الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما وصلوا إلى راجو لم يروا فيها مأوى يأوون إليه ولا شيئا يقتاتون به ولا أداة كالمعول والمسحاة يشتغلون بها. وجدوا هناك بعض ضباط عسكريين فلما رأوا تلك الجموع مقبلة عليهم بادروهم بالسبّ والشتم وقالوا لهم: ما عندنا لكم طعام ولا مأوى ولا أدوات تشتغلون بها، فمن شاء منكم أن يرجع إلى حلب فليرجع ومن شاء فليبق هنا حتى يموت.
فعادوا إلى حلب على أسوأ حالة، وقد عرى أكثرهم الذّرب «1» من برد الخريف ووخامة الهواء. وعدّت هذه القضية أول فلتة من فلتات جمال باشا وأول سبب موجب لنفرة القلوب منه.
وفود استقبال العلم النبوي الشريف:
في هذا الشهر (محرّم) 1333 أوفدت كل من حكومة حلب وبيروت وطرابلس الشام وحمص وحماة- وغيرهما من حكومات البلاد السورية- وفودا إلى دمشق الشام لاستقبال العلم النبوي الشريف المحمول إليها من المدينة المنورة إيذانا بالنفير العام وإثارة لحمية الإسلام. وكنت من جملة وفد حلب مع رفقائي الآخرين وهم: مفتي حلب الشيخ محمد العبيسي، والسادة النبلاء الشيخ محمد رضا بن الشيخ محمد وفا الرفاعي، وعارف بك ابن عزّت بك قطار اغاسي، وأحمد بك بن حسين باشا المدرس، وعاكف بك بن نافع باشا الجابري وفؤاد بك بن زكي باشا المدرس وفؤاد بك بن أحمد بك العادلي.
وبعد أن وصلنا إلى دمشق الشام بقينا فيها ننتظر قدوم العلم الشريف أحد عشر يوما.
ثم في ضحوة اليوم الثاني عشر من قدومنا أرسلت إلينا القيادة العليا بأن نتوجه إلى جهة «محطة القدم» لأن العلم سيحضر في ذلك الوقت. فتوجهنا إلى المحطة المذكورة وقد أعدت هناك للوفود مضارب لأجل الانتظار، فجلسنا في الخيام ننتظر وصول القطار. وما كاد يستقر بنا المجلس حتى قدم علينا رسول من قبل جمال باشا القائد العام يطلب أحد رفقائنا مفتي حلب، فأسرع المفتي الإجابة، ولما قابله القائد قال له ما معناه: إن وفود البلاد كثيرة وإن إعطاء الرخصة بالخطبة لكل فرد أمر يطول شرحه ولا يسعه الوقت، ولذا تقرر ألّا يخطب أحد حين مجيء العلم، سوى ثلاثة فقط أحدهم خطيب الجامع الأموي والثاني
واحد منكم والثالث الأستاذ الشيخ أسعد شقير، فانتخبوا واحدا من وفدكم الحلبي يخطب بالنيابة عنكم وعن بقية وفود البلاد.
ولما عاد المفتي إلى حلقة وفدنا الحلبي أخبرنا بما أوحى إليه القائد العام، فقال لي رفقائي بلسان واحد: قد اخترناك أن تكون أنت ذلك الخطيب. فشقّ علي هذا الأمر لأنني لم أمرن على الخطبة، سيما في مثل ذلك الجمع العظيم الذي يضم إليه المئين من علماء سوريا وأدبائها وشعرائها ومحرري صحفها. وبينما أنا أتنصل من القيام بهذه الوظيفة إذا بصفير القطار المعلن بوصوله إلى المحطة، فما كان إلا أن هرعت إلى جهته تلك الجموع التي لا تقل عن مئة ألف نسمة، وبدأت العسكرية بإطلاق المدافع لتحية العلم، وضج الناس بالتهليل والتكبير إعظاما واحتراما للعلم، فكنت لا تسمع سوى دويّ المدافع وصدى أصوات المهللين بكلمة «الله أكبر» كأنه الرعد القاصف. وكان قد تقدم القائد العام جمال باشا ووالي ولاية دمشق نحو حافلة القطار واعتنقا العلم الشريف وسارا به نحو الموقف الذي أعد لإلقاء الخطب فتبعتهم الجموع تموج موج البحر في يوم عاصف فاختلط الناس ببعضهم وأضعت رفقائي.
وبينما أنا أبحث عنهم إذ وقع نظر أحدهم عليّ فأقبل يعدو نحوي وقال: إن خطيب دمشق على وشك الانتهاء من خطبته وإن الناس يتشوقون إليك. ثم أخذني من يدي ومشى إلى الموقف فإذا هو عبارة عن مركبتين قد وقف في إحداهما مفتي السادة الشافعية في المدينة المنورة وهو يحمل العلم الشريف، والمركبة الثانية قد أعدت لوقوف الخطيب وقد تحلق الناس حولهما لسماع الخطب حلقا وهم يعدّون بعشرات الألوف. وما كدت أقف بضع دقائق حتى انتهى خطيب دمشق من خطبيه ونزل من المركبة، والتفتت العيون نحوي فصعدت إليها وفؤادي يخفق هيبة وجلالا، سيما وأنا ممن لم يعتد على الوقوف في هكذا موقف رهيب، ولست على أهبة فيما أقوله بهذا الموضوع؛ إذ لم يفسح لي من الزمن ما يسع تحبير ما أريد أن أقوله لأن تكليفي للخطبة كان قبل بضع دقائق. فصعدت المركبة ولما استوليت على ظهرها شعرت كأن هاتفا يهتف بي بما أحاول أن أقوله، فحييت العلم ببعض كلمات وذكرت ما كان من تأثير المجاهدين الذين ساروا تحت ظله، وما فتحوه من الأقطار والممالك ببركة روحانيته، وما عانوه من الأخطار والأهوال في سبيل حفظه