الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسمع بذلك أحمد بك قطاراغاسي فأسرع الحضور إلى الوالي وأعطاه المائتي ذهب، فسر منه وقرّبه إليه وحقد على نعمان أفندي. ثم وشى واش بنعمان أفندي إلى السلطان بأنه يحاول إثارة فتنة بين الأشراف- وكان هو نقيبهم- وبين اليكجرية. فأصدر السلطان إلى بهرام أمرا باغتياله. فأرسل إليه يطلبه فامتثل الأمر وخرج من منزله قاصدا منزل الوالي وهو لا يعلم بما أضمر له. ولما وصل إلى منزل الوالي كانت الخيول واقفة بانتظاره، فأمره الوالي بركوب أحدها موهما إياه بأنه يريد قمع بعض الفلاحين في جهات كلّز لأنهم في صدد الفتنة. فسارت الخيول بهما وبمن معهما من الجند حتى وصلوا إلى قرية تل الشعير من أعمال كلّز وهناك نزل الوالي ومن معه- وكان وقت الظهر قد مضى- فابتدر نعمان أفندي أداء فريضة الصلاة فتوضأ ووقف يصلي فما شعر إلا وقد خرط في رقبته حبل معقود، واثنان يشدان طرفيه حتى زهقت نفسه. فتركوا جثته ملقاة في العراء، وعاد الوالي ومن معه إلى حلب. وشاع الخبر فخرج أهل نعمان أفندي وواروا جثته هناك.
وفي خامس جمادى الأولى من هذه السنة 1238 ولي حلب حسن باشا الدرنده لي، والي الأناضول. وفي الثالث والعشرين من رمضان سنة 1239 وليها محمد أمين وحيد باشا، وهو مولود في كلّز.
لقاح الجدري البقري:
في سنة 1240 وصل لقاح الجدري البقري إلى حلب عن يد طبيب من الفرنج المولودين في حلب اسمه منتوره، وأصله من إيطاليا. فلم يقبل أهل حلب على هذا اللقاح كما ينبغي إلا بعد دخول إبراهيم باشا المصري إلى حلب. وأصل هذا اللقاح كان ظهوره في البلاد العثمانية من الأناضول، اكتشف بواسطة الفلاحين الذين يقتنون البقر ويعانون حلبها. وفي سنة 1241 كان إلغاء حزب اليكجرية وانقراضهم.
نبذة في الكلام على هذه الطائفة
قال في دائرة المعارف وغيرها ما خلاصته: كانت عساكر الدولة العثمانية في بدء تأسيسها رجالا يتخذون القتال واسطة لاكتساب معايشهم، منتقلين بجميع ما لهم من المال والعيال عند الخروج للغارات والغزوات. ثم صار إذا حاربوا أياما قليلة ولم يفوزوا
بسلب تبددوا وعسر جمعهم، فاضطرت الدولة في أيام السلطان أورخان بن عثمان إلى أن تستبدلهم بجنود لهم رواتب معلومة غير أنهم لم يمض عليهم غير سنيّات قليلة حتى تمردوا على السلطان أورخان، وربما قاتلوه إذا حملهم على أمر لا يريدونه. فبدا له حينئذ أن يقيم عسكرا من أولاد الأسراء الروم، وذلك بأن يفصلهم عن والديهم ويعلمهم العقائد الإسلامية ويمرّنهم على الحروب فيشبون على الغزو والجهاد. وبعد سنيّات قليلة تكوّن جيش من العسكر المذكور مؤلف من ألف رجل ما منهم إلا بطل صنديد. فأخذ السلطان أورخان ذلك الجيش إلى ولي الله الحاج بكطاش، وطلب منه أن يسمّيه ويدعو له فوضع يده على رأس جندي منه وقال: ليكن اسمه يكجريا. ثم قطع كمّ لبادته ووضعه على رأس ذلك الجندي ودعا لهذا الجيش بالفوز والظفر. ومعنى يكجري: العسكري الجديد فحرفته العامة إلى انكشاري.
