الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي ترجمه؛ كان عليه ألّا يتسرع بترجمته قبل أن يطلع عليه بعض علماء المسلمين ويستشيره بترجمته، فإن رضي أن يترجمه فليفعل وإلّا لا.
على كل حال ينبغي أن يكون مترجم هذا الكتاب شابا طائشا مغفلا، أو رجلا سيىء الاعتقاد. وعلى كل فإن الذنب كل الذنب على الحكومة التي رخصت له بطبع هذا الكتاب ونشره غافلة عما يجنيه من نفرة قلوب المسلمين وانحرافهم عن الدولة العثمانية.
التسرع بإراقة الدماء:
ومن المنفّرات الفاضحة- التي كانت من أعظم مدمرات معاهد الصدق والولاء التي شادتها الدولة العثمانية مدة أربعة قرون في قلوب الأمة العربية- تسرّع جمال باشا ورفقاه من زعماء الاتحاديين في إراقة الدماء، واستخفافهم بأرواح عدد عظيم من الأبرياء الذين هم من زهرة شبان سوريا وبيروت وحلب.
إن أهل هذه البلاد قد نسوا مناظر المقتولين والمصلوبين؛ لأنهم مضى عليهم زهاء ستين سنة ولم يروا إنسانا معلّقا على جذع، فما راعهم في هذه الأيام إلا مناظر المعلّقين كل يوم على جذع لأقلّ سبب. فاشتد عليهم هذا الحال ونفرت قلوبهم من هذه الدولة نفرة لا رجوع بعدها. كان لا يمضي علينا أيام قلائل إلا ونسمع فرقعة البنادق التي كانت ترشق رصاصها على الفارّين من العساكر فنأسف عليهم؛ غير أننا لا نلبث أن يزول أسفنا ونرى أنهم عوقبوا بما يستحقونه ثم وردت علينا صحف بيروت تخبر بتعليق جماعة من الشبيبة العربية فيها، اتّهموا بالمروق على الدولة والسعي بأن يستظلوا براية غيرها. فاستعظمنا هذا الخبر أولا ثم قلنا: لعل الذي اتّهموا به أمر واقع.
ثم لم يمض سوى قليل من الأيام حتى سمعنا بإلقاء القبض على جماعة كانوا نسبوا إلى جمعية عربية عقدت في مدينة باريس- بعد حرب طرابلس الغرب- تضم إليها زهرة من أبناء العرب مسلمين ومسيحيين، أكثرهم من جالية البلاد العثمانية اللاجئين إلى مصر وباريس، ولو ندره وأميركا. وكان الرئيس على هذه الجمعية عبد الحميد الزهراوي. وقد طبعت كتابا أثبتت فيه نبأ كل ما أجرته، ونسخة كل ما قالته في جلساتها، مع بيان أسماء من حضر إليها أو كاتبها على بعد، ممن رغب الانضمام إليها. وسطرت غير ذلك من الفصول
والمقالات الصريحة المشعرة بالغرض من انعقاد هذه الجمعية وأحوالها وماجرياتها. وهو كتاب كبير يستغرق زهاء مائتي صحيفة، تدل مقاصده ظاهرا على أن هذه الجمعية لا تطلب من الدولة العثمانية سوى منح البلاد العربية اللامركزية على شرط بقائها تحت العلم العثماني، حتى إن واحدا من المتطرفين من رجال هذه الجمعية أشار في كلامه إلى لزوم انفكاك هذه البلاد عن العثمانية بتاتا والانضواء تحت راية دولة أخرى، فرد عليه الجميع كلامه وقالوا: لا نرضى أن يظلنا غير راية الهلال.
هذا ما يدل عليه ظاهر مقاصد هذه الجمعية. والمفهوم من مقدمة هذا الكتاب- وعبارات الخطب التي اشتمل عليها- أن الذي حمل هذه الجمعية على طلب اللامركزية أمور كثيرة يطول شرحها، وخلاصتها: استئثار دولة تركيا بدخل البلاد دون أن تترك لها منها ما يقوم بتعميرها وجعلها في عداد بلاد الأمم الراقية بمعاهدها العلمية ومعارفها العمرانية التي تثمر أطاييب الحياة لمن جناها من الأمم، وأن تركيا بسبب سوء إدارتها تركت هذه البلاد- التي هي مصدر الترقي ومهد التمدن- مهملة معطلة، أرضها موات وأهلها في عداد الأموات، وقد أهملت المعدات البرية والبحرية الحربية حتى أصبحت تعجز عن أقل عادية تطرأ على بلادها، فصارت مسرحا لمطامع الدول المستعمرة. ومن جهة أخرى خصت أبناء جنسها الأتراك بالخدم العالية، وصرفتها عمن هو أجدر بها منهم من أبناء العرب الذين يتألف منهم ثلثا أهل هذه المملكة. وزد على ذلك ما هو مشاهد من مأموريها وحكّامها من الظلم والجهل وسوء الإدارة والتجاهر بالرشوة والانهماك بالرذائل، إلى غير ذلك من الأمور التي تكون عقباها بلا ريب انسلاخ هذه البلاد من يد العثمانيين إلى يد دولة أخرى لا يبقى معها خيار للناس في كيفية حكمها عليهم.
