الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما نساء أمة الأرمن فإنهن يرين للرجل حق السيطرة عليهن، فهن بهذه العقيدة من أطوع نساء العالم لأزواجهن، وهن بعيدات (إلا ما شذّ منهن) عن معانقة الأزياء الغربية في لباسهن وزخارفهن، إذ قلما تجد على أرمنيّة ثوبا يبدو منه الذراعان إلى قرب الكتف ويظهر منه الكاهل والنحر وأعالي الصدر. كما أنك لا تجد فيهن واحدة تستعمل في وجهها وشفتيها- وما بدا من يديها- التمويه بالبياض والحمرة. قد اعتضن عن ذلك كله بنظافة بشرتهن واعتدن على الاغتسال بالحمّام والتردد إليه من حين إلى آخر، والتزمن في لباسهن جميعا زيا واحدا، وهو ثوب بسيط بأكمام، يستر المرأة من رقبتها إلى ما تحت ركبتيها ساترة ساقيها بجورب منتعلة بحذاء (قندرة) له كعب عال، فاتحة على رأسها شبه طيلسان «1» أسود اللون مثلث الشكل، قد أرسلت خلفها زاويته الوسطى تستر بها ظهرها وضفيرتها.
ومنهن من تفتح على رأسها منديلة صفيقة سوداء، ترخي منها ذؤابة على ظهرها تخالط بها شعرها، فلا يفرق الناظر إليه بينه وبين ذؤابة المنديلة. على أن هذا النسق من اللباس والطيلسان لا يكاد ينقص عن الإزار الشرعي سوى عدم ستره جميع الشعر. وقلّ منهن من تلبس القبعة (البرنيطة) في رأسها.
ما تؤاخذ به أمة الأرمن:
إن هذه الأمة على ما هي عليه من المزايا الحسنة لم تتنزه عن بعض هنات تستوجب عليها المؤاخذة وهي:
(1)
التعصب المفرط الخارج عن دائرة الاعتدال، فإن كل واحد من الأرمن يرى الصواب كله فيما هو عليه من العقيدة والتقاليد والعادات، وأن ضد ذلك فيما هو عليه غيره. على أن هذه العقيدة هي التي تجعل الأرمني بعيدا عن معاشرة غيره منكمشا عن صحبة الناس، غير مؤتلف ولا مختلط معهم.
(2)
التهوّر وقصر النظر وقلة التبصر بالعواقب، وعدم وزن القدرة في القيام على طلب الاستقلال الذي طالما جلب على أمة الأرمن البوار والدمار، وأفنى منها ما يعدّ بألوف الألوف، دون الحصول على ما تبتغيه، غير متعظة بقول الحكيم:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
…
وجاوزه إلى ما تستطيع
وكيف تريد أن تدعى حكيما
…
وأنت لكلّ ما تهوى تبوع؟
(3)
الإلحاح بالانتقام من عدوهم إذا ظفروا به، حتى إنهم ليبطشون ببعضهم إذا طرأ بينهم خصام ونزاع، فترى سورة الغضب في أحدهم تحمله على أقصى ما تجود به قوته من الضرب والبطش.
إن التهور وقلة التبصر في العواقب قد كلّفا الأرمن أن يريقوا من دمائهم بحارا دون أن يحصلوا من ذلك على جدوى.
إن من تصفح التاريخ ونقّب فيه عن حوادث الزيتون والأرمن، وعما طرأ على مرعش من الخراب المتكرر، يظهر له جليا أن قيام الأرمن وتمردهم على الحكومات الإسلامية لم يخل منها زمن من الأزمان، يقومون على الحكومات تارة بأنفسهم وأخرى بواسطة الروم الذين يشنون الغارات على جهات الأناضول بإغراء الأرمن والالتجاء إليهم، ينضمون إلى الصليبيين تارة وإلى التاتار أخرى، فلا ينالون من ذلك سوى الفشل الذي كان الأحرى بهم أن يقودهم إلى العيش مع جيرانهم بالمسالمة والوفاق كما يعيش غيرهم من بقية الطوائف المسيحية التي تعيش في غبطة من السلام والوئام.
