الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سفر رضا باشا الركابي:
وفي يوم الثلاثاء 5 منه سافر رضا باشا الركابي إلى دمشق، فودّع بكمال الاحترام.
استيلاء العرب على المدينة المنورة:
في يوم الخميس 14 ربيع الثاني تواردت الأخبار من المدينة المنورة بأن عرب ملك الحجاز استولوا عليها من الأتراك يوم الأربعاء 13 منه.
حادثة الأرمن المعروفة باسم (فتنة 28 شباط سنة 1919)
أسباب هذه الحادثة:
لا ننكر أن في أمة الأرمن رجالا ونساء متحلّين بحلية العقل، والنظر البعيد إلى العواقب، وحسن المعاملة والأمانة والاستقامة والاعتراف بالجميل والمكافأة عليه، غير أننا مع هذا لا نحجم عن القول بأنه يوجد في دهماء هذه الأمة زمرة طائشة قد خيم الجهل على عقولهم، فانحرفوا عن الجادة المثلى ولم ينظروا إلى ما يعقب انحرافهم من الضرر وسوء المغبة بأمتهم التي فيها من الرجال من يستحق كل مدح وثناء.
وصفوة القول أن الأمة الأرمنية قد غلب خيارها على أمرهم فجرّ جهّالها عليهم البلاء دون أن يستحقوه. ومن هذا القبيل ما جنوه عليهم من البلاء في هذه الحادثة التي لم يكن لها من سبب سوى أمور نقمها الحلبيون على الأرمن، صدرت من تلك الطائفة الطائشة فأثارت في الحلبيين موجدتهم عليهم، وعكست فيهم اعتقادهم وملأت صدورهم غيظا منهم، وأغلت في أفئدتهم مراجل الحقد والضغينة عليهم، وكان من أمرهم في ذلك اليوم ما كان.
وإليك نبذة في ذكر بعض ما فعلته هذه الفئة الطائشة من الأمور التي أساءت بالأرمن اعتقاد الحلبيين واضطرتهم إلى الجرأة عليهم. وبيان ذلك أن الأمة العربية عامة- والحلبيين خاصة- كانوا ينظرون إلى أمة الأرمن بعين الشفقة والحنوّ، وينكرون على زعماء الأكراد ما كانوا يعاملون به الأرمن من التعدي؛ بل كانوا ينكرون على السلطان عبد الحميد ما نكب به الأرمن من المذابح ولا يرون له مبررا في الضغط عليهم. ولهذا
لم ينقل عن أحد من الأمة العربية أنه غمس يده في دم أرمني في تلك المذابح الفظيعة، وقوفا عند حدود الشريعة المحمدية التي تتكفل للذميّ بصون ماله وعرضه ودمه. ولعل الأمة العربية لو كانت مشتركة مع الشعب التركي في تلك المذابح لما عدمت من السلطان عبد الحميد حسن المكافأة.
ثم في سنة 1333 كان جلاء الأرمن عن أوطانهم، كما أشرنا إلى ذلك في حوادث السنة المذكورة من هذا الجزء. وبعد أن وصلت تلك الجاليات إلى حلب على آخر رمق من حياتها؛ كان العرب عامة- والحلبيون خاصة- يعطفون على ضعفائهم ويمدّون إليهم يد الإحسان والمواساة، عكس ما كان يضمره لهم جمال باشا من الأذى والويلات، ورغما عما كان يقاسيه الحلبيون في تلك الأيام العصيبة من جهد البلاء والضغط العسكري.
وكان عقلاء الأرمن وأدباؤهم يعترفون للعرب بتلك الأيادي ويشكرونهم عليها، حتى إن شبيبة الأرمن مثّلت الرواية التي سبق ذكرها في حوادث هذه السنة.
وبينما كانت الأمة العربية تؤمل من الأمة الأرمنية حسن المكافأة على ما أسدتها «1» إليها من البر والإحسان؛ إذ انعكست الآية بعد وقوع الهدنة وصارت الأخبار المكدّرة تطرق كل يوم مسامع الحلبيين عما يجريه جهال الأرمن مع أبناء العرب من الأمور التي تبعث على إيجاد الضغينة وإسعار نار الحقد في صدورهم على أمة الأرمن. وإليك بيان بعض تلك الأمور وهي: (1) تعرّض زمرة من الأرمن- المستخدمين في محطة أذنة من قبل الفرنسيين- إلى التجار العرب المسافرين على القطار إلى استانبول والقافلين منها إلى أوطانهم، فكانت تلك الزمرة تعامل التاجر العربي بكل غلظة وخشونة، وربما أزعجته بالسبّ والضرب، وإذا كان قدوم القطار في الليل فربما كانت تفتش ثيابه وتسلب نقوده.