ثم لما كثرت فتوحات السلطان مراد وكثر عدد الأسراء- حتى بيع الأسير بكأس من البوزة «1» - قال بعض العلماء: إن الحكم الشرعي بإعطاء خمس الغنيمة للسلطان يتناول الأشخاص أيضا، وإنه إذا جرى هذا الأمر يرتفع ثمن الأسراء ويزداد عدد اليكجرية بسرعة. فأعجب السلطان هذا الرأي وأمر بإجرائه. وقد جرى اصطلاحهم في ذلك الزمان على أن يقسموا أولئك الأولاد إلى أجواق يسمونهم عجم أوغلان، أي أولاد أعجام، ويعلمونهم القرآن الكريم ثم التمرن على الأشغال الشاقة، ثم يدخلونهم في السلك العسكري، وبعضهم يتخذون حرسا وأعوانا للسلطان. وينقسم هذا العسكر إلى أرط ثم إلى أوض (مفرده أوضة محرفة عن أوطاق معناه الحصن) ثم وجاقات. والأرطة مؤلفة من عشرة أشخاص. وبلغت في أيام السلطان محمد خان الرابع مئة وتسعين شخصا. ولهم قائد عام يعرف باسم آغا، له سلطة مطلقة على وجاقه وحقّ تأديب من أذنب من عساكره ورؤسائه بالحبس والضرب دون معارض.
وكان راتب الآغا في أول الأمر فوق أربعة آلاف قرش في الشهر، ثم زاد كثيرا.
وله أن يبقى في مأموريته ما لم يرتكب ذنبا يستحق به العزل، وإذا عزله السلطان ولم
يقطع رأسه يجعله واليا في إحدى الإيالات كأنه منفي، وللمأمورين من هذا الوجاق ألقاب شتى: كشربجي باشي، وعشي باشي، وساقي آغاسي، وأوطه باشي، إلى غير ذلك مما يدل على أن أولئك الجنود كانوا عائشين من إنعامات السلطان وأنهم كأولاد له. وكانوا يحترمون القدور والمراجل التي توزع عليه بها تعييناتهم ويأخذونها معهم إلى الحروب فإذا خسروها عدّ ذلك عارا عليهم. ثم في أواخر أيامهم صاروا إذا أرادوا رفض أمر يضعونها أمام منازلهم مقلوبة علامة على العصيان، ولكل واحد منهم وشم خاص على يده اليسرى فوق الكوع مستدير، قطره نحو قيراط وربع بأحرف تدل على اسم صاحبه وسنّه، وتحته عدد فرقته. وإذا عجز أحدهم بسبب جراح أو كبر سنّ يعتزل وجاقه تحت اسم «متقاعد» ، ويعطى شهرية المتقاعدين ويؤذن له بالتروج.
وعلى هذه الترتيبات البسيطة امتدت فتوحات تلك الطائفة من أبواب برصة إلى أبواب فينّا، وحافظوا على ذلك النظام مدة خمسمائة سنة، حتى إنهم بعد أن صارت طريقتهم ثقيلة على البلاد والعباد وأوصلوا المملكة إلى أقصى درجات الانحطاط، كانوا لم يزالوا من الأمة كالروح من الجسد حتى كاد سقوطهم يتهدد وجودها، وهم- قبل اختلال نظامهم- أحسن جنود العالم ضبطا وانتظاما وأشدهم بأسا وإقداما.
وهاك نبذة في ذكر معركة من معاركهم، بها تعلم ما كانوا عليه من القوة والنجدة:
وهي أن السلطان با يزيد يلدرم خان سار في أيامه بعسكره الجرار المؤلف من اليكجرية وغيرهم إلى حدود هنكاريا قاصدا الاستظهار على أوربا بأسرها. وكان السلطان مراد خان الأول قد صادم عساكر الصّرب والبشناق بعساكره من اليكجرية فهزمهم وبدد شملهم، فألقي النفير العام في ممالك أوربا قاطبة أن النصرانية أمست في خطر التلاشي من مهاجمات المسلمين، وقامت دعاة النصرانية في كل صقع وإقليم يدعون بالغيرة الدينية، فأجاب الجميع صوت النفير وأخذت الأبطال تتهيأ للحرب، وأرسلت فرنسا وألمانيا أحسن رجالهما وخرجت فرسان مار يوحنا من حصونها في رودس، وثارت رجال هنكاريا بحمية لا مزيد عليها. ولم يمض إلا القليل حتى اجتمع عند الملك سيجسيمند مئة ألف مقاتل من الأبطال، وكان الجميع يمدون يد المساعدة في دفع العثمانيين عن بلادهم واستئصالهم عن آخرهم.