انظر إلى ما كتبناه في الكلام على مرعش يظهر لك أن هذه البلدة خربت بمشاغب الأرمن خمس مرات، أعاد بناءها في المرة الأولى معاوية، وفي الثانية العباس بن الوليد، وفي الثالثة الوليد بن هشام، وفي الرابعة صالح بن علي- في خلافة المنصور- وفي الخامسة سيف الدولة بن حمدان. ثم تنقلت عليها الولاة المسلمون حتى استولى عليها كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي، وكأنه استصعب حفظها والقيام بها فوهبها لبعض طهاته، وهو حسام الدين، ثم انتقلت عنه لأولاده إلى أن كانت سنة 656 فعجز عماد الدين- آخر من تولاها من أولاد حسام الدين- عن ضبطها لتواتر غارات الأرمن عليها، فعرضها على كيكاوس صاحب الروم فأباها، فعرضها على السلطان صلاح الدين فأباها أيضا، فرحل عنها وتسلمها الأرمن حتى أخرجهم منها سنة 900 علاء الدولة بك أحد أمراء الدولة ذي القدرية «1» وعمرها في موضعها الحالي وأجلى الأرمن عنها إلى أن
كانت سنة 928 دخلت تحت سلطة الدولة العثمانية، وكان جاليتها الأرمن ومن اختاروا التوطن في ضواحي قلعة الزيتون الخربة التي هي في وسط جبال وعرة المسالك جدا، تحصّنا وتمنعا عن الحكومة التي تهددهم بقوتها إذا حاولوا التمرد عليها.
ونقلت من كتاب «فظائع الأرمن» التركيّ العبارة ما خلاصته أن الأرمن في حدود سنة 952 هـ رأسوا منهم أربعة أشخاص سموهم (إيشخان- برنس) وقسموا مدينة الزيتون بينهم أربعة أقسام، أقاموا على كل قسم منها واحدا يحكمها من هؤلاء الأربعة، وعقدوا جمعية سموها (فه أودال) جعلت وظيفتها السعي وراء تأييد السلطة الأرمنية على أهل تلك النواحي المجاورة لهم. فاستفحل أمر هذه الجمعية وامتدت سلطتها إلى القرى المجاورة لها، حتى صارت تجبي الضرائب من أهلها بواسطة جباة ينصبونهم، حتى إن كثيرا من القرى الإسلامية القريبة من الزيتون خربت وجلا أهلها عنها فرارا من ظلم الزيتونيين وتعدّيهم، وكانوا كثيرا ما يتمردون على الحكومة بدعوى كثرة ضرائبها عليهم، حتى إنهم قاموا مرة عليها بزعم أن ضرائبها البالغة في السنة 15 ألف قرش لا يقدرون على دفعها، ثم إنهم لما رأوا أن لا مناص لهم من دفعها أذعنوا للطلب ودفعوها ثم تجاهروا بالعصيان وقاموا عليها في سنة 1197 ثم تكرر منهم هذا التمرد في كل من سنة 1201 و 1223 و 1224 و 1241 و 1247 و 1258.
وفي سنة 1270 حضر إلى الزيتون قسيس اسمه (ملكيان أورزروفي) ليكون عضوا عاملا في العصابة العصيانية. وعندها انتخب الإيشخانيون القسيس (ديراسويان) مشاور الحكومة، فنصبوه حاكما عاما على الأرمن في تلك النواحي. فتوجه هذا إلى دولة روسية ليؤيد حاكميته الموهومة. وبينما هو في الطريق إذ ألقي القبض عليه في مدينة أرضروم وحضر إلى الزيتون شابّ اسمه (هاروتيون جاقريان) وهو زيتوني الأصل، وكان من مأذوني مكتب الأرمن في «غلطة» فتعين عضوا عاملا في جمعية الزيتون، فنفخ هذا الشاب في أدمغة الأرمن روح استقلال الأرمن وانفكاكهم عن الدولة العثمانية.
