الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إجمال في ذكر الأمم التي أوطنت حلب وأصقاعها والدول التي تولتهما قبل الفتح الإسلامي
أول من أوطن هذا الصقع الآراميون، أي بنو آرام بن سام، وهم الكلدان ثم السريان.
وفي أثناء وجودهم في هذا الصقع كان فرار الخليل من النمرود فجاء إلى حلب وبقي فيها مدة ثم قصدت حلب إحدى طائفتي الحثيين، وهم من ولد حث بن كنعان، رابع أبناء حام، وكانوا يسكنون جبال أمانوس فتغلبوا على الآراميين وطردوهم من صقع حلب وأسسو في هذه النواحي مملكة قوية كادت تضاهي المملكة المصرية في وقتها.
والحثيّون مختلف في جنسيتهم: فالجراكسة يزعمون أنهم هم الحثيّون، وبعضهم يرى أنهم هم اللاتين، ومن الناس من يزعم أنهم عرق تاتاري. والله أعلم.
امتدت سطوة الحثيين إلى جميع سوريا والجزيرة وبلاد اليونان وآسيا الصغرى وبلاد إيطاليا وتغلبوا على مصر. ويقال إن الملوك الرعاة فيها كانوا منهم. ثم إن ملوك مصر تغلبوا على الحثّيين في هذه الجهات وملكوها منهم، وهم تدمس الأول وتدمس الثاني، وذلك قبل الهجرة المحمدية بنحو 3708 سنة، أو أقل بنحو 15 سنة. ومن آثار أولئك المصريين في حلب الحجر الأسود المحرر بقلم الهيروكليف بجدار جامع القيقان الذي أشرنا إليه في الكلام على محلة العقبة في الجزء الثاني.
ثم إن الحثيين حاربوا المصريين وأخرجوهم من حلب وأصقاعها، فمشى عليهم تدمس الثالث وملك منهم صقع حلب وغيرها من بلاد سوريا فصالحوه على ما ملكه من بلادهم.
وبقيت بأيديهم إلى أن نقضوا الصلح في أيام رعمسيس الثاني فقصدهم مع من اجتمع إليه من سكان سوريا وتألب عليه بقية ملوكها وحشدوا لقتاله جيشا جرارا كان منه مع ملك حلب فقط ثمانية عشر ألف مقاتل. ونشبت الحرب بين الفريقين قرب بحيرة قادس أو
قدس، وهي بحيرة حمص، فكان الظفر لرعمسيس، وتمزق جيش الحثيين وغرق الكثير من حاميته. وكان من جملة الغرقى ملك حلب غير أنه نشل من الماء ونكس فعاودته الحياة.
ثم وقع الصلح بين الأمتين وبقي صقع حلب في يد الحثيين إلى أن اكتسح خلفاء موسى أريحا وسبوا وأحرقوا وخربوا ثم فتحوا عمان فارتفعت العماليق إلى أرض سوريا وهي قنسرين وتغلبوا على مدينة حلب واتخذوها حصنا لهم وما برحوا منها حتى قصدهم إيواب ابن سيرويا وزير داود وأخذها منهم، وذلك قبل الهجرة المحمدية بنحو 1665 أو أقل بنحو 42 سنة.
حكى بعض أحبار اليهود في كتاب له أنه وجد في قلعة حلب سنة 1220 هـ حجر مكتوب فيه بالعبرانية ما ترجمته: (أنا إيواب بن سيرويا أخذت هذه القلعة) .
لم تزل هذه الأصقاع تحت سلطة الفلسطينيين حتى أخرجهم منها ملوك بابل قبل الهجرة بنحو 1303 سنة. وعلى رأي فينكلار الألماني: بنحو 1476 سنة. وكانت هذه الأمة تعبد الأصنام وكان لهم في جبل سمعان صنم يعبدونه اسمه نبو (ذكرناه في الكلام على الملل والنحل في حلب وجهاتها قبل الفتح الإسلامي في الجزء الأول من المقدمة) .
وقرأت في كتاب «بابيلونيا وشيريا» لمؤلفه فينكلار الألماني أشهر علماء التاريخ، وكتابه هذا مطبوع باللغة الألمانية سنة 1892 م، أنه في سنة 854 ق. م خرج سلمناصر من نينوى وسار إلى وادي البليخ واستولى على ملك شيخ جمو الذي قتله شعبه لضعفه.
