الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما صالح قوج فإنه لما سمع هذه الحكاية قال: هذا شيء عجيب، كيف يقتل هذا ظلما؟ والذين صدر الأمر بقتلهم ثلاثة أشخاص، والمدافع التي أطلقت بإعلان قتلهم ثلاثة، وجثث القتلى التي أصبحت مطروحة في خندق القلعة ثلاث! فإن كان هذا الرجل قتل غلطا وخطأ فإني أفحص عن الرجل الذي كان يستحق القتل وأوقع القبض عليه. مع أن هذا الظالم الماكر قتل في تلك الليلة أربعة أشخاص دون ذنب ولا جناية بدل أربعة أشخاص صدر الأمر بقتلهم، فرشوه وخلّى سبيلهم، وقتل عوضا عنهم من لا ذنب لهم وألقى جثثهم في خندق القلعة، كما أخبر بذلك من كان عالما بحقيقة الحال.
انتهى ملخصا من تاريخ جودت باشا، مع زيادة قليلة وقفت عليها في بعض المجاميع، وقد ذكر فيها أن زعماء الثائرين في هذه الحادثة هم من السادات وأن الصلح وقع أخيرا مع اليكجرية فقط بسبب مخامرة السادات عليهم، ولذا كان معظم من قتل في تلك الوقعة من السادات. قلت: هذه الحادثة كانت من أهم الحوادث التاريخية وأعظمها بحلب، حتى إني رأيت في بعض الفهارس الإفرنجية الواردة من باريس أنه يوجد في حانوت صاحبها كتاب مخطوط يشتمل على زهاء ثلاثمائة صحيفة، كله في خبر هذه الواقعة. وفي الحال كتبت في طلبه إلى باريز فرجع الجواب إليّ بأنه بيع قبل وصول كتابي.
وفي أواخر هذه السنة 1235 حول خورشيد باشا إلى إيالة المورة، وولي حلب مصطفى باشا البيلاني صاحب الحمّام المنسوب إليه في محلة الفرافرة تجاه مزار النسيمي بحلب، وهو الذي جدد هذا المزار، وزوجته ماهلقا مدفونة فيه، وهي صاحبة السبيل الكائن في أواخر سوق العبي في حضرة المفارق الأربعة. وفي سنة 1237 ولي حلب إبراهيم باشا.
الزلزلة الكبرى في حلب وأعمالها:
في نحو الساعة الثالثة من ليلة الأربعاء بعد العشاء الأخيرة ثامن وعشرين من شهر ذي القعدة من هذه السنة 1237 هـ الموافق آب سنة 1821 م زلزلت حلب زلزالا شديدا امتد حكم سلطانه الرهيب إلى مسافات بعيدة عن حلب، انتهت حدوده شمالا إلى مرعش، وجنوبا إلى حمص، وشرقا إلى الفرات، وغربا إلى إسكندرونة. زحفت جيوشه الجرارة إلى جميع هذه البلاد وما في ضواحيها وصحاريها من البلدان والقرى. وكان أعظمها مصيبة
به وأشدها نكبة وبلاء مدينة حلب ثم أنطاكية وبلاد القصير الأعلى والأسفل.
حدثني الشيخ المعمّر محمد آغا مكانسي أحد أعيان حلب ووجهائها في القرن الثاني عشر المولود سنة 1202 والمتوفى سنة 1309- وكان دقيق الفكر حسن التعبير قوي الحافظة لا يشذّ عن ذهنه كلّي ولا جزئي من الحوادث والكوارث التي مرت عليه مدة حياته بعد طور طفوليته- وكنت أسمر عنده في مصيف منزله الكبير الكائن في محلة محمد بك، في ليلة من شهر تموز طاب نسيمها وسطع بدرها. وقد سألته عن أعظم فزعة عرته في حياته، بمناسبة حديث كان يحدثنا به عما قاساه من الأهوال والأخطار في بعض أسفاره إلى الحجاز حينما كان إسباهيا «1» يرافق ركب الحاج فقال مجيبا لي عن سؤالي: إن أعظم فزعة عرتني مدة حياتي فزعة ارتعدت لها فرائصي وأوقعتني في مهاوي اليأس من الحياة، كانت في ليلة الزلزلة الكبرى التي حدثت في سنة كذا (وذكر الليلة التي قدمنا ذكرها) .
