الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رغبته بالمستخدم المبتلى بهوس ما، وعدم رغبته بالمستخدم المتنفذ:
ومن غرائب السنن التي كان يسير عليها في استخدام بعض الموظفين أنه كان يسرّ جدا من المستخدم إذا كان ممحونا بمحنة متمكنة منه تضطره مباشرتها إلى استغراق وقته وتجعله غير مكترث ولا عان بأن يشتغل بغيرها من الأمور السياسية أو بالبحث عن أحوال السلطان وغيره. وعليه فإن المستخدم المحبوب عنده هو المصاب بهوس المقامرة، والميل إلى الأحداث أو بنات الهوى أو بنت المدام، أو بغير ذلك من المحن والشوائب. ذلك المستخدم الذي يتمسك به ولا يسمع فيه شكوى شاك وكأن لسان حاله يقول:
أذني لحبيبي صاغية
…
صمّت عند الواشي السّمج
حكاية عن مستخدم من هذا القبيل:
حكى لنا زين العابدين بك مكتوبي الولاية سنة (1328) حكاية فحواها من هذا القبيل فقال: كنت مكتوبيا في إحدى ولايات البلقان، وكان واليها ممتحنا بوجع الظهر منهمكا بالرشوة، فكثرت عليه الشكايات فلم يعرها السلطان أذنا. ثم إن أحد الدهاة العارفين بالطرق التي تثير حفيظة السلطان دسّ في شكاية عليه كلمة مؤداها أن الوالي يجتمع عنده نفر من شبان «جون ترك» ويتفاوضون بأمور تمس حضرة ملجأ الخلافة. قال زين العابدين: وحينئذ أصغى السلطان إلى هذه الشكوى وسرعان ما أصدر إرادته السنية بإحضاري إلى استانبول لأسأل عن حقيقة هذا الوالي. فشخصت في الحال إلى استانبول وحضرت توا إلى «المابين» «1» ولما أعلم السلطان بحضوري أمر رئيس كتّابه أن يستقصي مني أحوال الوالي، وقد وقف السلطان من وراء الحجاب يسمع كلامي. فقال لي رئيس الكتاب: أصحيح أن والي ولايتكم يجتمع عنده نفر من شبان «جون ترك» ويتفاوضون بمسائل السياسة؟ فأجبته على الفور: إن هذا الرجل ممحون بوجع الظهر، وبالكاد «2» أن يتسع له الوقت لأجل استيعاب اشتغاله بمداواة محنته، وإن الشبان الذين يجتمعون عنده ليسوا سوى الشبان الذين يطيّبون مرضه.
قال زين العابدين: فسمعت قهقهة السلطان من وراء الحجاب، ثم خرجت من «المابين» وقد تبعني رئيس الكتاب يقول لي: إن ولي النعم قد سرّ من كلامك وأمر لك بمائة ذهب. وفي المساء اجتمعت مع ناظر الداخلية وحكيت له ما جرى، فقال:
إنك مدحت الوالي وثبتّه بوظيفته من حيث لا تدري. فقلت له: وكيف كان ذلك؟
قال: أو ما قذفته بوجع الظهر؟ قلت: بلى، أو لم يكن هذا المرض موجبا لعزله؟ قال:
بل هذا المرض هو الذي جعل السلطان يتمسك به ويثبته في وظيفته لأنه- كما قلت- يعوقه عن الاشتغال بغيره من أمور السياسة والبحث عن أحوال السلطان. قال زين العابدين: وكان الأمر كما ذكر ناظر الداخلية، فإن السلطان قد أبقى الوالي بولايته ولم يصغ فيه إلى واش أو رقيب.
أما عدم رغبة السلطان بالمستخدم القوي فلأنه يخشى منه استعمال نفوذه بما يمس سلطنته فيجري عليه ما جرى على عمه السلطان عبد العزيز من وزيره مدحت باشا. ومما يحكى عن السلطان في هذا الصدد أنه هو الذي اقترح على غليوم إيمبراطور ألمانيا التخلص من داهية السياسة بسمارك المشهور، وذلك أن الإيمبراطور غليوم لما زار استانبول في المرة الأولى تحدث مع السلطان عبد الحميد عن نفوذ بسمارك في أوربا فقال له السلطان: أنا لا أحب أن يكون خادمي قوي النفوذ كهذا، أترغب جلالتكم أن ترى كيف أعامل خدمي؟ فقال غليوم: نعم. وحينئذ لمس السلطان الجرس المنبّه. ولما دخل الحاجب قال له: ادع كاملا (وكان كامل يومئذ صدرا أعظم) فأرسل الحاجب الخيّالة يبحثون عن كامل باشا فأحضروه، ولما دخل إلى المثول بين يدي السلطانين وقف مطرقا برأسه إلى الأرض مكتوف اليدين كأنه واقف في صفوف المصلين، فلم يلتفت إليه السلطان. وبعد برهة من الزمن قال له: لا لزوم للانتظار فالمسألة بسيطة. فسلّم الصدر سلام الخلافة وذهب ماشيا القهقرى حتى غاب عن نظر العاهلين. وقد انتبه الإيمبراطور غليوم إلى ما كان يراه من وزيره بسمارك من التوسع في الحرية حين مقابلته ومحادثته، فعزله عن وظيفته وحرم منه ذلك الدهاء الذي كان سياجا لسلطانه وملكه.
كان السلطان عبد الحميد لا تخفى عليه خافية من أحوال رجال «المابين» ومن هولائذ بقصر يلديز، فقد كان يعلم كل العلم أحوال كل واحد منهم على حدته، ويدري ما انطوت