الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير قليل حتى نالها من الوهن والانكسار ما ألزمها الرجوع القهقرى والانسحاب إلى الوراء تاركة من أسراها في أيدي الألمان مئات الألوف، ومن قتلاها بسيوف سطوتهم عشرات الصفوف، ومن الأسلحة والمهمات والذخائر ما يتجاوز عدّه الحدّ الموصوف. واستولى الألمان في هذه الواقعة على بلدان كثيرة من المملكة الروسية التي من جملتها مدينة «ريفا» وإذ ذاك طلبت روسيا من ألمانيا المتاركة والشروع في مذاكرات الصلح، فأجابتها ألمانيا إلى ما طلبت وشرعت الحكومتان تتذاكران بالصلح، وكانت قطعة «أوكرانيا» قد تصالحت مع الألمان بعد أن انفصلت عن روسيا واستقلت بنفسها، وعدد سكانها نحو من أربعين مليونا، فلم ترض حكومة روسيا المركزية بهذا الصلح واستأنفت الحرب مع الألمان مدة عشرين يوما استولت في خلالها الجيوش الألمانية على كثير من بلاد الروس حتى كادت عاصمتهم «بطرس برج» تقع في قبضة استيلائهم، وقد تمزقت جيوش روسيا شذر مذر، وانبثّت جنود الألمان في أنحاء مملكتها وأرجائها وجميع بلدانها الكائنة على ضفاف البحر الأسود، وأخذت ألمانيا مقاطعة أو كرانيا المستقلة تحت حمايتها.
وحينئذ أقرّت روسيا بعجزها عن مقاومة الألمانيين واضطرت أن تعقد معهم صلحا غير شريف بحقها، لأنها رضيت بأن تترك لألمانيا والنمسا مقاطعة بولونيا التي عدد سكانها 18 مليونا، ومدينة ريفا وما جاورها من البلدان التي تضم إليها ثمانية ملايين، ومقاطعة بسارابيا والقريم، البالغ مجموع سكانهما سبعة ملايين، وأن ينسحب الروس عن أراضي تركيا التي احتلوها في هذه الحرب ويتنازلوا لها عن الباطوم والقرص وأردهان، وتستقل إيالة أذربايجان في القفقاس البالغ عدد سكانها نحوا من أربعة ملايين، وتستقل أيضا قفقاسيا الشمالية البالغ عدد نفوسها سبعة ملايين، وتستقل أمّة الكرج على ضفاف البحر الأسود ويبلغ عددهم أربعة ملايين، وأمة الأرمن في «أريوان» «1» وهم مليون، وأن تترك روسيا أسطولها في البحر الأسود تحت سيطرة الألمان إلى نتيجة الحرب.
تفاقم الحرب في الجبهة الغربية:
ثم إن الحرب بين ألمانيا وأخصامها في الجبهة الغربية الفرنسية قد تفاقم أمرها واشتد خطبها؛ لأن ألمانيا قد أضافت إلى صفوفها الواقعة تجاه أخصامها في الجبهة الغربية قوة جديدة
سحبتها من صفوفها التي كانت واقفة أمام الروس في الجبهة الشرقية. كما أن أخصامها- كل من إنكلترة وفرانسة وإمريكا والبلجيك والبرتكيز وغيرهم من الدول- قد أجمعوا أمرهم ونظموا شؤونهم وصمموا على أن يجعلوا هذا الهجوم هو آخر مسرح من مسارح هذه الحرب التي هي حرب حياة أو ممات. فاشتد الخطب على الفريقين وكانت جيوش ألمانيا تدافع مرة وتهاجم أخرى، وكان تقدمهم في أول الأمر أكثر من تأخرهم ثم في أخريات الحرب انعكس معهم الحال وصار تأخرهم أكثر من تقدمهم.
وبينما هم على هذه الحالة إذ فاجأتهم الأخبار بانكسار بلغاريا أمام الجيوش التي أشرنا إليها قريبا في فصل هجوم النمسا وحلفائها على صربيا والجبل الأسود، وأن بلغاريا قد انسحبت عن جميع أراضي صربيا والجبل الأسود واستولى أعداؤها على كثير من بلادها، وأنها قد استسلمت إليهم وأذعنت لجميع مطاليبهم، وأنهم قد اشترطوا عليها أن تكون جيوشها تحت إمرتهم، وأن حكومة النمسا قامت عليها شعوبها ينادون بالصلح ووقف الحرب لأن الجوع كاد يهلكهم، وأن الطريق بين استانبول وبرلين قد انقطعت ولم يبق في الإمكان وصول مدد إلى تركيا من حليفتيها ألمانيا والنمسا، وأن أمنهما من البلغار انقلب إلى الخوف، لأن دول الاتفاق يجعلون بلغاريا على قصد استانبول من جهة الروملّلي، وأن تركيا قد يئست من النجاح في جهة الحجاز وفلسطين والشام والعراق، لضياع هذه البلاد من يدها وتوالي الانكسار على جنودها، وتعويلهم على الانهزام أو الالتجاء إلى الجيوش الإنكليزية العربية. وكان سلطان الجوع قد استولى على شعوب ألمانيا فأباد من أطفالهم وفقرائهم الملايين واضطرهم إلى القيام على ملكهم ومناداتهم بإبطال الحرب وإعادة السلم.
توالت على ألمانيا هذه النوائب من جهة وتألب عليها أعداؤها من جهة أخرى فلم يبق لها سوى الإذعان والرضاء بما اقترحه ويلسن رئيس جمهورية إمريكا على المتحاربين وهو تقرير الهدنة بينهم على شرط انسحاب جيوش ألمانيا عما احتلته من أراضي فرانسة وبلجيكا، وتسليمها قسما كبيرا من أسطولها البحري والهوائي إلى أعدائها، وغير ذلك من الشروط التي لم يقصد منها سوى توطيد الأمن من غائلة الألمان وقوة بطشهم، على أن يكون تقرير الصلح فيما بين المتحاربين- بعد انقضاء مدة الهدنة- مبنيا على عدة شروط: منها حرية البحار، وحرية جميع ما فيها من المضايق التي منها مضايق جناق قلعة، وأن تكون
الأمم الضعيفة في مستعمرات الدول هي الحاكمة على مقدراتها. إلى غير ذلك من الشروط.
فرضيت ألمانيا بهذه الشروط وأخلت قسما كبيرا من أراضي أعدائها فرانسة وبلجيكا، ووقفت الحرب وبوشر بمذاكرات الصلح وجميع العالم ينظر إلى ما تأتي به الأيام والليالي.