الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا تروق للسلطان عبد الحميد الذي كان مبدؤه التظاهر بالأعمال الدينية إرضاء للرعية، فيتوخى كلّ عمل يلائم أفكارهم.
وألصق به هؤلاء المنفيون غير ذلك من التهم التي هو براء منها والتي لم يقصد من عملها سوى خدمة الوطن وتحسين أحوال البلدة. وكان الباعث لهؤلاء الطغمة الشريرة على وشايتهم به أنه كان مدة ولايته في حلب يعارضهم في أعمالهم الاستبدادية، ويمنعهم عن تداخلهم في شؤون الحكومة، وكان أسلافه الولاة يهابونهم ولا يعارضونهم في تداخلهم، أما هو فإنه ضرب على أيديهم ووقف تيار استبدادهم وأعلمهم بأنهم هم منفيون ليس لهم من الأمر شيء.
بقي رائف باشا ضيفا كريما في منزل أحمد أفندي كتخدا مدة تزيد على شهرين، وهو في أثنائها في ضنك عظيم يتوقع كل لحظة صدور أمر السلطان بجعله من جملة المنفيين، غير أن السلطان تحقق في هذه المدة بواسطة جواسيسه الصادقين أن رائف باشا من المخلصين في ولائه وأن جميع ما ألصقه به أعداؤه من التهم كذب وبهتان، فأصدر إرادة سنية ترخّص له الحضور إلى استانبول، فتوجه إليها. وفي يوم خروجه من حلب خفّ لوداعه عدد عظيم من العلماء والأعيان إلى منتزه السبيل، فجلس هناك برهة من الزمن ثم استأنف المسير إلى جهة إسكندرونة، فأسف عليه الناس أسفا عظيما ودعوا له بالسلامة وطول البقاء.
ولاية أنيس باشا في حلب:
وقبل سفر رائف باشا إلى استانبول بأيام قلائل، حضر إلى حلب أنيس باشا واليا عليها فنزل في دار البلدية وأقبل الناس عليه للسلام. وفي ثاني يوم من وصوله نزل إلى الجامع الكبير وزار المرقد الشريف، وطاف في البلدة وزار مراقد الأولياء والصالحين وعاد إلى منزله. ومضى على قدومه إلى حلب عدة أيام ولم تزره قناصل الدول المعظمة. ثم شاع عنهم أنهم يطلبون من السلطان تبديله وأنهم لا يعترفون بولايته على حلب زاعمين أنه هو الذي أغرى الأمة في ولاية ديار بكر- حينما كان واليا عليها- بالقيام على الأرمن وقتلهم. ولما أصر القناصل على عدم الاعتراف بولايته على حلب ورد إليه أمر مرموز بأن يبقى مختبئا في منزله لا يظهر إلى أحد حتى يأتيه أمر آخر يوضح له ما يجب عليه عمله.
فبقي هذا الوالي المسكين مختبئا في منزله كالمحبوس مدة شهرين أو أكثر لا يظهر لأحد،
وقام بأمور الولاية بدله علي محسن باشا القائد العام على حلب وأطنه وما والاهما. ثم ورد له الأمر بالظهور ومباشرة العمل.
رأى السلطان عزل أنيس باشا عن ولاية حلب- لمجرد رفض القناصل ولايته عليها- وهنا في سطوته وإخلالا بشرف سلطنته، فأبقاه مختبئا تلك المدة مغالطة وإيهاما بأنه قد عزله. ثم استرضى السفراء على إبقائه واليا في حلب فبقي أمره نافذا ولم ينكسر للأجانب، وعدّ تدبيره هذا من جملة دهائه ونبوغه في فنون السياسة.
وفي جمادى الأولى منها تم بناء مستودع المواد النارية العسكرية- المعروف باسم جبخانة- خارج حلب في شرقيها إلى الشمال قرب تكية الشيخ أبي بكر الوفائي وكانت المواد النارية قبلا تحفظ في مستودع داخل القلعة وبعضها يحفظ في مستودع داخل الثكنة العسكرية المعروفة بقشلة الشيخ يبرق، فخيف من حدوث حريق يتصل بهذين المستودعين فينجم عنه أضرار عظيمة فنقل ما فيهما إلى المستودع الجديد. وفي هذه السنة كان الشتاء شديدا والثلوج كثيرة وأخبار الهالكين بالقرّ والصقيع وفيرة، خصوصا في جهات مرعش والبستان وتلك الجهات.
وفي ذي القعدة منها تمّ إنشاء حديقة محلة العزيزية المعروفة بالمنشية، وركب على بئر- حفر فيها- دولاب هوائي يرفع الماء إلى برميلها ثم ينحدر إلى حوض مهندم في الحديقة كأنه حوض طبيعي. وقد جاءت الحديقة غاية باللطافة وحسن المنظر. وفي هذا الشهر كان الاحتفال بتأسيس الثكنة العسكرية في مدينة إسكندرونة. وفيها انتهت جميع متممات مستشفى الغرباء الكائن تحت القلعة قرب سوق الضرب، وفرش بالأسرة ودخلت إليه المرضى من الفقراء وهو مستشفى حافل يقل نظيره في البلاد العثمانية، قد اشتمل على غرف للرجال وأخرى للنساء وخلوات للممرضين والأطباء وأماكن للتشريح والأعمال الجراحية وأهراء «1» للمؤنة وغير ذلك.