ثم طفق يقص علينا نبأ تلك الحادثة فقال: بينما كنت جالسا في مصيف داري القديمة في ذلك الوقت أسمر مع جماعة من خلّاني وألتذ بمنادمتهم وحسن حديثهم- والنسيم البليل يحيينا بأنفاسه وينعشنا بلطيف هبوبه- إذ انقطع عنا بغتة واشتد الحر حتى شعرنا بضنك في صدورنا وضيق بأنفاسنا، وما مرّ علينا سوى نحو عشرين دقيقة في هذه الحالة المضنكة إلا وسطع في جو الفضاء ضوء أشرقت به الدنيا إشراقها بالشمس تتجلى في ذروة الفلك الأعلى، فرفعنا أبصارنا إلى العلاء فرأينا هذا النور الساطع صادرا من كوّة مفتوحة في كبد السماء كأنها نافذة من نوافذ جهنم، وما كدنا نرجع أبصارنا إلى الحضيض حتى أوقر أسماعنا دويّ كهزيم الرعد، وإذا بالأرض قد مادت بنا يمنة ويسرة والنجوم أخذت تتناثر وتتطاير في أفق السماء كشرر يتطاير من أتون. ثم انتفضت الأرض أربع مرات متوالية أزاحتنا عن مقاعدنا، فنهضنا على أقدامنا وما منّا أحد إلا وقد أحسّ بدنو أجله كأن السماء وقعت عليه، أو الأرض كادت تنخسف تحت قدميه. فصرنا نكرر الشهادتين ونضرع إلى الله تعالى بقولنا: يا لطيف، والجدران تتداعى وتخرّ السقوف وتتدهده الحجارة على الأرض فيسمع لها جلبة ودويّ تقشعر منهما النفوس. كل هذا جرى في برهة من الزمن لا تزيد على نصف دقيقة وقد اشتد غواش الناس وضجيجهم يستغيثون بالله، وعلا صراخ
النساء وعويلهن، وطفقت الخلائق تركض إلى الصحراء وهم يتدافعون ويتزاحمون في الشوارع والأزقة هائمين على وجوههم، لا يلوي والد على ولد، كلّ يهرع مهرولا إلى ساحل السلامة يطلب النجاة لنفسه حتى كأن القيامة قد قامت وآذن حبل الحياة بالانصرام، وكان القتام شديدا حلك منه الظلام وحجب النجوم عن العيون.
أما الجماعة الذين كانوا يسمرون عندي فقد أسرعوا الكرّة إلى منازلهم ليتفقدوا أهلهم.
وأما أنا فقد كان أهلي حين وقوع هذا القضاء جالسين في صحن الدار، وكانت الدار فسيحة وجدرانها قصيرة لم يؤثر بها الزلزال ولا انهدم منها شيء، فجمعتهم في وسط الصحن وبتنا ليلتنا في قلق زائد، لأن الأرض كانت في كل برهة ترتجف وتختلج، ونحن نستغيث بالله ونتعوذ به من سخطه. فلما طلع الفجر أحضرنا جماعة من العتّالين فحمّلناهم من البيت ما يقوم بسدّ حاجاتنا من الفرش والمؤنة وخرجنا بالأهل والعيال إلى أحد بساتين الفستق التي في جوار محلتنا، وكان الناس قد خرجوا إليها في الليل وبات أكثرهم على الأرض بلا غطاء ولا وطاء. أما بقية جهات البلدة: فمن ناسها من خرج إلى البرية في جوار محلته، ومنهم من قصد الكروم والبساتين ثم تداركوا الخيم وبيوت الشعر. والأغنياء منهم عملوا بيوتا من الدفّ، ومنهم الفقراء الذي ظلوا تحت السماء بلا كنّ «1» ولا ملجأ.
واستمر الزلزال يتردد نحوا من أربعين يوما تارة خفيفا وأخرى شديدا.
وحين حدوث الزلزلة الأولى كان أكثر الناس على أسطحة منازلهم وفي فسحات دورهم جريا لعادتهم في موسم الصيف، فسلم بهذه الواسطة العدد الكبير من عطب الزلزلة، ولولا ذلك لكان السالم منهم قليلا. ومع هذا فقد مات تحت الردم في حلب زهاء خمس عشرة «2» ألف نسمة. وكان معظم تأثير الزلزلة في محلة اليهود والعقبة وسوق العطارين وأبراج القلعة وما اشتملت عليه من البيوت والمنازل، وما جاور القلعة من المباني التي كانت قائمة في ذلك الفضاء المعروف باسم (تحت القلعة) . قال: ومما يدل على شدة نفضات الزلزلة في أول مرة أن هلال مئذنة جامع العثمانية اندفع من محلّه وسقط على قبة القبلية فخرقها ووقع على أرض القبلية فحفرها.