الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والترتيب- إلى أن انتهوا منها، فبدأ وهو قاعد يتكلم بما انطوت عليه صحيفة أفكاره من المواضيع العديدة التي يصعب على أعظم رجال الخطابة استيعابها وإيرادها في مثل هذا المحفل العظيم. ولما بدأ بالكلام قام الحاضرون وقوفا- إعظاما وإجلالا له- فأشار إليهم أن اجلسوا لأن كلامي يستغرق وقتا طويلا لا أريد أن تتكبدوا فيه مشقة الوقوف. فجلسوا وأنصتوا ووقف بعض الكتاب والأدباء وبأيديهم القراطيس والأقلام يكتبون ما يفوه به بالحرف الواحد فقال:
خطبة الأمير فيصل:
«لا شك أنكم أيها السادة ترون منا أعمالا مهمة. إن حلب هي من أقاصي بلاد العرب، لم يتصل بأهلها ما وقع بيننا وبين الأتراك وما هو سبب قيامنا ضدهم.
إن الأتراك كانوا يشيعون أن الأشراف اتفقوا مع الدول الغربية على بيع البلاد لقاء دريهمات أخذوها منهم، وأخرجوا ضدنا فتاوى ربما اغترّ بها بعض البسطاء وصدّقها. فنقول في ردّ وبطلان ما زعمه الأتراك فيما شيعوه:
إن الدين الإسلامي نشأ بقدرة الله تعالى وانتشر بواسطة محمد النبي العظيم الذي تنسب إليه أسرتنا، فهل يتصور أحد أن أناسا يرضون بهدم ما بناه لهم جدّهم من المجد والشرف.
نحن لم نقم إلا لنصرة الحق وإغاثة المظلوم. ساد الأتراك 600 سنة هدموا بخلالها صرح المجد الذي أقامه أجدادنا وأطفؤوا نار العرب، ولكنها لم تطفأ لأن العرب عاشت قرونا وأجيالا لم يتسنّ لغيرها من الأمم أن تعيش مثلها، وكانت العرب تنتظر الفرص لتنتهزها حين سنوحها. نحن العرب نمنا 600 سنة ولكننا لم نمت. لما أعلن الأتراك النفير العام أتوا بأعمال تتبرأ منها الإنسانية ولا لزوم لعدّها. كانت العرب تطالب الأتراك بحقوقها فاغتنموا الفرصة التي مكنتهم من الانتقام من العرب.
رأى والدي أن دولة الترك ليست تعمل لأجل دين أو عمل عام ينفع البلاد، ولكنها أعلنت جهادها مع ألمانيا لمجرد الانتقام من العناصر الخاضعة لها مثل العرب. وتبيّن له أن مبادئ الحكومات الغربية المدنية هي مبادئ إنسانية، مبادئ خير، مبادئ نصرة الحق.
واتفق معهم- بعد الاتكال على قوة الله تعالى- لعلمه أنهم ينصرون الضعيف
ويساعدون على إعادة حقوق الأمم المحكومة، وتعاهد معهم على إزاحة حكومة الأتراك واستخلاص ما اغتصبوه منا نحن العرب. باسم العرب حالف والدي الحكومات الغربية وقام معهم ضد تركيا وألمانيا كتفا إلى كنف، لا كما زعم الأتراك من أن قيامنا كان نتيجة مطامع شخصية.
فأنا باسم كافة العرب أخبر إخواني أهل الشهباء أن للحكومات الغربية- خصوصا إنكلترا وفرنسا- اليد البيضاء في مساعدتنا وشدّ أزرنا، ولا تنسى العرب، ما دامت موجودة على وجه البسيطة، فضل معاونتهم. نحن اليوم ندعي التحرر والاستقلال؛ فهذه أقوال، إذا لم نعمل شيئا لحدّ الآن سوى طرد الأتراك من بلادنا وهذا محتم عليهم لأن القدرة الإلهية تأبى تركهم بدون مجازاة لما أتوه من الفظائع.
بقي علينا وظائف مهمة جدا وهي تأسيس ملك وحكومة نفتخر بهما أمام العالم أجمع.
إن الأمم الغربية قد ساعدتنا مادة وستساعدنا معنى، وإني لأملو «1» عليكم برقية وردت لي منذ ثلاثة أيام تبين لكم إحساسات الدول الغربية نحونا ليفهم جميع أهل الوطن أننا لم نبع البلاد ولن نبيعها أبدا» .
وهنا أشار إلى كاتبه بتلاوة البرقية فتلاها، وهذا نصها:
حمص: سمو سيدي الأمير فيصل. نقدّم لسموكم صورة البلاغ العام الذي تلقيته من المستر (سته رلنغ) الحاوي على تعهدات الحلفاء وخطّتهم في بلادنا. والله يؤيدكم.