وكان السلطان با يزيد خان قد استعد لمقابلتهم وجمع نحو مائتي ألف مقاتل ونزل بهم
متحصنا بالقرب من بيكويوليس. فلما أقبلت عساكر سيجسيمند على جيوش الإسلام ظنوا أن الغلبة سهلة عليهم جدا لأنهم رأوا تلك الجيوش خالية من كل ترتيب وإن كانت أسلحتهم كاملة. وكان يظن الناظر في اليكجرية أن ملابسهم الطويلة الواسعة تعوقهم عن خفة الحركة والرشاقة في استعمال الحراب، وعمائم الصباهية الكبيرة وقلانسهم الضخمة تزيد مناظرهم ضخامة في عين الناظر إليهم وتجعله يتهاون بمصادمتهم. فتقدم فرسان من فرنسا وأنشبوا الحرب مع فئة قليلة من اليكجرية لا يبلغ عددهم 4000 فبدد شملهم الفرسان وفتحوا فيهم طريقا ساروا منه إلى بقية جيش المسلمين المجتمع وراءهم، وإذا بجيش عرمرمي من الرجال الأشداء لا يلتفتون إلى الهاربين من عساكر تلك الشرذمة ولا يبالون بما وقع عليها من الكسرة، كأنهم الأسود ثباتا ومنظرا ينتظرون هجوم عساكر الأعداء عليهم فما كان غير قليل حتى سمع من عساكر المسلمين جلبة هائلة وفي أثرها ثارت اليكجرية على ذلك العدو فخام عن لقائهم فتبعوه وأعملوا فيه السيف ولم يفلت منه إلا الشريد الهارب، وقد جعل ذلك الظفر العظيم اسم اليكجرية مهيبا جدا في أوربا بأسرها.
وكانت طريقة اليكجرية في القتال أن يحيطوا صفوفهم بجيش من العساكر الجاهلة، ويفتحون بها باب الحرب ويشتغل بها العدو مدة ولا يتيسر له الوصول إلى معظم عساكرهم إلا بعد أن يكلّ من القتال، حتى إن تلك الجنود الجاهلة كانوا يملؤون بجثثها الخنادق، وربما جعلوها تلالا يتسلقون عليها إلى الحصون والقلاع التي يحاصرونها. ولما كان اليكجرية يباشرون الحروب دائما ويرزقون الفوز والظفر وينالون الغنائم العظيمة، داخلهم التيه والكبرياء وصاروا يعدّون أنفسهم هم المحامون عن بيضة الإسلام وحوزة الملك، والعلة الوحيدة لوجودهما. ثم تمادوا في غلوائهم حتى صاروا يتجاسرون على خلع الملوك وتبديل الوزراء وقد بالغ بعض سلاطين آل عثمان في تعظيمهم وإكرامهم، مستندا في ذلك إلى أنهم هم الذين شادوا الملك وبهم امتد في أوربا وآسيا وأفريقية وجزائر البحر حتى استحق مالكه أن يلقب بسلطان البرّين وخاقان البحرين.
ولما أحرزت المملكة هذه الشهرة العظيمة بواسطة اليكجرية ازدادوا عتوّا وتعديا وضعفت شجاعتهم وإقدامهم، وصاروا رعبا للسلاطين بعد أن كانوا رعبا للعدو، وصاروا يجاهرون بالعصيان لأدنى سبب حتى اضطر السلطان عثمان الثاني إلى العزم على ملاشاتهم، وأمر بجمع عساكر جديدة في آسيا وتعليمهم أصول الحرب الحديثة. فاستاء اليكجرية من
ذلك وهاجوا واجتمعوا في ساحة آت ميدان وقلبوا مراجلهم أمام القشلة، وضربوا الطبول. فانزعج السلطان لذلك وأشاع بأنه كان يستعد للحج الشريف وأن العساكر التي أمر بجمعها في آسيا لم تكن إلا للمحافظة عليه في طريق الحج، وأمر بتجهيز سفن لأجل تلك الغاية. فلم يقنعهم هذا الاعتذار وقاموا قومة رجل واحد وقتلوا عددا عظيما من الحرس والحجاب وأفرجوا عن السلطان مصطفى وبايعوه وأزالوا السلطان عثمان.
وهكذا طغوا وبغوا وذاقوا لذة السلطة وحرصوا على إبقائها فيهم. وتاريخهم مدة قرنين بعد هذا العمل ليس هو إلا سلسلة متصلة مؤلفة من حلقات العصيان والتمرد والعبث بالنفوس الزكية، ثم صاروا يمتنعون عن الدخول في العسكرية إلا بالاسم ويؤذن لهم بالإقامة دائما كالمحافظين. ثم حصلوا على إذن بالتزوج والإقامة مع عيالهم، فاضطرتهم العيلة «1» إلى الدخول في التجارة والصنائع وأهملوا سيوفهم وبواريدهم ولم يبق بهم من صفات الجنود سوى المحافظة على أخذ رواتبهم في أوقاتها. ولم يكفهم ذلك حتى صاروا يأخذون مرتّبات لعيالهم، وقيدوا أسماء أولادهم في سلك الجنود الأمناء مستبدين لا يؤدون شيئا لخزينة الحكومة. وصار ينخرط في سلكهم جماهير غفيرة من الناس، وبعضهم ينفق مبالغ باهظة ليحرز شرف الانتظام في مسلكهم وأن يوشم على يده اليسرى بالوشم المتقدم ذكره، الذي كان صاحبه يستبد بجميع أعماله، صالحة كانت أم طالحة. وقد دخل في تلك الزمرة كثير من اليهود والنصارى طمعا في السلب والغنائم في أوقات العصيان. واستولى عليهم الكسل والجهل باستعمال السلاح حتى إن كثيرا منهم من يضع في البارودة الرصاص قبل البارود، وكثيرا منهم من يكون في المؤخرة ويطلق بارودته على من في المقدمة. وربما حاول قوّادهم ردعهم عن ذلك فيجيبونهم بقولهم: إن رصاصة اليكجري تعرف العدو من الصديق.
