الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بإرسال ظريف باشا والي حلب وعبد الله بك البابنسي ومعه بعض أقاربه إلى استانبول، فأرسلوا إليها. وبينما هم في الطريق مات عبد الله بك مسموما، وقيل مات حتف أنفه.
ثم إن والي حلب الجديد نفى تقي الدين أفندي إلى القدس. وقبل وصوله إليها عفت الدولة عنه، فسار إلى الحجاز وحج وتوجه إلى استانبول واستقر في منصب إفتاء حلب، فعاد إليها. ونفى والي حلب أيضا يوسف باشا إلى قونية فسار إليها. ثم صدر العفو عنه فتوجه إلى استانبول ومنها إلى حلب. وقد حاز على رتبة مير ميران.
انتهى ما قصدنا إلى إيراده من أخبار فتنة حلب، وقد أسهبت الكلام عليها خلافا لما ألزمت به نفسي من الإيجاز في غيرها من الحوادث والكوارث؛ لأن هذه الفتنة الفاجعة آخر الفتن الأهلية في حلب، ولأن التحدث بها لا يزال يدور على الألسن بين حين وآخر لقرب عهدها بكثير من الناس الذين كان آباؤهم يحدثونهم بنتف من أخبارها وهم في توق شديد إلى سماعها مفصلا.
استطراد في الكلام على احترام رابطة اللسان ورابطة الجوار عند أمة العرب في جاهليتها وإسلاميتها
إن قيام الغوغاء في هذه الحادثة على النصارى- إخوانهم باللسان والجوار- مما لم يسبق له نظير من يوم فتح المسلمون مدينة حلب إلى يوم ظهور تلك الحادثة. فما كان قيامهم هذا بالحقيقة إلا نزعة شيطانية أثارها في أدمغتهم عاصفة الطيش والجهل، الذي «1» يأباها الدين وترفضها حقوق رابطة اللسان والجوار.
إن كل من يتصفح وجوه التاريخ ويستقصي أخبار العرب في جاهليتها وإسلاميتها يتضح له جليا أنه لا يوجد على وجه البسيطة أمة تضاهي أمة العرب من جهة احترامها
الرابطة اللسانية
وحقوق الجار:
الرابطة اللسانية:
أما الرابطة اللسانية فقد جعلتها الأمة العربية هي الجامعة الوحيدة للوحدة القومية التي
تدعو الأمة إلى التحابب والتوادد والتناصر والتعاضد، بحيث يكون كل فرد من أفراد هذه الأمة راقدا بواسطة هذه الجامعة في مهاد الوفاق والوئام مع باقي إخوته العربيين مهما اختلفت مللهم ونحلهم. فقد يتجلى لك من ملامح وجوه التاريخ أن العرب المسيحيين والموسويين والوثنيين في البلدان والقرى والصحاري، من اليمن والحجاز والحيرة والعراق، والجزيرة والشام الجنوبية والشماليّة، كانوا في الأزمنة الغابرة راتعين مع بعضهم في بحبوحة الأمان والسلام على السواء، وكانوا لا يعرفون التعصب للدين ولا النعرة الدينية، بل كانت عصبياتهم لا تنعقد إلا للجنسية والحلف والولاء والجوار، كما أن الحرب التي تقع بينهم كانت لا تثور إلا بسبب التنافس على مادة الحياة والتنازع على الرئاسة، لا لاختلاف الملة والدين. فكانت قبيلة غسان مثلا فيها المسيحيّ والموسوي والوثني، تحارب قبيلة غفار التي يوجد فيها من الملل الثلاث لعداوة دنيوية أو تنافس قومي يقع بين القبيلتين ليس إلا.
ولم ينقل إلينا التاريخ أنه جرى بين أمتين عربيتين حرب أثارتها حمية دينية سوى الطفيف النادر الذي ربما كان سببه أمرا خارجيا عن العرب، صادرا بتحريض من جاورهم وملك السيادة عليهم من الأمتين الفارسية والرومية.
