الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وله أسباب:
أحدهما: التنظير: فإن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء، كقوله تعالى:{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} عقب قوله: {أولئك هم المؤمنون حقا} [الأنفال: 4 - 5]؛ فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير أو للقتال وهم له كارهون، والقصد أن كراهتهم لما فعله من قسمة الغنائم ككراهتهم للخروج، وقد تبين في الخروج الخير من الظفر والنصر والغنيمة وعز الإسلام، وكذا يكون فيما فعله في القسمة، فليطيعوا ما أمروا به ويتركوا هوى أنفسهم.
الثاني: المضادة، كقوله تعالى في سورة (البقرة):{إن الذين كفروا سواء عليهم .... } الآية [البقرة: 6]، فإن أول السورة كان حديثًا عن القرآن، وأن من شأنه الهداية للقوم الموصوفين بالإيمان، فلما أكمل وصف المؤمنين عقب بحديث الكافرين، فينهما جامع [وهمي][ويسمى] بالتضاد من هذا الوجه، وحكمته التشويق والثبوت على الأول كما قيل: وبضدها نتبين الأشياء.
فإن قيل: هذا جامع بعيد؛ لأن كونه حديثًا عن لمؤمنين، بالعرض لا بالذات، والمقصود بالذات الذي هو جامع مساق الكلام، إنما هو الحديث عن القرآن لأنه مفتتح القول.
قيل: لا يشترط في الجامع ذلك، بل يكفي التعلق على أي وجه كان، ويكفي وجه الربط ما ذكرنا؛ لأن القصد تأكيد أمر القرآن والعمل به، والحث على الإيمان، ولهذا لما فرغ من ذلك قال [جل شأنه]:{وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23]، فرجع إلى الأول.
الثالث: الاستطراد، كقوله تعلى:{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا ولباس التقوى ذلك خير} [الأعراف: 26].
قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد، عقب ذكر بدو السوءات وخصف الورق من المهانة والفضيحة، وإشعارًا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى.
قال السيوطي رحمه الله: وقد خرجت على الاستطراد، قوله تعالى:{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172]، فإن أول الكلام ذكر للرد [على النصارى الزاعمين بنوة المسيح، ثم استطرد
للرد] على العرب الزاعمين بنوة الملائكة.
ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان. حسن التخلص، وهو أن ينتقل مما ابتدئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسًا، دقيق المعنى؛ بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني، لشدة الالتئام بينهما.
وقد غلط أبو العلاء محمد بن غانم في قوله: لم يقع منه في القرآن شيء لما فيه من التكلف. وقال: إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم. وليس كما قال، ففيه من التخلصات العجيبة ما يحير العقول. وانظر إلى سورة (الأعراف)، كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة، ثم ذكر موسى إلى أن قص حكاية السبعين رجلاً ودعائه لهم، ولسائر أمته بقوله: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنةً وفي
الآخرة} [الأعراف: 156]، وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه لأمته بقوله:[عز وجل]: {قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيءٍ .... } [الأعراف: 156] فسأكتبها للذين من صفاتهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي. وأخذ في صفاتاه الكريمة وفضائله.
وفي سورة (الشعراء) حكى قول إبراهيم: {ولا تخزني يوم يبعثون} ، فتخلص منه إلى وصف الميعاد بقوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون
…
} إلخ.
وفي سورة (الكهف) حكى قول ذي القرنين في السد: {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا} [الكهف: 98]، فتخلص منه إلى وصف [حالهم] بعد دكه الذي هو من أشراط الساعة، ثم النفخ في الصور وذكر الحشر، [ووصف مآل الكفار والمؤمنينٍ].
وقال بعضهم: الفرق بين التخلص والاستطراد؛ أنك في التخلص تركت ما كنت فيه بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه، وفي الاستطراد [تمر بذكر الأمر الذي استطردت إليه] مرورًا كالبرق الخاطف، ثم تتركه وتعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصده، وإنما عرض عروضًا.
قيل: وبهذا يظهر أن ما في سورتي (الأعراف) و (الشعراء) من باب الاستطراد لا التخلص، لعوده في (الأعراف) إلى قصة موسى بقوله: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق
…
} إلى آخره [الأعراف: 159]، وفي (الشعراء) إلى ذكر الأنبياء والأمم.
ويقرب من حسن التخلص: الانتقال من حديث إلى آخر؛ تنشيطًا للسامع، مفصولاً بهذا، كقوله:[تعالى] في سورة (ص) بعد ذكر الأنبياء: [{هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآبٍ}، فإن هذا القرآن نوع من الذكر، لما انتهى ذكر الأنبياء]، وهو نوع من التنزيل، أراد أن يذكر نوعًا آخر وهو ذكر الجنة وأهلها، ثم لما فرغ قال:{هذا وإن للطاغين لشر مآبٍ} [ص: 55] فذكر النار وأهلها.