ومن ذلك الوقت أخذوا يشدّدون الوطأة على من حولهم من أهل القرى المسلمين، وأخذوا يستعطفون أمة الأرمن ويطلبون منهم المدد والمعونة على مشروعهم فصارت الإعانات ترد إليهم تباعا من أميركا ومصر وغيرهما، حتى إن أرمنيا اسمه (مياسيال أنيكه)
الزيتوني المقيم في مصر، تبرع على هذه الجمعية بأربعمائة ليرا، وأرسل إلى مكاتب الأرمن في الزيتون معلمين خصوصيين، وصار يحضر إلى الزيتون- من غير أهلها- جماعة تمكنت فكرة الاستقلال من رؤوسهم، منهم رجل أعطوه لقب (برنس) حرروا له محضرا عاما ليقدمه بنفسه إلى نابليون الثالث إيمبراطور فرانسة، قالوا فيه إنهم يسترحمون من حضرة الإمبراطور باسم سبعين ألف بطل أرمني أن يظاهرهم على الاستقلال. فاهتم الإمبراطور بهذا الطلب أولا ثم لما تأمل المحضر وعلم ما فيه من المبالغة في العدد والتظلم طرحه وراء ظهره.
قال في الكتاب المذكور: وفي سنة 1282 سرى تمرد الزيتونيين إلى استانبول بواسطة مرخّصي الأرمن الزيتونيين. وفي تلك الأثناء عينت الحكومة للزيتون قائمقام، فقام بعضهم يطلبون من البطركية رفعه، وظهر واحد من شجعانهم اسمه (بابيك باشا) وصار يتعاطى الدعارة وقطع الطريق إلى أن مات. وفي سنة 1297 بدأ الاختلال في تلك الجهة وكان زعيمه رجلا اسمه بابيك، وقد دام هذا الاختلال إلى سنة 1313 وقد حدث في هذه المدة عدة وقائع أهمها الواقعة التي تقدم ذكرها، التي بدأت سنة 1313 وقد اشترك في هذه الواقعة عامّة الأرمن الجبليين، سوى أفراد قليلين منهم. واستغرق هذا الاختلال مدة خمسة وأربعين يوما. ثم تداخلت القناصل ووقفت هذا الاختلال كما قدمناه.
قال صاحب الكتاب المذكور: والغريب أن زعماء هذا الاختلال قاموا في أوله على قصد النهب والسلب، ثم بدا لهم أن يفرغوه في قالب سياسي، وبذلك اغتنموا فرصة جمع مبلغ عظيم من النقود، جمعوها من الأرمن ودلّوها في جيوبهم. وكان الغرض الحقيقي من هذه المشاغب الدعوى للمداخلة الأجنبية، وإضعاف الدولة العثمانية والتأمين على استقلال الزيتون. اه الاستطراد.
وفي هذه السنة 1313 استولى الخوف على الناس في حلب وصار لا يمرّ يوم وإلا ويقع فيه الرعب من الثورة، فيغلق الناس حوانيتهم ويتراكضون إلى بيوتهم. وفيها- في ثاني عشر آذار- سطع بين العشاءين ضياء دهش له الناس، استغرق نحو خمس دقائق. وقد انتبه له الناس من داخل خلواتهم وجعلوا ينظرون إليه، وبينما كانوا يرونه جرما ملتهبا آخذا بالهبوط، إذ بصروا به جرما عظيما كأنه قطعة سحابة نارية يتطاير منها شرر كثير كأنها
جمرة تتلظى، ثم أخذ لونها بالبياض حتى عادت كأنها غمامة بيضاء استمرّت تشاهد في الجو نحو ساعتين. وقد ترك حين نزوله من العلوّ أثرا محمرا بقي قدر ساعتين. وشوهد هذا الحادث أيضا في جزيرة قبرص وقونية وأدرنة.
وفيها استتب الأمن في الزيتون وأقلعت عنها طوابير الرديف إلى مراكزها، فوصل منها في يوم الجمعة 19 ذي القعدة عدة كتائب سافرت في ثاني يوم إلى أزمير. وفيها عمر في قرية قره أغاج قرب مدينة إسكندرونة جامع على نفقة الخزينة الخاصة. وفيها أضيفت ناحية تركمان إلى ناحية حرّان، وجعلت قضاء سمّي «قضاء حرّان» ألحق بمتصرفية أورفة. وفيها صدر الأمر بأن يعمر على الساحل الممتد من بياس إلى السويدية إحدى عشرة مخفرة لتكون بالمرصاد على الأرمن الذين يقدمون من أميركا وأوربا إلى البلاد العثمانية بقصد تهييج المشاغب وطلب الاستقلال.