالقضب
وأصبح المغل حكّاما عليك ولم
…
يرعوا لجارك ذي القربى ولا الجنب
وفرقوا أهلك السادات وانتشروا
…
في كلّ قطر من الأقطار بالهرب
وبدّلوا من لباس اللين ذا خشن
…
نعم، ومن راحة الأبدان بالتعب
وكلّ ما كان من مال لديك غدا
…
في قبضة المغل بعد الورق والذهب
وخرّبوا ربعك المعمور حين غدوا
…
يسعون في كل نحو منك بالنكب
وخرّقوا من بيوت الله معظمها
…
وحرّقوا ما بها من أشرف الكتب
كذا بلادك أمست وهي خالية
…
وأصبحت أهلها بالخوف والرعب
لكن مصيبتك الكبرى التي عظمت
…
سبي الحريم ذوات الستر والحجب
من كل آنسة لا شمس تنظرها
…
ولا يراها سوى أم لها وأب
يأتي إليها عدوّ الدين يفضحها
…
ويجتليها على لاه ومرتقب