الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتعلمن فيها أصول الرقص وأعمال التمثيل المعروفة بالتياترو، وأن يستخدمن في الحكومة كالرجال.
إن عقلاء الأمة العربية لا ينكرون وجوب تعليم البنات وتهذيبهن إلى حدّ لا يتعدى ما يلزمهن في تحسين الأحوال المنزلية والتربية العائلية؛ وإنما ينكرون لزوم تعليمهن أصول الرقص وأعمال التمثيل والاستخدام في دوائر الحكومة، ويقولون حينما يقرءون تلك المقالات: إذا كان غرض الحكومة من إيصال البنات إلى هذا الحد هو الاقتداء بأوربا لتترقى بلاد هذه الحكومة كترقي أوربا فإن أوربا لم تجعل إيصال البنات إلى هذا الحدّ أول خطوة من خطواتها في سبيل التقدم والرقي؛ وإنما كانت الخطوات الأولى منها في ترقّيها وتقدمها هو»
ممارسة العلوم النافعة العمرانية التي لا يتم للأمم أمر العمران إلا بإحرازها منها النصيب الأوفر، لا من علوم الرقص والقصف ودواعي الفجور والشرور.
على أن فن الرقص والتمثيل العلمي لا بدّ وأن يتقدمه علم الأخلاق وتهذيب النفس؛ وإلا كان مدعاة لفساد أخلاق الفتاة وتلويث شرفها. ثم لنفرض أن تعليم البنات الرقص وفنون التمثيل أمر مستحسن؛ إنما كان التجاهر به في هذا الوقت غير مستحسن لأنه مخالف لتقاليد هذه البلاد التي يرى أهلها المسلمون أن التمسك بالشرع من أعظم أسباب الانتصار في هذا الوقت الحرج.
إفساح الحكومة مجال البغاء:
ومن المنفّرات العظيمة أيضا إفساح الحكومة مجال البغاء، وتكثير فتح أبواب العهر وشدة العناية بتيسير وسائط الوصول إليه في أكثر البلاد العثمانية، حتى كان لحلب من هذه الوسائط النصيب الأوفر، فقد فتح فيها على صفة رسمية ما ينوف على مائتي بيت يجمعها اسم «المنزول» أي الماخور. هذا عدا مئات من بيوت العهر غير الرسمية التي كانت متفرقة في المحلات بين البيوت والمنازل التي يسكنها أهل العرض والناموس، فكان الإنسان إذا رفع خبر بيت من هذه البيوت المدنسة إلى الحاكم لينقل أهله إلى «المنزول» بحسب أحكام القانون يكن «2» جواب الحاكم قوله له: (ليس لنا أن نخرج صاحبة هذا البيت من بيتها
إذا لم يظهر منها لجيرانها «زررتي» - يعني بهذه الكلمة فتنة أو استعمال سلاح أو تلويث باب دار جار- أما ما دامت تجري شؤونها، ولا يظهر بسببها للجيران شيء من الإضرار المذكورة فليس لنا عليها من سبيل) .
على أن الذي كان يدافع عن أمثال هذه البيوت ويقف في وجه المشتكين منها هم رجال الشرطة أو الضباط العسكريون؛ لأنهم هم الذين كانوا يترددون عليها للعهر، أو كانوا يأخذون من كل بيت منها راتبا أسبوعيا ليدافعوا عنها تجاه أهل المحلة ويحموها ممن يسيء معاملتها من الزبائن. فكان أهل العرض والشرف المجاورون هذه البيوت المدنسة يتكبدون كل ضرر من جوارهم، ويسلبون الراحة والقرار في الحرص على حريمهم وبناتهم كيلا يلحقهن شيء من فساد الأخلاق بسبب الجوار، الأمر الذي أصيب به كثير من الناس وأصبحوا منكسي الرأس.