هذه خلاصة بواعث الجمعية على طلب اللامركزية. على أننا لا ننكر وجود نافخ ينفخ في نار حميّة رجال هذه الجمعية لغرض يقصده، وهم يعلمون ذلك ولا يجهلونه وإنما اضطرهم إلى الاستكانة إليه قلّة الظهير والنصير لهم، عملا بقول الشاعر:
إذا لم يكن غير الأسنة مركبا
…
فما حيلة المضطرّ إلا ركوبها «1»
إن رجال هذه الجمعية لم يكونوا هم أول من أدرك سوء مصير حالة الدولة العثمانية،
وأحسّ بانحطاطها إلى الدرجة الأخيرة فقنطوا من صلاحها وأيقنوا بضياع بلادها فقاموا يتحدثون في طلب اللامركزية إبقاء لكيانها؛ بل البادئ بإدراك ذلك قبلهم والمتحدث به كثيرون من متبصري رجال الدولة الأتراك وعقلائهم، حتى إنهم كانوا يعلنون مداركهم هذه في صحف الآستانة ويتظاهرون باستحسان منح اللامركزية الأمة العربية وأنه أبقى على البلاد وأرفق بحالة العباد.
إن اليأس من صلاح هذه الدولة في تلك الأيام قد بلغ غايته، وإن ضعفها المتناهي الذي أهاب به انكسارها في طرابلس الغرب والبلقان قد أزال ما كان لها من الهيبة والرهبة في قلوب شعبها، فأمنوا بطشها وصار الكثير منهم ينادي علنا بلزوم اختيار دولة غربية تتولى هذه البلاد ليأمن أهلها الغوائل تحت رايتها، فكان أكثرهم يختار دولة إنكلترا، وأقلّهم يختار غيرها، وصدى ضوضائهم في اختلافهم على ذلك يدوّي في أصمخة «1» ولاة الحكومة التركية فيتصامّون عنه ولا يقدرون على ردّه.
فهل- والحالة هذه- يعدّ رجال تلك الجمعية متهوّرين؟ وهل يلامون على قيامهم لطلب اللامركزية التي هي أخفّ الضررين؟
وهب أن اللامركزيين المذكورين كانوا غير محقّين في قيامهم هذا، أفيمكن للاتحاديين أن يتبرّؤوا من وصمة الغدر بهم؟ بعد أن حلوا عقدة مؤتمرهم طوعا حينما ألانت لهم الحكومة القوله، ونادتهم بالرجوع إلى أحضانها ووعدتهم بإجابة طلبهم وأمّنتهم على أرواحهم، وأعطتهم على ذلك العهود والمواثيق، وأسندت إلى كل واحد منهم وظيفة باشرها بكل صدق وأمانة، ومضى عليه زمن طويل ولم يظهر منه أقلّ شيء يدل على سوء نيّته. وبينما كان كل واحد منهم قائما بخدمته مثابرا على عمله في إبان الحرب العامة إذ دعي إلى الديوان العرفي المفتتح في «عاليه» فاستوقف فيه موقف خصم الدولة وعدوّها، وبعد أن ذاق في سجنه أنواع العذاب وتجرّع من كأس الذل والتضييق أمرّ من الصاب «2» ، واستغرق في المحاكمة أمدا طويلا إرغاما له وتنكيلا؛ حكم عليه بقصاص القتل تعليقا «3» . ثم في
ليلة واحدة نفذ هذا الحكم على واحد وعشرين شخصا من رجال هذه الجمعية، علّق بعضهم في بيروت وبعضهم في دمشق، كما أشرنا إلى ذلك في حوادث سنة 1334.
كان الأشخاص المقتولون من مشاهير رجال سوريا وذوي العقول المنوّرة منهم، ولهم شيعة كبيرة تسير على سننهم وتقتفى آثارهم في أعمالهم وتعتقد بهم كل فضيلة وكمال.
