الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحيث بيعت عدة بنات بأكلهن إلى أن أتى الحصاد وأقبل الخير. وكانت السنة مخصبة وبيع رطل الخبز بأربع وعشرين بارة وشنبل الحنطة بعشرين قرشا. وفي أواخر هذه السنة ولي حلب مصطفى مظهر باشا الشيروزي.
وفي سنة 1263 حصل في حلب وباء عظيم وكثرت الوفيات حتى ضاق النهار على الجنائزية وصاروا يشتغلون في الليل، والتزم الناس البيوت خوفا من أن يدرك أحدهم الأجل وهو خارج عن بيته. وفي سنة 1264 ولي حلب كامل باشا وفيها حضر إلى حلب نامق باشا رئيس العسكر وأحصى عدد أهلها الذكور دون الإناث، فبلغ عددهم نحوا من ستين ألفا. وفي سنة 1265 وليها مصطفى ظريف باشا وفيها شحّت المياه وجفّ قويق وعين التل والعين البيضاء. ثم في شتائها وقع مطر غزير وطغى قويق وارتفع حتى غطّى قنطرة باب طاحون جبل النهر. وفي هذه السنة أسست دائرة إحصاء النفوس في حلب.
الفتنة المعروفة بقومة حلب:
هذه حادثة عظيمة لم يحدث بعدها من الثورات الأهلية في حلب أعظم منها. وكان حدوثها في عشية ليلة اليوم الثاني من عيد الأضحى سنة 1266 وامتدت وقائعها إلى نحو اليوم الخامس عشر من شهر محرم سنة 1267.
أسباب هذه الفتنة:
اختلف الناس في أسباب هذه الفتنة. فقال بعضهم: سببها فرس اغتصبها عبد الله بك البابنسي- متسلّم حلب- من يوسف باشا شريف زاده فقام أتباع الثاني على الأول للانتقام منه، وانتقلت القضية من طور خاص إلى طور عام، وجرى على مدينة حلب وأهلها ما جرى.
قلت: حدثني عبد القادر بك بن يوسف باشا المومأ إليه- وهو أدرى الناس بماجريات هذه الحادثة وأعظمهم وقوفا على أسرارها، لأن والده أحد بطلي روايتها كما ستعرفه- أن قصة الفرس كانت على غير هذه الصورة، وأن قضيتها لم تكن سببا لهذه الفتنة بل سببها الحقيقي غير هذا. قال: وأما قضية الفرس فحقيقتها أن عبد الله بك كان يملك فرسا أصيلا معدودا في وقته من عتاق الخيل يعرف باسم (صقلاوية ابن سودان)
وكان علي بك- ابن أخي يوسف باشا- مولعا بالخيول الأصائل، فطلب من عمه أن يستخلص له هذا الفرس من عبد الله بك هبة أو شراء، فلم تسمح نفس عبد الله بك أن يهبه أو يبيعه كله بل وهب عليا نصفه وقاده إليه بطوعه ورضاه. وصادف إذ ذاك أن عباس باشا- الذي صار خديوي مصر بعد عمه إبراهيم باشا- كان مولعا بالخيول العربية، قد أرسل إلى سائر الجهات التي توجد فيها الخيول رسلا جمعوا له منها عددا عظيما حتى استصفى منها أجناسا كثيرة من عتاق الخيل في بلاد حلب وصحاريها، وكان عبد الله بك معروفا عند المصريين لأنه كان متسلم حلب أيام دولتهم فيها، فطلب رسول عباس من عبد الله بك فرسه الذي وهب نصفه لعلي بك، فطلب عبد الله بك من يوسف باشا- عمّ علي بك- أن يبيعه النصف الآخر من الفرس أو يهبه إياه فأخذه يوسف باشا من ابن أخيه وقدّمه إلى عبد الله بك بطوعه واختياره، وهو قدّمه إلى رسول عباس باشا هدية. فلما وصل إليه أنعم على عبد الله بك بسيف مرصع وعباءة وسرج مزركش. قال عبد القادر بك: وقد رأيت السرج المذكور تحت عبد الله بك وهو يتجول على فرسه في أثناء الحادثة التي نحن في صدد الكلام عليها.