وقد انتشبت مرارا مقاتلات شديدة في أزقة القسطنطينية بينهم وبين الصباهية الذين كانوا أعداء لهم، فكانوا يطوفون في الأسواق وبين البيوت ويوسعون الناس ضربا وافتراء، ويسلبون ما صادفوه من الأمتعة ويرتكبون شرورا كثيرة ويسبون النساء والبنات من دون مانع ولا معارض. وكانت القسطنطينية بجملتها في قبضة يدهم يفعلون فيها ما يشاءون
من دون حساب ولا عقاب، وإذا قدم مركب موسوق «1» حطبا أو فحما إلى الميناء يذهبون حالا إليه ويسمونه بسمة أرطتهم «2» ، إشعارا بأنه قد دخل تحت ظل حمايتهم وبأنه قد صار لهم حق بيعه وقبض ثمنه، وجميع الخضر الواردة إلى السوق تحت مطلق تصرفهم يبيعونها بما شاؤوا ويعطون أصحابها من الثمن ما سمحت به أنفسهم. وهم في كل يوم يذهبون جميعا باحتفال لأجل أخذ مرتّباتهم، ويتعدون في طريقهم على كل من صادفوه، وقائدهم يمشي أمامهم وبيده مغرفة ضخمة طولها ذراعان وهم يتبعونه حاملين مراجلهم العظيمة على عتلات ومعهم جمهور من المحافظين بأيديهم سياط ضخمة. فإذا اتفق أن أحدا لم يحد عن الطريق- الذي يمرّون فيه- حالما يسمع قولهم: صاغ (أي ظهرك أو احذر) فإن القائد يضربه بتلك المغرفة العظيمة فيرميه إلى الأرض، ثم يأتي أصحاب السياط ويوجعونه ضربا. وإذا رأى الحمّال منهم مع رجل رزمة يجبره أن يسلمه إياها لكي يحملها له، طالبا منه أن يدفع له الأجرة سلفا، التي ربما تساوي قيمتها. ثم بعد قبض الأجرة يسمح له بحملها إن شاء، بشرط أن يعطيه شيئا على ذلك.
وكان إذا بنى أحد بيتا يأتي إليه نجار من اليكجرية ويطرد نجّاريه، ثم يتمم هو العمل متى شاء، وبالطريقة التي يستحسنها. وكان الأمر والنهي في الدواوين والمحاكم والمأموريات بيد أولئك القوم العتاة في جميع بلاد المملكة العثمانية. وكانوا ينصبّون ويعزلون متى شاؤوا.
ولم تزل الأمور جارية على هذا المنوال حتى كادت المملكة تسقط تحت نير تلك القوة الهائلة التي كانت أوربا بأسرها ترتعد من مجرد ذكر اسمها.
وفي سنة 1208 ابتدأ السلطان سليم الثالث يتخذ عسكرا جديدا وسماه بالنظام الجديد.
فهاج اليكجرية ومن يتعصب إليهم، فاضطر السلطان إلى إرسال ما كان عنده من العسكر المذكور إلى آسيا ثم أرجعه إلى استانبول حينما اشتغلوا في الحرب خارجا مغتنما تلك الفرصة.
ولما أخذ هذا العسكر الجديد يزيد عدّة، قام الجميع عليه بصوت واحد مدّعين أن ذلك بدعة تضادّ الدين، فاضطره الأمر إلى التسليم لهم أيضا. ثم انتهز فرصة أخرى وأرجع النظام وجعل منه عسكرا محافظين على المدينة وأحضر من آسيا عساكر غير منتظمة لتكثير العدد.