وبينما كان الناس يتضجرون من كثرة المومسات ووفور بيوت الريبة؛ إذ أصبحوا- وهم في أواخر أيام هذه الحرب- فرأوا في محلة «بحسيتا» بيوتا علّق على أبوابها ألواح كتب فيها (ملاقاتخانه) نومرو (كذا) ، أي محلّ لقاء. فسألنا عن المراد من هذه البيوت، فقيل لنا: المراد منها تسهيل الوصول إلى المحبوب لذوي الهيئات الذين يتحاشون الدخول إلى «المنزول» . فعجبنا من اعتناء الحكومة بهذه الأمور الرذيلة، في الوقت الذي تقضي فيه عليها السياسة- فضلا عن الدين- أن يكون تباعدها عنها فوق كل تباعد رعاية لعواطف الرعايا المسلمين. والغريب أن المراجع التي كان يلجأ إليها المشتكي من هذه الأحوال السيئة أصبحت مراكز للمومسات ومصائد لاقتناص الحرائر وإيقاعهن في شبكات الفجور. فقلما كان الإنسان إذا راجع المخفر للتشكي من هذه الأحوال أن لا يرى فيه عاهرة أعدّت لرئيس المخفر أو لأحد مقرّبيه، أو يرى فيه حرّة لها حاجة عند هذا الرئيس قد أمسكها وماطلها لينال منها أربه أجرة له على قضاء حاجتها، فإما أن تضحي شرفها وإما أن تخسر حاجتها.
وكانت نساء العساكر اللواتي يأخذن الرواتب الشهرية من الحكومة- في أثناء غياب أوليائهن- عرضة لبذل شرفهن إلى الشرطة المنوط بهم التصديق على حاجتهن للمعاش، وإلى جباة الأموال المعروفين بالتّحصلداريّة وجماعة كتاب الديوان. فكم من محصنة من هؤلاء النسوة اضطرت أن تبذل صيانها لأمثال هؤلاء لتأخذ مرتّبها الشهري
الحقير الذي لا يفي باقتياتها سوى يومين من الشهر. وكم جرّت الحاجة أمثال هؤلاء النسوة إلى منتهى درجات التبذل، حتى صرن يجلسن في الشوارع والطرقات عرضة لخطّاب العهر ينلن منهم دريهمات يصرفنها على القوت الذي يحفظ عليهن رمقهن. ومن هؤلاء النسوة من يعز عليهن شرفهن فلم يرضين أن يحفظن رمقهن ببذل شرفهن، فاخترن ما هو أخفّ وطأة من هذا، وصرن يتعاطين السرقة بأنواع الحيل والدسائس فينالهن بسبب هذه المهنة من المكروه والإهانة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. ومنهن من لم ترض بهذا ولا بهذا؛ بل حملها شرف نفسها على أن تحفظ رمقها بالتسؤّل والجلوس في الشوارع، ومدّ يدها إلى استعطاف المارّين والعابرين، فكانت تقضي سائر نهارها ولا تجمع قيمة خمسين درهما من الخبز لأن قيمة مائة درهم منه بلغت ستة قروش.
كان الإنسان السخيّ يتصدق قبل هذه الحرب على واحدة من أمثال هؤلاء الفقيرات بربع القرش، فتعدّ صدقته كثيرة لأن أكثر الناس يتصدق أحدهم على أمثالها بثمن القرش أو بنصف ثمن القرش، وكانت الفقيرة تعيش من هذه الصدقة الطفيفة عيشة كافلة حياتها واقية نفسها من كوارث السغب وكواسر العطب. أما بعد حدوث هذه الحرب وارتقاء أسعار الأقوات في أثنائها إلى عشرين ضعفا عما كانت عليه قبلها؛ صار ذلك الإنسان يتصدق على أمثال تلك الفقيرات بربع القرش، فترى الفقيرة صدقته جزئية لأنها مهما أعانها الحظ لا يمكنها أن تجمع في يومها ثلاثين ربعا جمعها سبعة قروش ونصف، وهي قيمة مائة وعشرين درهما من الخبز، وهو مقدار لا يكفيها وحدها فضلا عن ولدها أو أولادها المتعددين، فكانت هذه المسكينة تعجّ وتضجّ طول نهارها بل إلى وقت العتمة، وهي تستجير وتستغيث وتنادي بأعلى صوتها:(جوعانه جوعانه يا أهل الخير) فلا تجد لها راحما ولا مغيثا، حتى كأن الشفقة قد نزعت من القلوب ثم لا تلبث هذه المنكودة الحظّ حتى يدبّ الضعف في جسمها وأجسام أولادها، ويستولي عليهم المرض ويكونوا في النهاية فريسة الجوع.
كل هذا؛ وأكثر كبار المأمورين من ملكيين وعسكريين يجمعون ألوف الليرات بالتسلط على أرزاق العساكر وأموال الدولة والرعية بأنواع أساليب السلب والنهب ويصرفون ما عزّ وهان من ذهبهم الرنان على شراء الحليّ والحلل لنسائهم، والتغالي فيما يقدمونه لبطونهم وفروجهم، ولا تأخذهم رحمة ولا تهزهم شكوى في تعاسة هؤلاء الفقراء الذين