8 تشرين الأول سنة 1334 الحاكم العام لسوريا. الركابي.
الصورة: «إن النّوط الذي ترمي إليه فرنسا وبريطانيا العظمى- بمواصلتهما في الشرق تلك الحرب التي أثارها الطمع الألماني- هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها الترك تحريرا نهائيا، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تبنى سلطتها على اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارا لا جبرا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم. وتنفيذا لهذه النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في سوريا والعراق اللتين
أتم الحلفاء تحريرهما، وفي البلاد التي يواصلون العمل بتحريرها، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلا.
والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات على قبول نظام معين من النظامات وإنما همتهم أن يحققوا معاونتهم ومساعدتهم النافعة حركة الحكومات والمصالح التي ينشئها الأهالي لأنفسهم مختارين حركة منتظمة؛ وأن يقيموا لهم قضاء عادلا واحدا للجميع، وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد وتقدمها اقتصاديا، وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجيعها، وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما استخدمته السياسة التركية.
ذلك ما أخذت الحكومتان الحليفتان على نفسيهما مسئولية القيام به في البلاد المحررة» .
ثم أردف الأمير فيصل هذا بقوله: «لا شك أن هذه البرقية من النّبذ التاريخية العظيمة.
وإنها تنم عن شواعر عالية وحسيات إنسانية لا يقوم العرب بأداء واجب الشكر عليها إلا بتحقيق أماني هذه الدول، وهي تشكيل وتنظيم حكومة عادلة قوية تحفظ حقوق جميع أهل البلاد.
إننا اليوم في موقف حرج. الأمم المتمدنة وحلفاؤنا ينظرون إلينا بنظر الإعجاب والتقدير، وأعداؤنا يرمقوننا بعين الانتقاد. خرج الأتراك من بلادنا ونحن الآن كالطفل الصغير لا حكومة ولا جند ولا معارف، والسواد الأعظم من الشعب لا يفقهون من الوطنية والحرية ولا ما هو الاستقلال، حتى ولا ذرّة من كل هذه الأمور. ذلك نتيجة ضغط الأتراك على عقول وأفكار الأمة. فلذا يجب أن نفهم هؤلاء الناس قدر نعمة الاستقلال، ونسعى- إن كنّا أبناء أجدادنا- لنشر لواء العلم؛ لأن الأمم لا تعيش إلا بالعلم والنظام والمساواة وبذلك نحقق آمال حلفائنا.
أنا عربي وليس لي فضل على عربي ولو بمثقال ذرة. إنني أوفيت وجائبي الحربية كما أوفى والدي وجائبه السياسية، فإنه تحالف وتعاهد مع أمم متمدنة أوفت بعهودها ولا تزال تساعدنا على تشكيل حكومة منتظمة. فعلينا إبراز هذه الأمنية إلى حيّز الوجود بكمال الحزم والعزم لأن البلاد لا يمكنها أن تعيش بحالة فوضى، أي بلا حكومة. وهذا واجب ذمة الأمة وأهل البلاد ونبرأ إلى الله مما يحصل لهذه البلاد بعد اليوم. أنا ومن معي سيف مسلول بيد العرب يضربون به من يريدون. أحضّ إخواني العرب- على اختلاف
مذاهبهم- بالتمسك بأهداب الوحدة والاتفاق ونشر العلوم وتشكيل حكومة نبيّض بها وجوهنا لأننا إذا فعلنا كما فعل الأتراك نخرج من البلاد كما خرجوا، لا سمح الله، وإن فعلنا ما يقضي به الواجب يسجل التاريخ أعمالنا بمداد الفخر. إنني أقلّ الناس قدرا وأدناهم علما، لا مزية لي إلا الإخلاص.
إنني أكرر ما قلته في جميع مواقفي بأن العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد.
وإن الديانات تأمر من في الأرض باتّباع الحق والأخوّة. وعليه فمن يسعى لإيقاع شقاق بين المسلم والمسيحي والموسوي فما هو بعربي. إننا عرب قبل كل شيء، وأنا أقسم لكم بشرفي وشرف عائلتي، وبكل مقدس ومحترم عندي، بأنه لا تأخذني في الحق لومة لائم، ولا أحجم عن مجازاة من يتجرأ على ذلك، فلا أعتبر الرجل رجلا إلا إذا كان خادما لهذه التربة.