فأخذ اليكجرية في إضرام نيران الاختلاف بين عساكر النظام وتلك العساكر التي هي غير منتظمة، فحدثت حركة شديدة من بين الفريقين دارت فيها الدائرة على عساكر النظام فهربوا إلى القشل «1» ، وأما العساكر التي هي غير منتظمة فذهبوا إلى اليكجرية وأخرجوا المراجل المشهورة وجعلوها صفوفا في ساحة القشلة، فاجتمع جمهور من اليكجرية المستوطنين وثار معهم جمهور من رعاع المدينة وحينئذ لم يسع السلطان إلا الأمر بإبطال النظام. غير أن اليكجرية لم يرضوا إلا بخلعه وسجنه عند الحريم جزاء لما ابتدع في الإسلام من العادات والملابس الفرنجية على زعمهم، ونادوا باسم السلطان مصطفى. ولما أجلسوه على تخت السلطنة أصدر أمرا بإبطال النظام الجديد.
ثم في السنة التالية قام مصطفى باشا بيرقدار ووقف بعساكره على باب السرايا وطلب متهدّدا إرجاع السلطان سليم إلى تخت الملك. فلما رأى السلطان مصطفى ذلك الأمر خنق السلطان سليما وطرح جثته من كوة القصر إلى العصاة الذين كانوا محيطين بالسرايا.
فساءهم ذلك جدا وهجموا على السرايا وخلعوا السلطان مصطفى ووضعوه في السجن الذي كان فيه السلطان سليم، ونودي باسم السلطان محمود الثاني، وكان السلطان محمود يتردد دائما على السلطان سليم وهو في السجن، ويسرّ جدا بما كان يطلع عليه من تدابير ابن عمه بما يرجع المملكة العثمانية إلى ما كانت عليه من النجاح والسطوة، ولم يكن أقل بغضا منه لطريقة اليكجرية، وكان يحسب نفسه قادرا على قهرهم، فحلف مقسما أنه لا بد من أن يهلك تلك القوة الفظيعة التي كانت قابضة على زمام السلطنة بأيديها الخبيثة.
فتولى مصطفى باشا بيرقدار منصب الصدارة العظمى وأخذ ينتقم من أعداء السلطان سليم، وأما السلطان محمود فصرف همته في اتخاذ التدابير والوسائل اللازمة لقرض زمرة اليكجرية.
وبعد أن تسلح بفتوى من شيخ الإسلام أمر بإجراء نظام اليكجرية القديم بكل صرامة وتدقيق وإبطال علائق المتزوجين منهم، وإجبار المتزوجين بأن يتركوا حوانيتهم ويسكنوا في القشلة، ويتعلموا هناك فنون الحرب ويخضعوا لأصول طريقتهم.
فلما نشرت هذه الأوامر هاج اليكجرية وأظهروا العصيان في شهر رمضان وأضرموا النار في بيوت مجاورة لقصر الصدر الأعظم، فاحترق وهو نائم على سريره، ثم ساروا
هاجمين على السرايا، حيث كان السلطان محمود، فجمع السلطان حالا الطّوبجية ومن عنده من العساكر الجديدة، وانتشب القتال بين الفريقين مدة يومين، وأصبحت المدينة في خطر عظيم من تلك النيران التي أضرمها اليكجرية. وكانت عساكر السلطان محمود قليلة ضعيفة ورعاع المدينة قد اتحدت مع اليكجرية والمتعصبون لهم يحركون العامة ويهيجونهم، فرأى السلطان أنه لم يبق له إلا وجه واحد للتخلص من أيدي أولئك القوم العصاة، وهو أن يقتل السلطان مصطفى فيبقى وحده من سلالة بني عثمان، ففعل ثم خرج ووقف وحده أمام ذلك الجمهور الهائج فلم يجسر أحد أن يمد إليه يدا، وسلم قواد العساكر الذين قاتلوا عنه في السرايا للعدو لكي ينتقموا منهم بحسب إرادتهم، وأقسم بأنه لا يجدد إلى الأبد ذلك النظام الجديد المكروه. وأجاب اليكجرية إلى كل ما طلبوه، وأطلق لهم العنان كجاري عادتهم حتى إنه قيّد اسمه يكجريا في إحدى أورطهم.
