الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقف على حقيقة الظالم من المظلوم، فأجابت الدولة استرحامهم وصدرت إرادة سنية بإرسال «صاحب بك» ومن معه لأجل ما ذكر. ولما وصلوا إلى حلب أخذوا بتحقيق المسائل واستقصاء الأحوال، وأقبل المتظلمون عليهم يقدّمون إليهم اللوائح في ظلاماتهم إلى أن مضى عليهم شهران ولم يظهر أثر لفعلهم.
قصد زيرون اغتيال الوالي:
وفي يوم الثلاثاء سادس عشر صفر سنة 1304 وهو اليوم الحادي عشر تشرين الثاني سنة 1302 بينما كان الوالي متوجها من دار الحكومة إلى منزله في جنينة البلدية قرب العبارة، وذلك في الساعة الحادية عشرة ونصف مساء اليوم المذكور، إذ وثب عليه- وهو في ظاهر باب الفرج على بعد نحو مئة قدم منه- رجل يقال له زيرون جقماقيان المرعشي، وخاطبه بقوله:«قف كيف تتخلص مني؟» ثم أطلق عليه الرصاص من مسدس كان بيده فأخطأه، فأطلقه ثانية وثالثة فأخطأه أيضا. وكان قد هجم عليه ياور الوالي وجاويشيّته فقبضوا عليه وأرسلوه للسجن.
وذكر بعض من كان حاضرا هذه الحادثة أن زيرون المذكور لم يطلق الرصاص على الوالي، إنما الوالي لما رأى بيده المسدس خاف منه وأمر جنديا كان معه أن يطلق عليه الرصاص تهديدا له، ففعل فظن الناس أن الرصاص خرج من المسدس. قال: والدليل على ذلك أن جماعة الوالي لما أخذوا المسدس من زيرون وجدوا جميع عويناته مملوءة مع أنه لم تسنح له فرصة بإملائها.
أما السبب في وثوب هذا الرجل على الوالي فهو أنه كان أحد وكلاء الدعاوي في عدلية حلب، وكان مشهورا بالعلم والصدق والاستقامة، فصادف أن بعض الناس وكلّه في خصام بينه وبين الوالي فاغتاظ منه الوالي ومنعه من وكالة الدعاوي في حلب، فسافر إلى بلده مرعش فمنعه من وكالة الدعوى أيضا. فترك مرعش وسافر أنطاكية فكاتب الوالي الحكومة فيها بمنعه من الوكالات أيضا. ولما رأى هذا الرجل أن الأرض قد ضاقت عليه بما رحبت ولم يبق له وجه يسترزق به، خولط في عقله وزينت له الماليخوليا «1» أن يعترض
للوالي ويهدده بالقتل لعله ينفك عنه. ففعل ذلك فأخفق سعيه واتسع الخرق عليه، لأنه بعد أن بقي مدة محبوسا في حلب نقل إلى دمشق وحكم عليه بالحبس مدة خمس عشرة سنة فمات محبوسا بعد ثلاث سنين من حبسه.
ثم إن الوالي بعد أن مرّت عليه هذه الحادثة في ذلك اليوم توجه إلى منزله وأقبل عليه الناس يهنّونه بالسلامة وأمر بإيقاع القبض على جماعة من الوجهاء كانوا يتصدون لمناضلته، وقد زعم أنهم هم الذين أغروا زيرون وحملوه على ما فعل. فوقع القبض عليهم في تلك الليلة وهم في منازلهم لم يبرحوا منها، لأنهم كانوا على غفلة لا يدرون الخبر، فأودعوا السجن وأمر الوالي بالتضييق عليهم وأن يوضع كل واحد منهم في حجرة على حدته، وأن لا يدخل إليه أحد من ظاهر السجن ولا من داخله ولا من رفقائه، ولا يمكّن من أداة كتابة ولا من أخذ خبر من ظاهر الحبس، لا كتابة ولا شفاها. فكان خدمة الحبس يشقّون رغيف الخبز المبعوث إلى المحبوسين المومأ إليهم خوفا من أن يكون فيه ورقة، ويفتشون جميع ما يدخل إليهم من الطعام والملبوس. وكان الوالي قد أحضر من الثكنة عساكر نظامية أمرهم بأن يقف على كل حجرة من حجر المحبوسين المذكورين جنديان متأبطان سيوفهما معتقلان بنادقهما.
ولما اطلع «صاحب بك» على هذه الأحوال عرف بها استانبول وأظهر أنه عازم على السفر من حلب لينظر ماذا يكون من الوالي. فسار إلى تكية المولوية لينام ليلته هناك ويتوجه من الصباح إلى جهة استانبول. فلما سمع الوالي خبر سفره ظنه صحيحا فاغتنم الفرصة وأمر بإحضار دوابّ المكارية «1» ليركب عليها المحبوسين وينفيهم، وحينئذ فهم «صاحب بك» نيته وأظهر أنه عدل عن السفر فتوقف الوالي عن نفي المشار إليهم، لكنه لم يبرح عن إصراره في حبسهم والتضييق عليهم، بل كان يزيدهم تضييقا يوما فيوما. فلما كان اليوم السابع من ربيع الأول من هذه السنة (1404) أبرق «صاحب بك» للدولة يقول:
أنا عازم على الشخوص لاستانبول لأنني لا أستطيع البقاء في بلدة لا يعرف فيها النظام ولا القانون. وأبرق قائد الجندية النظامية في النهار المذكور للدولة يقول ما معناه: إنني غير مسئول إذا حدث في حلب ما يخلّ بالسلام لأنني لم يبق لي نفوذ على القوة العسكرية.