ولما بلغ سلمناصر الفرات اجتازه على سفينة من الجلود وأتى الموضع المعروف باسم سور أو تيراسباط، وهو على ضفة الفرات، فعقد هناك جمعية دعا إليها جميع الملوك الذين يدفعون إليه الجزية، وهم سنكار وأمير قاركمش وقوندابيسبى، وأمير كمخ وأرامي وأمير غوزي ولاللي وأمير ملتينه، وخيماني أمير دولة كبر، وكلبرودا أمير باتين وكركم التي عاصمتها مركاسى (مرعش) .
وبعد انقضاء هذه الجمعية فارق سلمناصر أو تيراسباط وقصد خلمن (حلب) ودخلها وقرب فيها الذبائح للوثن (رمن) وهو على رأي فينكلار معبود الحلبيين إذ ذاك.
ثم قال فينكلار: «قال بعض المؤرخين: كانت حلب في أيام الدولة البابلية مدينة تجارية حرة مستقلة، مستدلا على ذلك بعدم ورود ذكرها في الحروب التي نشبت بين
البابلية وبين دول سيريا وفلسطين، وإن سبب استقلالها هو خطورة موقعها الجغرافي المتوسط بين آسيا الكبرى والصغرى فكانت مستقلة باتفاق سائر الدول.
وقال بعض المحققين: إن سوريا كانت في تلك الأيام ذات حضارة تفوق ما كانت عليه منها جميع المملكة الآشورية، مستدلا على ذلك بنقل الوثن (رمن) من سوريا إلى نينوى وعبادة أهلها إياه مع معبودهم الوطني. فلو لم تكن سوريا في ذلك الزمن أرقى من نينوى حضارة ومدينة وصناعة لما اختار أهل نينوى الوثن (رمن) ونقلوه إلى عاصمتهم واتخذوه معبودا لهم مع وجود معبودهم. واستدل بعض علماء التاريخ من الآثار العاديات على أن الوثن (رمن) هذا كان آله العواصف في سوريا وأنه سنة 2000 ق. م بني له هيكل في نينوى» . اه كلام فينكلار.
قلت: لم تزل حلب تحت سلطة البابليين حتى ملك الساسانيون في أيام الملك دارا «نينوى» وامتدت سطوتهم إلى سوريا وبقيت في أيديهم حتى أخذها منهم إسكندر المكدوني، وصارت حلب موطنا لليونانيين وأحسنوا إلى أهلها فتخلّقوا بأخلاقهم واعتنى اليونانيون بسورية الشمالية وجددوا فيها عدة بلدان كأنطاكية وأفامية والسويدية. ثم إن سليقوس نيكادور أحد ملوك اليونانيين لما استولى على أنطاكية بعد 21 سنة من جلوسه قبل الهجرة بنحو 945 سنة- جدد بناء مقدار النصف المتهدم من حلب، وهو الذي بنى القلعة على التل المشهور بإبراهيم الخليل، وأمر اليهود بأن يترددوا للتجارة إلى هذه البلدة ويقيموا فيها وفرض عليهم بعض الضرائب، فاستوطنوها وكثر عددهم فيها حتى بلغت مساحة دورهم مقدار نصف ساعة طولا وكان لهم فيها عدة معابد.
لم تزل حلب في حوزة اليونانيين إلى أن انتزعها منهم الرومان سنة 64 أو 65 ق. م، وملكوا معها سوريا وأنطاكية وجعلوا حلب عاصمة ملكهم. وقبل الهجرة المحمدية بنحو 498 سنة أمر الإيمبراطور تريان اللاتيني بضرب السكة بحلب، وكان مرسوما على أحد جانبيها صورته وعلى الجانب الآخر كلمة (برويا) . وقبل الهجرة بنحو 52 سنة حاربت الفرس الملك كيروليس الشرواني في أنطاكية وحلب وقنسرين ومنبج وأحرقوا منبج وأنطاكية وقنسرين.
أما حلب فقد كان فيها من قبل الملك كيروليس بطريق يقال له موغان (وإليه تنسب
كنيسة موغان وحمام موغان في حلب) صالح الفرس على حلب بدراهم دفعها إليهم، ثم جدد الملك كيروليس ما تهدم من سورها وقت المحاربة وذلك من باب الجنان إلى باب النصر، وكان بناؤه من القرميد الغليظ. ولم تزل بأيدي الرومان حتى فتحت تحت راية المسلمين في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.