أما الجنود العربية التي كانت تمرّ من أذنة قافلة إلى أوطانها فقد كانوا يقاسون من هؤلاء المستخدمين كل إهانة ويرون منهم كل قساوة، يعاملونهم بالشتم والضرب، وكثير منهم من كان يناله من أيديهم جراحة في وجهه وتهشم في أعضائه. فيأتون إلى حلب على أسوأ حالة.
(2)
كان الحلبيون يسمعون بما كان يجريه متطوعة الأرمن في الجيش الفرنسي في بيروت من الخيلاء والعجرفة، وأنهم أطلقوا بنادقهم على بعض الوطنيين فقتلوهم، وأنهم تمردوا على الجيش الفرنسي في إسكندرونة حتى اضطرت القيادة إلى أن تنقلهم إلى أذنة.
(3)
تظاهر غوغاء الأرمن في حلب بمظاهر العظمة والكبرياء ومقابلتهم الحلبيين بغير الوجه الذي كانوا يقابلونهم به في الأمس، يقابلونهم بوجه عليه سيماء التّيه والسخط، ويخاطبونهم بألفاظ خشنة لم يألفوا سماعها منهم قبل ذلك.
لم كان هذا الانقلاب من هذه الزمرة مع الحلبيين؟ وما هو الحامل لها عليه؟
كان سببه بصيص ضوء أبصرته من لفتة شملتهم من عناية الإنكليز بشأنهم، فعظمت نفوس الطائشين منهم وطفقوا يسيئون التصرف مع الحلبيين، ويقلبون لهم ظهر المجن في معاملاتهم. ولم يقفوا عند هذا الحدّ بل صار الكثير منهم جواسيس للإنكليز ينقلون إليهم عن الحلبيين أخبارا ملفقة لا ظل لها في الحقيقة.
(4)
تعدّي جماعة من تلك الزمرة على الباعة؛ بتكليفهم صرف الورقة المصرية بالنقود المعدنية على معدّل قيمتها المحررة بها، مع أن قيمتها التجارية دون ذلك بكثير. فكان الباعة يخسرون أموالهم ولا يقدرون على الامتناع عن صرف الورقة على هذا المعدل خشية من عقوبة القانون.
(5)
كان فريق من تلك الزمرة يختلقون كل يوم الحيل والخدع في اختلاس أموال التجار الحلبيين، حتى شاع عنهم هذا الأمر وصار الحلبيون يتحدثون به في مجتمعاتهم ومجالسهم:
من ذلك أن أرمنيا عرض على تاجر حلبي نموذجا من دبس الطماطم، وأخبره أنه يوجد عنده منه سبع صفحات «1» . فرغب الحلبي بشرائها وطلب من الأرمني إحضارها فأحضرها إليه وقد فتح في كل صفيحة دائرة في زاويتها ليطلع المشتري على ما في ضمنها من الدبس. ولما غمس التاجر إصبعه بالدبس من هذه الفتحة وذاقه تبين له أنه دبس جيد.
فاشترى الصفحات كلها بثمن مثلها، ودفع قيمتها إلى الأرمني، فأخذ القيمة وانصرف.
ولما فتح التاجر إحدى الصفحات وجدها ممتلئة بمطبوخ القرع الشتوي الملون بالمغرة «1» ، ورأى في الفتحة التي ذاق منها الدبس ماسورة من الصفيح ممتلئة من الدبس الجيد قد سدّ أسفلها الذي يلى أسفل التنكة وفتح أعلاها الذي ذاق منه الدبس، ثم فتح بقية الصفحات فرآها كلها مثل الصفيحة الأولى، فساءه ما رأى وعلى الفور أخذ بالبحث على الأرمني واستقصاء أثره فلم يظفر به. وأخيرا علم أنه سافر من حلب على أثر تدبيره هذه الحيلة.
ومن ذلك أيضا أن أرمنيا اشترى من تاجر حلبي صفيحة سمن، وطلب من التاجر أن يحمّلها إلى خادمه ويتبعه بها إلى بيته ليدفع له ثمنها. فحملها الخادم ولما وصل إلى بيت الأرمني تناول الصفيحة من الخادم ودخل داره ليأتي بثمن السمنة، فوقف الخادم ينتظره فلم يخرج إليه. ولما طال عليه أمد الانتظار طرق باب الدار وسأل عن الأرمني فقيل له:
إن لهذه الدار بابين، وهي ليست بدار بل هي مكان يأوي إليه فقراء الأرمن وحجّاجهم، وإن الأرمني الذي أخذ السمن دخل من أحد البابين وخرج من الباب الآخر، وإنه لم يكن من سكنة ذلك المكان، ولا هو معروف عند أهله.