ومن ذلك الوقت وقع القضاء على اليكجرية لأن انقياد السلطان محمود وتسليمه لهم في كل شيء لم يكن إلا بقصد الغلبة عليهم، فأخذ من ذلك الوقت بعزم شديد يستخدم التدابير اللازمة المؤدية إلى المرغوب، ودام مدة ثمان عشرة سنة منتظرا الفرصة لتنكيس تلك السيطرة وإنقاذ السلطنة من مخالبها الحادة. وكان جماعة من الطّوبجيّة قد تعلموا من عدة سنين طريقة الإفرنج في استخدام المدافع، إلا أنهم لقلة عددهم وقصر معرفتهم في استعمال المدافع كان اليكجرية يزدرون بهم. وأما السلطان فكان يزيد عددهم ويقويهم شيئا فشيئا لكي يعتمد عليهم عند الاقتضاء. وفي تلك الأثناء حصلت حركة الأروام فصارت حجة لتعليم تلك الزمرة أصول العسكرية وزيادة عسكرهم، وكانوا شديدي البغضة لليكجرية، وكان السلطان لا يألو جهدا عن اتخاذ كل الوسائل لتقوية تلك الحماسة فيهم نحو اليكجرية.
وفي سنة 1241 بلغ عدد الطوبجية في القسطنطينية أربعة عشر ألفا، وكانوا جميعا خاضعين خضوعا تاما للسلطان، خبيرين بأمور الحرب، خلافا لليكجرية الذين كانوا دائما يجلبون عارا على الراية العثمانية بعدم انقيادهم إلى قوادهم عند القتال، ورغبتهم الوحشية في سفك الدماء والسلب عند الانتصار، وكانوا قد أغضبوا الناس بمظالمهم وتعدياتهم، والعلماء بإدعائهم السيادة عليهم، وقوادهم بما كانوا يبدونه من الجبن والتمرد على أوامرهم.
ولما ظهرت- من انتصارات عساكر إبراهيم باشا في حرب المورة- القوة التي يكسبها
التعليم الإفرنجي العساكر، رأى السلطان محمود خان أن الوقت الذي كان ينتظره منذ سنين كثيرة قد أتى، وأنه قد حان الزمان الذي يجب فيه بأن يخلص من مخالب اليكجرية بإيجاد قوة جديدة منظمة كافية لدفع قوتهم وإنقاذ السلطنة منهم، وقادرة على المدافعة عن المملكة إذا مسّت الحاجة. وإذ كان لا بد له من التخلص قبلا من الارتباكات الخارجية، اضطره الحال للتسليم إلى طلب اقترحته روسيا، ولم يكن لها قصد بذلك إلا جعله وسيلة لإضرام نار الحرب بينها وبين الدولة العلية. ثم عقد مجلسا من رجال الدولة العظام لأجل النظر في قوة العسكر وإصلاح الأحوال وأخرج فتوى بجواز تزيّي جنود المسلمين بزي أهل الكتاب، وبأن يتخذوا ما لهم من العوائد فيستخدمونها لمدافعتهم ويقاتلونهم بسلاحهم.
وفيما كان المجلس ملتئما، قال رجل من أعضائه، وكان شيخا مسنا: إن اليكجرية أشبه بعجائز ذوات عجب، وقد علاهن الكبر يفتخرن كثيرا بما كان لهن من الجمال منذ سنين كثيرة. وقال آخر: إنهم لا يعتبرون الآن العلماء، مع أنهم كثيرا ما حاموا عنهم وساعدوهم. وقال آخر: إنهم طالما جلبوا العار على الراية العثمانية بواسطة تجاوزهم حدود الشريعة وعدم انقيادهم لأوامر السلطنة. فقر رأي ذلك المجلس على وجوب إصلاح أحوال العسكر، وحكم بأن يؤخذ رجال من كل فرقة من فرق اليكجرية ويجعلوا عسكرا جديدا وأن يكون لهم لباس خاص على نسق واحد وأن يتعلموا أصول الحرب على طريقة الإفرنج، مع المحافظة على الواجبات الدينية الإسلامية وعين ذلك المجلس مرتبات ذلك العسكر الجديد وكل ما يتعلق به من النظامات بكل تدقيق وتفصيل.
وبعد أن حكم شيخ الإسلام أن ذلك جائز شرعا تعهد المجلس بإجرائه بالفعل. ثم عرضت تلك الأحكام على قواد العساكر فقبلوها وختموا على تلك العهود، ولكن حالما ابتدأت الحكومة في إجراء ذلك النظام الجديد وتعليم ذلك العسكر الطريقة الإفرنجية استفاق اليكجرية من غفلتهم فجاهروا بالعصيان وصفوا المراجل كجاري العادة وأخذ أصحابهم والمتعصّبون لهم من رعاع الناس يتواردون إليهم من كل أطراف المدينة. وكان ذلك في اليوم الخامس من شهر حزيران سنة 1825 م مسيحية المصادفة سنة 1241 هـ وكانت الدراويش تتقدم تلك الجماهير وتهيجهم لمقاومة تلك البدع الجديدة الإفرنجية، وذهبوا بهم إلى منزل كبير اليكجرية قاصدين قتله فنجا من أيديهم، فنهبوا منزله ومنزل الصدر الأعظم فوقعت المدينة ثانيا في قبضة أيديهم.