ولذا نقول: إن الاتحاديين أخطئوا في هذه الحادثة من عدة وجوه:
الأول: قتل الرجال المذكورين؛ لأنه كان من أكبر الدواعي لتنفير قلوب شيعتهم الكبيرة العربية من الحكومة العثمانية، في الوقت الذي كان اللازم فيه على الاتحاديين أن يجتهدوا بعمل ينشأ عنه عكس ذلك، أي بعمل ينشأ عنه تحبيب القلوب بالحكومة العثمانية واستمالتها إليهم بمقتضى موقفها الحرج الذي هو في حاجة شديدة إلى تكثير عدد الصديق وتقليل عدد العدوّ. حتى لو فرضنا أن الرجال المذكورين كانوا يستحقون القتل حقيقة؛ كان الواجب السياسي يقضي على الحكومة في هذا الوقت الحرج ألّا تقتلهم؛ بل بعد أن تحكم عليهم بقصاص القتل وتوهمهم بأن لا مناص لهم من هذا القصاص- إظهارا لقدرتها وتنويها بسطوتها- تفاجئهم بصدور العفو حلما منها وحنانا عليهم، ثم يستتابوا وتتلى عليهم النصائح والمواعظ ويقال لهم: عفا الله عما مضى ويستمالوا بالمعروف وتملك قلوبهم بالإحسان، فيندمون على ما فرط منهم ويعترفون بفضل دولتهم وفرط رأفتها وحلمها عليهم، وتتبدل عداوتهم لها بالصداقة ويخدمونها بكل أمانة وإخلاص. حكي عن إسكندر المكدوني أنه قيل له: بم نلت هذه المملكة العظيمة على حداثة السن؟ فقال: باستمالة الأعداء وتصييرهم بالبر والإحسان أصدقاء وتعاهد الأصدقاء بأعظم الإحسان وأبلغ الإكرام.
الثاني: غدر الاتحاديين بهم وعدم احترامهم وعود حكومتهم. ومعلوم أن وفاء العهد إذا كان من حيث هو واجبا فهو على الحكومة أشد وجوبا؛ لأن الحكومة قد يكفيها وفاء العهد والوعد مؤنة حرب عظيمة إذا عرفت باحترام العهود، فأما إذا كانت معروفة بإخلاف الوعد ونكث العهد فإنها تفقد الثقة من القلوب وتصبح مضطرة إلى استعمال القوة والعنف في كل غاية تطلبها. الأمر الذي يجعل الحكومة طول حياتها في تعب ونصب، ولهذا قيل فيما ينسب إلى الفرس: فساد المملكة واستجراء الرعية وخراب البلاد بإبطال
الوعد والوعيد. ومن هذا القبيل ما أورده ابن خلدون في الفصل 19 من الفصل الثاني من مقدمته فراجعه. وقد ظهرت آثار صدق هذا الكلام فيما نتج من غدر الاتحاديين بهؤلاء الجماعة وما جنوه في عملهم هذا على دولتهم من المتاعب والمعاطب وتعجيل ضياع بلادها وتنفير قلوب شعوبها.
وقد زعم جمال باشا في مذكراته أن قتل هؤلاء النفر لم يكن مبنيا على ما صدر منهم في مؤتمرهم الذي عقدوه في باريس؛ بل كان قتلهم مبنيا على أمور صدرت منهم بعد العفو عنهم حالة قيامهم في وظائفهم. على أن جمال باشا ذكر هذا ولم يذكر شيئا مما زعم صدوره منهم بعد العفو المذكور. والحق يقال: إن إراقته دماء هؤلاء الجماعة لم يكن إلا تشفيا لغيظه من العرب، عادّا عمله هذا فوزا عظيما وانتصارا مبينا، به سماه مدّاحوه والمتقربون إليه فاتح سوريا وبطل تركيا. ولو أمنوا بطشه لسمّوه بسبب هذه الجريمة مضيّع سوريا وناكب تركيا.
