الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة في بني عثمان
نأتي هنا بنبذة نبين فيها بعض ما كان لسلاطين آل عثمان على العالم الإسلامي من الأيادي البيض التي توجب على كل منصف أن ينظر إليهم بعين التجلّة والاحترام، ويغضّ الطرف عن بعض هنات كانت تصدر عن بعضهم بمقتضى المحيط الذي وجدوا فيه، أو بحكم التقاليد والتطور الزمني، لا بمقتضى عواطفهم التي فطرت على محبة العدل والتمسك بأهداب الشرع والحرص على اتباع أحكامه، كما يظهر ذلك من تراجم أحوال السلف الصالح منهم.
إن الدولة العثمانية هي الدولة الوحيدة التي بواسطتها لمّ الله شعث العالم الإسلامي، واستأنف مجده وأعاد عزّه وأطلع في سماء الشرف شمسه بعد أن تشتت شمله وذلّ أهله وكادت تطفأ أنواره وتخسف أقماره. فإن كل من تصفح وجوه التاريخ الإسلامي وأحاط علما بما سطّره من الحوادث والكوائن- منذ القرن الخامس إلى أوائل القرن العاشر- يتضح له جليا أن العالم الإسلامي قد وصل في آخر هذا الدور إلى الغاية القصوى من التقهقر والانحطاط، لما توالى عليه في هاتيك الأعصار من النكب والمصائب التي انتابته في الحروب الصليبية، وغارات المغول والتاتار وغيرهم من الأمم التي كانت تتظاهر بمناوأة الإسلام، ولما كانت عليه في تلك الأيام حكام المسلمين وملوكهم من الجهل والطيش والتباغض والتنافس مع بعضهم، وافتراق الكلمة والانهماك بالملذات، والمسلمون في الشرق والغرب تتخطفهم ذئاب أعدائهم كأنهم غنم، تخلّى عنها رعاتها في ليلة مطيرة، إلى أن سطع نجم الدولة العثمانية وعلا صرح مجدها وأرهبت عالم الربع المسكون سطوتها، فانتعشت روح الإسلام وعاد إلى أحسن ما كان عليه في عهد العباسيين، وخفقت راية الهلال على أصقاع عظيمة من القارات الثلاث، ورتع تحت ظل هذه الدولة- في بحبوحة الأمان والاطمئنان- مائة وعشرون مليونا من النفوس المختلفة العناصر المتعددة الأجناس، المتعاندة في الديانات والعادات، شعوب وأمم وأقوام مدنية وبدوية منبثة في تلك الممالك
الصعبة المسالك، البعيدة الأكناف، المترامية الأطراف، التي يستحيل فيها على أعظم حكومة سائسة في تلك الأعصار- التي فقدت فيها وسائط النقل وسهولة السفر وآلات الاستخبار- أن تبث بين من في هذه المملكة من الشعوب العظيمة روح الوفاق والوئام، وتجمع بين رضاهم من بعضهم ورضاهم من حكومتهم وانقيادهم إليها طائعين مختارين شاكرين منها حامدين غير ناقمين عليها عملا، ولا منتقدين لها سياسة، مجمعين على حسن سلوكها، متفقين على حبها وولائها.
كان العدد الكبير من الملوك العثمانيين لا يقلّون بمنزلتهم- فيما شادوه في العالم الإسلامي من المآثر والمفاخر- عن السلطانين المعظّمين المعدودين من أعاظم ملوك الإسلام، وهما نور الدين محمود بن زنكي، وأتابكه المرحوم السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب. بل لو تصفحت وجوه التاريخ واستقصيت أخبار هذين السلطانين العظيمين وأخبار عظماء ملوك بني عثمان؛ لظهر لك جليا أن هؤلاء الملوك أربوا- بفضائلهم وبما فتحوه من الممالك- على السلطانين المشار إليهما، ذلك أن هذين السلطانين كانا واقفين في جهادهما موقف الدفاع والمحاماة عن بيضة الإسلام في القطعة الشامية وبعض جهات إفريقية والجزيرة. أما عظماء سلاطين بني عثمان فإنهم لم يقنعوا من عدوّهم بأن يقفوا له في موقف يدافعونه به عن بلادهم فحسب، بل دفعتهم هممهم العلية وغيرتهم الدينية إلى أن يطردوه من ديارهم ثم يغزوه في عقر داره ويستولوا على أصل وطنه وقراره، ويطؤوا بحوافر خيولهم أرضا وديارا لم يطأها أحد قبلهم من خلفاء المسلمين وعظماء سلاطينهم الفاتحين.
قال الأستاذ جرجي زيدان في كتاب «التمدن الإسلامي» منوها بعظمة سلاطين بني عثمان: إنهم فتحوا القسطنطينية التي يئس ملوك المسلمين من فتحها، وحاربوا أعظم ملوك أوربا وطاردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا «فينّا» وأخذوا الجزية من ملوك النمسا، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطىء إسبانيا، فارتعدت أوربا خوفا منهم وفتحوا الشرق إلى العراق، ثم ساروا جنوبا غربيا حتى فتحوا الشام ومصر، وامتدت ممالكهم في عهد السلطان سليمان من بودابست- على ضفاف الطونة- إلى أصوان على ضفاف النيل،