وأما السلطان محمود خان فإنه استحضر إلى سراياه جميع الطوبجية، وبعث رسولا إلى اليكجرية العصاة يأمرهم بإلقاء السلاح والتسليم فرفضوا الأوامر واستهزءوا بها. فجمع العلماء وأخبرهم بما كان فقالوا جميعا: إن اليكجرية هم أعداء الدين. فجلس السلطان تلك الليلة في السرايا في نفس الموضع والحالة التي جلس عليها منذ ثمان عشرة سنة، وكانت المدينة بأيدي جنود هائجة قد علا ضجيجهم إلى الجو وملؤوا الأسواق حتى وصلوا إلى باب السرايا وأخذوا يجلبون ويتهددون. وفي صباح اليوم السادس عشر من شهر حزيران من السنة المذكورة أخرج السلطان علم النبي صلى الله عليه وسلم من الخزينة وسار بكل جنوده إلى ساحة آت ميدان. وبعد تقديم الدعاء في جامع السلطان أحمد نشر هناك العلم الشريف فأخذت الجماهير تتقاطر إليه، ثم أخذت الجيوش تتقدم نحو اليكجرية وتدفعهم إلى الوراء، إلى أن وصلوا إلى تل مشرف على معسكرهم بقرب جامع السلطان محمود، وكنت ترى جماهير كثيرة من المسلمين يبادرن بسرعة إلى معسكر السلطان لأجل المدافعة عن العلم الشريف.
ثم ثار جماعة من الطوبجية نحو ساحة آت ميدان من دون مصادمة كثيرة، ولم يمض إلا القليل حتى أحاطت الجنود المظفرة بتلك الساحة الفسيحة من كل جهة، وجعلت المدافع على كل مرتفع وفي كل شارع مقابل ذلك الموضع.
وعند ذلك خرجت اليكجرية من القشل قاصدة الهجوم على عساكر السلطان فأرسل السلطان رسولا يأمر اليكجرية أن يسلموا، فقتلوا الرسول وللحال أشعلت الطوبجية المدافع وكان عددها مائة مدفع وأخذت تطلق الكرات والقنابل على ساحة آت ميدان والقشلة، فهجمت اليكجرية على الصفوف السلطانية فدفعتهم العسكر المظفرة دفعة هائلة وذبحوا منهم عددا غفيرا، فرجع من سلم هاربا إلى القشلة، وحينئذ تحولت المدافع نحو القشلة بأسرها، وأشعلت النار الدائمة فلعبت بالقشلة. فصرخ اليكجرية من داخلها طالبين العفو والرجمة فلم يلتفت إلى صراخهم، وذلك أن ألوفا من الشيوخ والنساء والعذارى طالما كانوا يصرخون إليهم في أيام سطوتهم طالبين الرحمة فلم يرحموهم ولا التفتوا إلى صراخهم.
ولم تزل المدافع تعج والبواريد ترسل الرصاص من دون انقطاع حتى سقطت حيطان القشلة إلى الداخل على من سلم فيها من نيران القتال فهلكوا عن آخرهم، ولم ينج أحد من جميع الذين كانوا قد وقفوا في تلك المعمعة لمحاربة سلطانهم وولي نعمتهم، فسحق ذلك العصيان سحقا فظيعا في أول ظهوره، ولكن لم يكن ذلك نهاية العمل لأنه كان لم يزل ألوف من
اليكجرية باقين متفرقين في أماكن مختلفة من المدينة، وكانت الإيالات أيضا مملوءة منهم.
وفي اليوم الثاني خرج فرمان شريف بإبطال تلك الزمرة وملابسها ومصطلحاتها وقشلها حتى واسمها من كل المملكة، ونادى به المنادون. وهذه ترجمته:«بموجب حكم الكتاب والشريعة، إصلاحا لحال أمة محمد، وإحياء للدولة والدين، تلغى أرط اليكجرية من الآن وصاعدا وتبطل كليا. وبموجب اتفاق العامة مع جميع العلماء حرر أنفار عساكر محمدية منصورة مكان هؤلاء، وعلى أهل العرض بعد هذا أن يفتحوا دكاكينهم ويكونوا في أشغالهم ومكاسبهم» . اه.