والأمر الغريب أن جمال باشا بعد أن غدر بهؤلاء الرجال أحس بأن العرب قد نقمت عليه عمله وعدّته ظلما وتشفيا، فأراد أن يعتذر للعرب بقتلهم ويوهمهم بأنه لم يقتلهم إلا لأنهم يستحقون القتل لجرائم صدرت منهم، فأمر أن يلفّق له كتاب تذكر فيه جرائمهم وذنوبهم التي استحقوا من أجلها القصاص، مع بيان الأعذار الشرعية والقانونية التي دعت الحكومة إلى قتلهم. فلفق له هكذا كتاب وطبع ونشر، فكان المتبصرون من قرائه يرون أن أكثر الأعذار المستند إليها في قتلهم حجّة على جمال لا حجة له، وأن باقي الأعذار المسرودة في هذا الكتاب مما لا يوجب عليهم شيئا من العقوبة أكثر من التوبيخ أو الحبس مدة يسيرة ليس إلا. ولذا قيل إن هذا الكتاب لما اتصل خبره بالقائد العسكري الألماني معاون جمال واطلع على ما فيه بواسطة مترجمين رأى أنه مما يؤكد غدر جمال باشا وظلمه، عكس المراد منه، وأنه مما يزيد نفور الرعية من تركيا ويضاعف حقدهم عليها. فأمر بجمع ذلك الكتاب وإحراقه، فجمع منه القدر الكثير وقلّت بين أيدي الناس نسخه:
إذا لم يكن عون من الله للفتى
…
فأوّل ما يجني عليه اجتهاده
ومن منفرات قلوب الرعية- خصوصا منهم الحلبيين- قتل أفراد منهم لأغراض دنيئة قامت في مخيلة جمال باشا زعما منه بأن قتلهم من الأمور التي تقتضيها السياسة،
وذلك أنه قتل شابا بستانيا لوجود صندوق مدفون في بستانه فيه بعض أثواب بالية ادّعى بعض الفقراء الأرمن أن هذا الصندوق سرق من بيته. وكان هذا الشاب ممن عرف بين سائر أقرانه وأهل حرفته بالتقوى وحسن السيرة، وهو لا يعرف هذا الصندوق ولا يدري من دفنه في بستانه؟ وقد حلف على ذلك أيمانا مغلّظة وشهد بصلاحه وورعه كثير من الناس، فلم يصغ جمال لذلك ولم يمهله غير يوم واحد حتى أصبح ذلك المسكين معلّقا، فبكى عليه كل من يعرفه ودعا على جمال بالهلاك وسوء العاقبة. والمفهوم من بعض حاشية جمال أنه لم يقتل هذا الشاب لسوء ظنه به في مسألة الصندوق؛ بل هو معتقد أن الرجل عفيف بعيد عن السرقة وإنما قتله لغرض سياسي وهو جعل قتله- حين مناقشته الحساب عما أجراه من الفظائع مع الأرمن- برهانا على فرط عناية تركيا بحقوق الأرمن وشدة حرصها في حمايتهم وصونهم من التعدي، حتى إنها قتلت رجلا مسلما لمجرد قيام شبهة عليه في سرقة هكذا صندوق.
ومن الدم الذي أراقه جمال باشا لغرض سياسي يزعمه، دم شابين من أهل حلب:
أحدهما في سن الثانية والعشرين، والآخر في سن الثامنة والعشرين وهما غضّا الشبيبة منوّرا العقل، زعم جمال باشا أنهما نددا بظلم الحكومة العثمانية وألبّا عليها جموع العرب ومدحا حكومة العرب الشريفية وندبا الناس إليها. وحقيقة الحال أن الصغير منهما كثرت عليه الديون وضايقه غرماؤه فهرب من وجههم إلى جهة الباب، واجتمع في إحدى جهاتها على طريق الصدفة بواحد أو اثنين من عرب البادية وذكر لهما في أثناء حديثه معهما شيئا مما يقاسيه أهل حلب من المتاعب والمساغب وتسلّط العسكرية عليهم في هذه الأيام التي هي أيام الحرب العامة، وحكى لهما أن حضرة الشريف قام الآن على الاتحاديين لينقذ الناس من ظلمهم ليس إلا.
هذا كل ما نسب إلى هذا الشاب وجعل سببا لقتله. وأما الشاب الآخر فإنه لم يخرج من حلب ولا اجتمع بترك ولا عرب، وليس له ذنب غير كونه صديقا للأول، ولم تقم عليه شبهة توجب إراقة دمه سوى أن الشرطة لما هجموا على بيته- ليفتشوا على أوراق يستخرجون منها شبهة تثبت اشتراكه مع الأول- وجدوه يطبخ قهوة البن على أوراق يحرقها، فقالوا: لو لم يكن في هذه الأوراق ما يدعو إلى الشبهة لما أحرقها. والحال أن هذا الرجل معروف لدى جميع أصحابه أنه معتاد من القدم على أن يطبخ القهوة على نار