عندنا والحمد لله رجال أكفاء كثيرون ولكنهم مقيمون خارج الديار وفي بلاد الأتراك وسيأتون قريبا إن شاء الله فيصلحون الخلل الموجود هنا، ولا يجدر أن نتقاعس عن العمل ريثما يأتون فما لم يدرك كله لا يترك جلّه. ويلزم علينا أن نبتدئ بدون أن ننظر للمرء من حيث شرف عائلته وخصوصيته؛ بل ننظر إلى الرجل الكفؤ، شريفا كان أو وضيعا، إذ لا شرف إلا بالعلم. الإنسان يخطئ فإذا أخطأت سامحوني وبيّنوا لي مواطن خطئي.
بما أن أغلب الأفراد يجهلون قدر نعمة الاستقلال- كما بينت لكم- فلا يبعد أن يحصل في بعض المحلات ما يخلّ بالأمن، فالحكومة مجبورة على تطبيق معاملاتها على القانون العسكري العرفي مدة الحرب بينما يتم تشكيل حكومة منتظمة. أرجو إخواني أهل البلاد أن ينظروا إلى الحكومة نظر الولد البارّ للوالد الشفوق ويساعدوها جهد طاقتهم، ويعلموا أن الحكومة مشارفة على أعمال الأفراد والموظفين. إن الحكومة في طورها الجديد بحاجة لإيجاد قوة تحفظ كيانها فكل من يعيث بأوامرها ويخل بمقرراتها يستهدف ليدها القوية.
ولأجل حفظ الاستقلال ليس إلا أن أدعو أهل البلاد للاهتمام الزائد لتكوين حكومة ثابتة الأركان منيعة الجانب.
الدرك والشرطة هما قوام البلاد وبدونهما لا تنتظم أحوال الحكومات، لذلك أطلب من الجميع وخصوصا الشبان أن ينتظموا بهما وأن لا يتأخر أحدهم عن خدمة وطنه وبلاده،
بدون النظر لموقعه العائلي. فإن الشرطة وظيفة شريفة عالية وإن الإنسان يتولى كل عمل في داخليته وبيته، حتى تجد ربّ البيت يكنس داره بيده ولا يرى بها استخفافا. وستكون القوانين السابقة مرعية الإجراء إلى أن يتم سن القوانين من قبل المجلس الأعلى أي مجلس الأمة. الحكومة الحاضرة تحفظ الأمن والانتظام ريثما تتعين هيئات الحكومة الجديدة. العرب أمم وشعوب مختلفة باختلاف الأقاليم، فالحلبي ليس كالحجازي، والشامي ليس كاليماني.
ولذا قد قرر والدي أن يجعل البلاد مناطق يطبق عليها قوانين خاصة بنسبة أطوار وأحوال أهلها: فالبلاد الداخلية يكون لها قوانين ملائمة لموقعها، والبلاد الساحلية أيضا يكون لها قوانين طبق رغائب أهلها.
كان من الواجب علينا أن نبدأ أولا بجمع الهيئة التي تسن هذه القوانين، ولكن العرب الذين هم في البلاد الخارجية هم أعلم منا بالقوانين الأكثر ملاءمة للبلاد، ولذلك نرجئ هذا الأمر إلى وقت اجتماع هؤلاء. وفي أقرب وقت يصلون إن شاء لله. بيد أنني استدعيت من الخارج رجالا قديرين على وضع قوانين صالحة ملائمة لروح البلاد وطبائع أهلها، وسيكون اجتماعهم في دمشق أو في غيرها من البلاد العربية لعقد مؤتمرهم، وسأنظر بأعجل وقت بشؤون الأوقاف والكنائس وردّ حقوقها المغصوبة من قبل الأتراك ونعطي كلّ ذي حقّ حقّه. وأطلب من أخواني أن يعتبروني كخادم للبلاد. إنكم أعطيتموني البيعة بمنتهى الإخلاص والرضاء فأقابلها بالقسم العظيم أني «1» لا أفتأ عن نصرة الحق وردّ الظلم وكل ما يرفع شأن البلاد.
أرغب إلى الأهالي أن يؤازروني بالعمل في خدمة الجامعة إلى أن يلتئم مجلس الأمة، فأقول حينئذ هذه بضاعتكم ردّت إليكم. إن حلب خالية من المدارس فأتمنى لها مستقبلا علميا باهرا كما كانت عليه بالتاريخ. وأرجو أخيرا صرف الهمة والفعالية لأمرين مهمّين:
(1)
حفظ الأمن العام. (2) ترقية المعارف. فو الله لا يمتاز أحد عندي إلّا بفضله وعرفانه.
عند مروري من حماة أثرت همة الأهالي بكلمات وجيزة للعناية بالعلم وافتتاح المدارس، وبجلسة واحدة تبرع بضعة أشخاص بأربعة آلاف جنيه وأوعد الآخرون بإبلاغهم 12 ألف جنيه. وسأستدعي حضرات الأهالي بحفلات خاصة للعناية بهذا المشروع الهام مشروع