تكررت هذه الحيل من أفراد هذه الزمرة مع التجار الحلبيين على أنحاء شتى وضروب مختلفة، وشاعت أخبارها بين الحلبيين فحقدوا على الأرمن وحلّ في قلوبهم الضغينة عليهم، بدل ما كانت تجنّه من الرأفة فيهم.
(6)
كان عند الحلبيين عدد كبير من بنات الأرمن وأطفالهم، آووهم في أوائل قدوم جالياتهم إلى حلب، وقد التقطوهم من الأزقة والأماكن المهجورة وأزالوا الشقاء عنهم واعتنوا بتربيتهم عنايتهم بأولادهم. والبعض منهم اتخذوا من فتياتهم البالغات زوجات شرعيات واستولدوهنّ عدة أولاد. ولما دخل الإنكليز إلى حلب اهتمت جمعية الصليب الأحمر بجمع أطفال الأرمن وبناتهم من بيوت الحلبيين. ونحن لا نلوم الطائفة الأرمنية على استرداد أولادهم وأطفالهم إلى أحضانهم، لأن هذا مما توجيه القومية عليهم، إنما نلومهم على استعمال العنف وترك الرفق في سبيل البلوغ إلى هذا الغرض، فقد كان أقارب الأطفال والبنات يقصدون بيت الحلبي للتفتيش على أولادهم، ويدخلون عليه دخول مهاجم على ذي جريمة، ويأخذون الولد أو البنت قسرا ويعاملون مربّيها أو زوجها بكل عنف وقساوة
هم في غناء عنهما. وربما كانوا يسوقونه إلى السجن بمساعدة الشرطة الموكول إليهم التفتيش على أولاد الأرمن من قبل جمعية الصليب الأحمر، وكانوا لا يصغون إلى الممتنعة عن متابعتهم من النساء المتزوجات، بل ربما قابلوها على امتناعها بالسب والضرب وأخذوها إلى منتدياتهم وأكرهوها على مفارقة زوجها وأولادها منه.
ومن غريب ما وقع في هذا الباب قضية امرأة أرمنية متزوجة بشاب مسلم، حضر إليها أخوها وزوجها الأرمنيان وأرادا أخذها إليهما، فلم يمتنع زوجها المسلم عن تسليمها إليهما وجعل الخيار لها في ذلك. أما هي فقد امتنعت عن تسليم نفسها أشد امتناع، فأخذاها بالقوة والعنف وسعيا بزجّ زوجها في السجن، وأخذا المرأة إلى قلّاية «1» الكنيسة، ووضعاها في غرفة عالية لها نافذة على الطريق، وقد وضعا معها لحراستها راهبتين أرمنيتين كلّفتاها العود إلى زوجها الأرمني ومنّيتاها بكل مرغوب، وذكرتا لها كل ما يوجب نفرتها من زوجها المسلم. فلم تلتفت إلى كلامهما. وقدّمتا لها طعاما فلم تذقه، وكان معها طفلة صغيرة ولدتها من زوجها المسلم قبل بضعة أيام ولما جنّ عليها الليل ورأت الراهبتين الموكلتين بحراستها قد غفتا عمدت إلى الطفلة وشدّتها على صدرها بنطاقها وعضّت على ياقتها بأسنانها، وجاءت إلى النافذة وألقت نفسها منها إلى الأرض، فوقعت عليها سالمة لم يلحقها ضرر في جسمها سوى ورم ظهر في ساقيها بعد بضعة أيام.
وكان زوجها المسلم قد أطلق من السجن وعاد إلى بيته. وبينما كان راقدا على فراشه نحو منتصف الليل إذ بالباب يطرق فأسرع لفتحه ورأى زوجته قد عادت إلى بيته. وفي الغد جاءت الشرطة إليه وأودعته السجن وأخذت زوجته إلى المخفر الذي حضر إليه ضباط الإنكليز وبعض كهنة الأرمن وسألوا المرأة عن كيفية هربها وقالوا لها: أما كان هربك بواسطة زوجك المسلم، حيث أحضر لك سلّما نزلت عليه إلى الأرض؟ فأخبرتهم بكيفية هربها على ما هي عليه، وقالت لهم: كيف يمكن لزوجي أن يحضر سلّما لي؟ والقلاية في حارة المسيحيين لا يمكن أن يطرقها في الليل أحد من المسلمين، وكيف يترك الحراس رجلا يحمل سلّما في الليل ولا يشتبهون به ولا يقبضون عليه؟ خصوصا وزوجي ساكن في محلة بعيدة لا يصل إلى محلة القلاية إلا بعد أن يمر على عدة محلات في كل منها حارس.