الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمال، وأصبحوا مدة قرنين عونا على الملوك العثمانيين بعد أن كانوا عونا لهم، فكان قيامهم على أولياء أمورهم في مدد متواصل وإثارتهم الفتن والقلاقل في البلاد، وتسلطهم على الرعايا، في استمرار غير منقطع. وفي كثير من الأوقات بينما كانت الدولة في ارتباك وشغل شاغل من أمر أولاء الجنود؛ كانت روسيا ترهقها بالحرب اغتناما لفرصة اشتغالها بتسوية أمور داخليتها.
وكان سبب بلوغ الانكشارية تلك الدرجة من العتوّ والتمرد غلطة الصدر الأول من الملوك العثمانيين، وهي أنهم كانوا يبالغون بالإحسان إلى الانكشارية ويعاملونهم معاملة الوالد الشفوق على ولده الوحيد حتى نبهتهم تلك المعاملة إلى عظم شأنهم وعرفتهم أنهم هم روح المملكة وأولياء نعمة ملوكها وشعوبها، فهاموا بهذه الخيالات وطغوا وبغوا، وأصبحت المملكة العثمانية في أيديهم كسفينة تتقاذفها عواصف شرورهم، فلم يستطع السلاطين ردعهم ووقف تيار غلبتهم إلا بعد مشقات عظيمة أشرنا إلى بعضها في الإجمال الذي ذكرناه في هذا الجزء تحت عنوان «نبذة في الكلام على هذه الطائفة» فراجعه.
أسباب سرعة سقوط العراق والشام:
لا ريب في أن سرعة سقوط العراق والشام في يد إنكلترة وخروجهما من يد العثمانيين لم يكن إلا بسبب تقاعد أهل هذه البلاد عن مظاهرة جيوشهم وشدّ أزرهم، خصوصا أهل العراق وأهل سوريا الجنوبية من حضر وبدو فإنهم لم يقنعوا بالتقاعد عن نصرة تركيا فحسب، بل ظاهروا جيوش الدولة البريطانية وأعانوهم على الجيوش العثمانية بكل ما استطاعوا، فاستولت جيوش إنكلترة على هذه البلاد بأقرب وقت، ولولا ذلك لما تمكنت هذه الجنود من الاستيلاء عليها في أقل من بضع سنوات إن لم يحدث في الكون ما يعوق استيلاءهم عليها ويبقيها في يد العثمانيين.
على أن لمظاهرة أهل تلك البلاد الجيوش البريطانية أسبابا عديدة أخص منها بالذكر هنا نفرة قلوب أهلها من تركيا بسبب أغلاط ارتكبها الاتحاديون اغترارا بأنفسهم.
وكان بعض المحامين عنهم يعتذر لهم بقوله: إن جميع ما أتوا به من الأسباب التي نفّرت قلوب الرعية لم يقصدوا بها سوى المصلحة العامة دون المصلحة الخاصة، وإنهم لم يفعلوه إلا بنيّة خالصة وغرض عام، غير أن الأقدار لم تساعدهم فما كان غلطهم إلا من قبيل
الخطأ بالاجتهاد لا يسألون عنه أمام الله وأمام الناس ما دامت نياتهم بإتيانه حسنة.
نقول: إن الخطأ بالاجتهاد المعفوّ عنه إنما هو خطأ الأئمة المجتهدين في مفهوم المتشابه من القرآن والحديث، فإن المجتهد منهم في ذلك إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر.
أما المجتهد المخطئ من غيرهم فإنه مؤاخذ على خطائه بل تكون عقوبته على قدر المضرّة التي تنشأ عن خطائه ردعا له عن التهور فيما لا يدري عاقبته. فالاتحاديون الذين أخطئوا باجتهادهم في مسائل هذه الحرب لا يسامحون بخطائهم؛ لأن الضرر الذي نشأ عن خطائهم كان عظيما.
على أن النتائج السيئة التي نتجت عن اجتهادهم بديهية لا تحتاج إلى إمعان فكرة وإجهاد قريحة، فما هو إلا من قبيل التهور والهجوم على خطر محسوس. وحسبهم موجبا للمؤاخذة استبدادهم في أعمالهم وتركهم الشورى المطلوبة شرعا وعقلا. هذا إذا قلنا إن جميع ما أتوا به من الأغلاط المنفّرة مما يحتمل الاجتهاد. والحال أن كثيرا من المنفّرات التي أتى بها بعض زعانفهم لم يحملهم عليها سوى الطمع والشره في أموال الدولة والرعية، كما أن كثيرا مما أتى به بعض المنتسبين إليهم من المنفّرات لم يبعثهم على إتيانه باعث سوى الميل إلى الهوى ومطاوعة النفس البهيمية، ومنها ما دعاهم إلى إتيانه مجرد الاستخفاف بالدين واعتقادهم المغلوط بأن الدين مناف للمدنية.
ومن غرائب تهور سفهاء الاتحاديين وقلة تبصرهم أنهم اختاروا في جميع أعمالهم المتعلقة بهذه الحرب طريقة الإفراط المحض، فطرحوا المعاملة بالرفق والمواساة، واستعملوا في كل حركة من حركاتهم الشدة والعنف. وكانوا إذا نهاهم عن ذلك ناه وأرشدهم إلى استعمال الرفق في موضعه والعنف في محله قالوا له: إن هذه الحرب هي حرب حياة أو ممات لا واسطة بينهما. وقد غاب عنهم أن ولاة الأمور في الدولة الضعيفة هم بمنزلة الطبيب للمريض، أيسوغ للطبيب الأمين الحاذق أن يضجر من مريضه ويجازف في حياته ويصف له دواء شديد التأثير يكون فيه للمريض حدّ الفصلين إما أن يميته وإما أن يحييه؟ كلّا، ثم كلّا. بل الحكمة البالغة ومواجب الصنعة يقضيان على ذلك الطبيب أن يستكين إلى الأناة والتؤدة في تطبيب مريضه، وألا يحمله الضجر على اليأس من شفائه ما دامت فيه نسمة حياة، وأن يلطف له الدواء مهما أمكن ويستسلم في تأثير دوائه إلى عوامل القدرة