الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاهتمت الدولة بأمرهم وجهزت جيشا من حلب وآخر من أطنه تصحبهم الأرزاق والمهمات الحربية وكان الوقت شتاء والأمطار غزيرة والثلوج متراكمة في الطريق المؤدية إلى الزيتون فلقيت العساكر بالوصول إليها الشدائد من البرد والثلج والجوع مات منهم بسبب ذلك عدد غير قليل. وأخذت البلدية في حلب من الناس عددا عظيما من الدواب كالجمال والبغال والخيل لتحمل عليها المهمات إلى الزيتون على أن تعوض أصحاب الدواب قيمتها بعد انقضاء تلك الحادثة فلم تعوض عنها سوى نحو عشرها وضاعت بقية الدواب على أهلها.
ولما علم الأرمن الثائرون في الزيتون أن العساكر سائرة إليهم جزعوا واضطربوا وتحققوا أن لا قبل لهم في النصرة عليهم فأخذ زعماؤهم يخابرون لجانهم الكبرى في البلاد الأوربية فاستغاثت تلك اللجان بالدول الأجنبية وطلبت منها السعي بإنقاذ أولئك الثوار وانتشالهم من مخالب العساكر التركية. فأصدرت كل من دولة إنكلترا وألمانيا وفرانسة وإيطاليا أمرا إلى قنصلها في حلب بأن يتوجه إلى الزيتون ويتوسط الصلح بين الحكومة العثمانية وبين الأرمن الثائرين. وفي أسرع وقت سافرت القناصل إلى الزيتون ولقوا من الطريق برحا من شدة البرد وقد استمروا في الزيتون زهاء ستة أشهر إلى أن أخلد الثوار إلى الطاعة وصدر العفو عنهم وتقرر بأن يكون القائممقام في قضاء الزيتون مسيحيا وله معاون مسلم. وفي هذه السنة حدثت المشاغب الأرمنية في مدينة أورفه ومرعش وعينتاب وكلز وبيره جك من ولاية حلب ووان وبتليس وغيرهما من بقية البلاد العثمانية وقتل من الأرمن في هذه المشاغب على رواية مائة ألف نسمة. وكان الباعث على هذه المشاغب قيام الأرمن على الحكومة وإقلاقهم راحتها في طلب انفصالهم عنها وبقائهم دولة مستقلة أو تحت نفوذ دولة روسيا أو إنكلترة. ونحن لا نشك أن تلك المشاغب كانت بإشارات خفية وأوامر برقية مرموزة من السلطان عبد الحميد إلى ولاته وأمرائه العسكرية في ممالكه رغما عما كانت الحكومات تختلق لكل مشغبة سببا غير معقول لدى أرباب العقول. على أن جميع البلاد السورية بل سائر البلاد العربية لم يحدث فيها شيء من تلك المشاغب والسبب في هذا عدم الإيعاز من قبل السلطان عبد الحميد إلى أهلها بإحداث تلك المشاغب لعلمه أن أهلها لا يلبون طلبه ولا يلبث أن يذيعوا ذلك السر الذي لا يخفى عليهم.
استطراد في الكلام على الأرمن ومدينة الزيتون:
نورد في هذا الاستطراد بعض ما وقفنا عليه من الأحوال الروحية والتقاليد القومية،
التي سارت على سننهما الهيئة الاجتماعية من الطائفة الأرمنية التي مضى على مجاورتنا إياها بضع سنوات غبّ أن هاجرت إلى حلب بعد الحرب العالمية، وقد أصبح فيها منهم العدد الكبير الذي يقدر بستين ألف نسمة، فنقول:
الأرمن- مهما اختلفت أجناسهم وتباينت أقطارهم- أمة نشيطة جدية عاملة منصرفة عقليتها إلى الماديات دون المعنويات، وهي ثابتة في مقاصدها قوية الإرادة في منازعها، تمارس من صعاب الأمور ما يعجز عنه غيرها من أمم الشرق، لا تعتمد إلا على نفسها ولا يعوقها عائق في سبيل غاية تطلبها. ترى كل فرد من أفرادها- ذكرا كان أم أنثى، كبيرا كان أم صغيرا- مكبّا على عمله مهرولا إلى حانوته مبكرا لمزاولة مهنته التي ارتضتها له قوة جسمه وسعة مداركه، فمنهم التجار بأنواع البضائع الشرقية والغربية، ومنهم الصيدلي والطبيب والمحامي، والمهندس والصرّاف والخادم والكاتب، والميكانيكي والخياط والحائك، والنجار والحداد والحجّار، والمعمار والطاهي واللحّام، وصاحب المقهى والمنزل، وبائع الخضر والبقول، وغير ذلك من المهن التي لا تخلو واحدة منها، شريفة كانت أم حطيطة، إلا والمشتغلون بها من الأرمن عدد كبير يزاولونها باعتناء وإتقان لا مزيد عليهما. وهم- على اختلاف مهنهم وحرفهم- يقنعون بالربح اليسير ويقتصدون بالإنفاق على أنفسهم، الأمر الذي أكسد سوق نظرائهم من الحلبيين وضيّق عليهم أسباب معايشهم، لأنهم لا يقنعون بالربح اليسير لتعوّدهم على التوسع بالإنفاق دون الاقتصار على ضروريات الحياة.
كل فرد من أمة الأرمن- ذكرا كان أم أنثى- لا يرضى أن يكون عاطلا عن العمل متقاعدا عن الاحتراف، ولذا لا ترى منهم متسوّلا ولا متشردا، ولا من هو عيلة على غيره، سوى من أعجزته العاهات والزّمانات «1» عن النهوض بعمل ما، وسوى الأيتام الذين ليس لهم مال ولا أولياء ينفقون عليهم، فإن هؤلاء الجماعة قد تكفلت بإعاشتهم الجمعيات الخيرية الأرمنية المؤلفة في حلب وغيرها من بلاد أميركا وأوربا، ففتحت لهم دور العجزة والمياتم والمدارس، وأغنتهم عن الحاجة إلى غيرهم وعنيت بأمورهم أحسن عناية.