هكذا كانت الرابطة اللسانية مرعيّة عند الأمة العربية القحطانية والعدنانية. ثم لما جاء الإسلام بقيت هذه الرابطة محترمة بين العرب المسلمين وغيرهم، يعتمد العربي على العربي ويركن إليه لمجرد كونه عربيا، غير ناظر إلى ملّته ونحلته. حتى إن هذه العاطفة العالية كانت من جملة العواطف الشريفة التي تحلت بها شمائل النبي العربي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم، فإنه لما اضطهده قومه الأقربون حسدا وحرصا على الرئاسة اضطر إلى الهجرة عن وطنه والالتجاء إلى قوم آخرين يأوي إليهم ويستنصر بهم على أعدائه، فخيّر بالهجرة إلى البحرين أو المدينة أو قنّسرين، فقال: أوحي إليّ: أيّ الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك: المدينة والبحرين وقنّسرين.
ومعلوم أن هذه الجهات كانت مسكونة بالعرب، فالمدينة كانت مأوى أبناء قبيلة الأوس والخزرج، وكان يسكن في ضواحيها قبائل سليم وكلهم أهل أوثان، وكان القاطنون جهة البحرين بطونا من عبد القيس بن ربيعة وبكر بن وائل، ومنهم كان أمير هذه الجهة من قبل الدولة الفارسية- حين مجيء الإسلام- المنذر بن ساوى، من بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وكان فيهم النصراني والوثني. أما قنّسرين- وهي الآن قرية
على مقربة من حلب وكانت بلدة عظيمة وإليها كان يضاف الجند فيقال جند قنّسرين- فقد كان في جهاتها كثير من القبائل العربية التي أشهرها تنوخ، وهم من ذرية النعمان الذي تضاف إليه المعرة، وكانوا نصارى. ولا ريب أن النبي لم يخيّر بالهجرة إلى إحدى هذه الجهات إلا لأن أهلها عرب يحدبون عليه وينصرونه على أعدائه قياما بحق الرابطة المرعيّة بينهم وهي وحدة اللسان.
وهكذا بقيت هذه الرابطة محترمة بين العرب بعد انتقال النبي من هذه الدار إلى دار القرار، فإن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي هو أعظم خلفاء الإسلام- احترم الرابطة اللسانية وبنى عليها صرح نجاحه فيما يتوخاه من مآربه ومقاصده، فأمر العرب المسلمين في مبدأ خلافته أن يبدؤوا بقصد العراق والشام دون غيرهما لأن فيهما عربا يتّحدون معهم وينصرونهم وإن كانوا على غير دينهم. وقد صدّقت الوقائع حسن رأيه وحققت الماجريات صحة تفرّسه، وذلك أن قائده الوليد بن عقبة لما قدم على عرب الجزيرة نهض معهم مسلمهم ونصرانيهم، واستخلصوا الجزيرة من الروم. ولما تقدم عبد الله بن المعتمّ «1» - قائد العرب المسلمين- إلى فتح تكريت والموصل انضم إليه عرب إياد وتغلب والنمر والشهارجة، وكلهم نصارى، فكان فتح هذين البلدين بواسطتهم. ولما قصد المثنى فتح البويب بعث إلى من يليه من العرب المنتصرة يستنصرهم، فوافى إليه منهم جمع عظيم، وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر النصارى، وقالوا:
نقاتل مع قومنا. وقال المثنى لأنس: إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا، فإذا حملت على مهران (وهو قائد من الفرس) فاحمل معي. فأجابه إلى ما طلب وحمل معه هو وقومه على مهران، وكان قاتل مهران غلاما نصرانيا قتله واستولى على فرسه. وحارب زبيد الطائي مع العرب في واقعة الجسر حتى قتل وكان نصرانيا.
وكثيرا ما كان عرب الشام والعراق عونا لإخوانهم العرب المسلمين في حروبهم يرشدونهم وينصحونهم ويحملون إليهم أخبار أعدائهم. من ذلك أن الوليد بن عقبة خرج غازيا إلى الروم فجاءه رجل من العرب النصارى وقال له: إني لست من دينكم ولكنني أنصح، للنسب، فالقوم يقاتلونكم إلى نصف النهار فإن رأوكم ضعفاء أفنوكم، وإن صبرتم