فوقع الرعب على كل زمر اليكجرية وهربوا متبددين في كل صقع وناد. وكانت الحكومة تفتش عليهم في كل مكان من المملكة وتلقي القبض على كل من وجدته منهم وتعاقبهم بالقتل بالسيف أو بالخنق أو بالسجن أو النفي، بحسب أحوالهم وذنوبهم. وكنت ترى خليج قسطنطينية مملوءا من جثث القتلى الذين كانت تلقى فيه «1» . فبلغ عدد الذين قتلوا ثلاثين ألفا. وهكذا كانت نهاية هؤلاء العساكر المنكودة الحظ، والوبال الذي جلبه لنفسها بغيها وعدم مراعاتها النعمة. وقد أرخ بعضهم هذه الحادثة بقوله: غزاي أكبر، وذلك سنة 1241.
قلت: إن الفظائع التي كان اليكجرية يجرونها في استانبول، كانوا يجرونها بل أعظم منها في حلب وغيرها من البلاد الخارجة عن استانبول، فقد كانوا قابضين فيها على الحرف والصنائع، وكانوا يعاملون الناس بالجبروت والقسوة ويهينون الأشراف ويهتكون الأعراض. وكانت جميع الفتن والثورات في حلب- التي أسلفنا ذكرها- هم السبب الأعظم بإثارتها وكان زعماؤهم في الدرجة القصوى من الثراء والغنى، وهم على جانب عظيم من العتوّ والكبرياء. وكان ولاة حلب يعجزون عن إخضاعهم وردعهم إلا من لجأ منهم في قهرهم إلى الحيلة والخدعة معهم، كما فعل باستئصال عدد كبير من طواغيهم جلال الدين باشا. وكانوا يجرون في حلب من الفظائع والمخازي ما يقف اليراع خجلا عن تحريره وتسطيره: يهتكون شرف العذارى في حضور أوليائهم وفي منازلهم، ثم يبصقون بوجه الرجل ويأخذون منه ما يوجد عنده من النقود وما عند نسائه من الحلي، ويخرجون من
بيته وهم يودعونه باللعن والشتائم. ومن فظائعهم أيضا أنهم كانوا يدخلون رأس الكلب في بطيخة خضراء فارغة ويرسلونه في الأسواق والشوارع، ووراءه واحد منهم ينادي بقوله: تنحّوا عن طريق السيّد (لأن السادة كانوا يلبسون في رؤوسهم العمائم الخضر) .
ومما كانوا مستولين عليه من الحرف والمهن حرفة اللحّامين، فقد كان معظمها في أيديهم، وكان الرجل لا يقدر أن يطبخ في بيته إلا نوع الطعام الذي يأمره به لحّامه، فلربما أمره عدة أيام بأن يطبخ نوعا واحدا من الطعام لأن اللحمة التي عند لحامه لا تصلح لغير ذلك النوع، ولا يستطيع الرجل أن يشتري من لحام آخر مطلوبه من اللحم، لأنه إذا فعل ذلك فربما يقضي لحامه عليه. فاتفق أن رجلا كان اسم لحامه رحمون آغا فكانت زوجة الرجل إذا سألته: ماذا نأكل في هذه الليلة؟ يجيبها بقوله: «الإرادة لرحمون آغا» .
فسارت هذه الكلمة مسير المثل في حلب يتمثل به من كانت إرادته تبعا لإرادة من هو أقوى منه.
والخلاصة أن الفظائع التي كانت تجريها هذه الطغمة الشريرة كثيرة جدا يحتاج استقصاؤها إلى مجلّد على حدته، وأن جميع ما كان يجريه عليهم الولاة من العقوبات والمصادرة والتعذيب قليل من كثير مما كانوا يستحقونه. فالحمد لله الذي أراح منهم البلاد والعباد.
انتهى ما قصدنا إلى إيراده من الكلام على أحوال الطائفة اليكجرية. ولنعد الآن إلى سرد الحوادث فنقول: في سنة 1242 ولي حلب سيروزي يوسف مخلص باشا ابن إسماعيل بك من أعيان سيروز. وفيها حدث بحلب طاعون جارف بلغ عدد وفياته اليومية نحو أربعمائة نسمة.
وفي سنة 1243 ولي حلب الصدر الأسبق رؤوف باشا. وقرأت في السجل المحفوظ في المحكمة الشرعية أنه في هذه السنة رفع مفتي حلب أحمد أفندي الجابري، ونقيب أشرافها عباس أفندي طه زاده- وغيرهما من وجهاء حلب- إلى الحاكم الشرعي أن بكير آغا ابن كعدان، وعبيد بن الجذبة وأتباعهما- وهم مصطفى وعواد وأحمد بن هاشم- عازمون على العود إلى حلب والإضرار بأهلها، فهم- أي المفتي ونقيب الأشراف ورفقاؤهما- يطلبون من الحاكم الشرعي أن يحكم بقتلهم: فأحضر الحاكم أهل المحلات