قلت: وحدثني غير واحد في بيان أسباب هذه الفتنة حديثا طويلا خلاصته: أن عشيرة من عشائر البادية المخيمة في جهات الجبّول تمردت في هذه السنة 1266 على الحكومة وامتنعت عن أداء ما عليها من الضرائب فندب الوالي لإخضاعها يوسف باشا، وقصدها في عدد كبير من الجند والأتباع فلم يفلح وعاد بالفشل، فندب الوالي إليها عبد الله بك فقصدها وليس معه سوى ستة نفر من أتباعه، غير أنه ما كاد يصل إلى مضارب العشيرة حتى أحدق به رجالها وأنزلوه ومن معه عن خيولهم وشدوا وثائقهم وطرحوا الحديد في أرجلهم وعاملوهم معاملة الأسراء. واتصل الخبر بالوالي فأمر بتجهيز حملة قوية للتنكيل بتلك العشيرة وقبل أن تخرج الحملة من حلب نمي خبرها إلى العشيرة فارتاعت واضطربت فسكّن عبد الله بك روعها وقال لشيوخها: لا بأس عليكم فكّوا القيد عن كاتبي وأنا أكفيكم بطش هذه الحملة. ففكوا القيد عن كاتبه فأمره عبد الله بأن يكتب على لسانه إلى قائد الحملة كتابا أرسله مع ساع خصوصيّ يقول له فيه: إن العشيرة قد طاعت ودفعت ما عليها من المرتبات فلم يبق لتجريد الحملة عليها من لزوم.
ثم إن العشيرة فكت القيود عن عبد الله بك وعن أتباعه وتداركت جمع ما عليها من
المرتبات وقدمتها إلى عبد الله بك، واعتذر شيوخها إليه عما أجروه معه ومع أتباعه من الأسر والتقييد وأفهموه أن السبب الذي حملهم على ذلك كتاب ورد إليهم من يوسف باشا قبل قدوم عبد الله عليهم يقول لهم فيه: إن عبد الله بك قادم عليكم ليخدعكم ويوقعكم في قبضة الحكومة لتنكّل بكم فاحذروا منه. ثم أبرزوا له الكتاب فقرأه كاتبه فوجد فحواه طبق ما قالوا. ثم إن عبد الله بك ودع العشيرة وقفل راجعا إلى حلب وقبل وصوله إليها خرج لاستقباله جمهور عظيم من زعماء محلة قارلق وأهلها الذين هم أتباعه، وآلوا عليه أن يدخل المدينة من باب النيرب، فدخل منه بهذه الأبهة الزائدة إرغاما لزعماء هذه المحلة الذين هم أتباع يوسف باشا، ومشى أمامه أتباعه وهم شاكو السلاح ينشدون الزّجلات الحماسية المشتملة على تهاني زعيمهم بعوده من سفره سالما غانما، وعلى التنديد بيوسف باشا وفشله في سفره والحط من كرامته. فشق ذلك على أتباعه وأضمروا في نفوسهم الشر لعبد الله بك. وبعد أيام تجمهروا في عشية الليلة المذكورة وقصدوا الإيقاع بعبد الله بك وجرى منهم ما جرى كما سنبينه قريبا.
قلت: هذه الحكاية تشتمل على عدة أمور يستبعدها العقل السليم:
(1)
يستبعد العقل من يوسف باشا داهية عصره أن يطوّح بنفسه ويرسل هذا الكتاب إلى جماعة من العرب البسطاء الذين لا ينبغي للعاقل أن يأمنهم على سره لا سيما وقد سبق منه قصده إياهم للإيقاع بهم فكيف يتصور العقل ائتمانهم على كتابه وعدم إيصاله إلى الوالي الذي يكون أدنى جزائه عنده النفي؟
(2)
يستبعد العقل أن يتجرأ أتباع يوسف باشا في ليلة الحادثة على الإيقاع بعبد الله بك وهم يعلمون أن أتباعه أكثر منهم عددا وأقوى شكيمة، وأن عرب البادية كلهم أنصاره وأعوانه.
(3)
يستبعد العقل انتقال القضية فجأة من طور خاص وهو قصد الإيقاع بعبد الله بك إلى طور عام وهو تهديد سلامة البلد وإحداث ما كان فيها من الويل والنكد.
(4)
يستبعد العقل أن يكون أتباع عبد الله بك الذين جاؤوا للدفاع عنه في تلك الليلة قد اتفقوا مع أعدائهم أتباع يوسف باشا في هذه البرهة من الزمن، وصاروا جميعا يدا واحدة بإثارة هذه الفتنة العامة على غير رضاء من عبد الله بك.