الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفواصل.
وأما نفي الشيء بإيجابه، وكثير من أنواع البديع، وحسن التخلص، فستأتي في كثير من الأنواع. ونورد في هذا الفن كثيرًا من أنواعه
.
أولها: الإيهام، ويدعي التورية- أن يذكر لفظ له معنيان، إما بالاشتراك أو التواطؤ، أو الحقيقة، أو المجاز- أحدهما قريب والآخر بعيد؛ ويقصد البعيد، ويوري عنه بالقريب، فيتوهمه السامع من أول وهلة.
قال الزمخشري: لا ترى بابًا في البيان أدق، ولا ألطف من التورية؛ ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله.
قال: ومن أمثلتها: قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]؛ على معنيين: الاستقرار في المكان وهو المعنى القريب الموري به الذي هو غير مقصود لتنزيهه تعالى عنه، والثاني: الاستيلاء والملك؛ وهو المعني البعيد المقصود الذي ورى عنه بالقريب المذكور. انتهى.
كذا ذكره الحافظ السيوطي في «الإتقان» ، والذي في تفسير الزمخشري في هذه الآية غير ذلك، فإنه اختار أن مثل هذا الكلام من قبيل تمثيل حالة بحالة، لا من قبيل التورية، فإنه لما كان الاستواء على العرش «وهو سرير الملك» مما يرادف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون: ملك لم يقعد على السرير البتة. وقالوه أيضًا لشهرته في ذلك المعنى، ومساواته في مواده، وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر.
ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى: أنه جواد، أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت. حتى أن من لم يبسط يده، قط بالنوال، أو من لم تكن له يد رأسًا قيل له: يد مبسوطة، لمساواته عندهم قولهم: جواد. ومنه قوله عز وجل: {وقالت اليهود يد الله مغلولةً غلت أيديهم} [المائدة: 64] أي: هو بخيل {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] أي: هو جواد من غير
تصور «يد» ولا «غل» ولا «بسط» والتفسير «بالنعمة» والتمحل للتثنية، من ضيق العطن، والسافرة [عن] علم البيان سيرة أعوام. انتهى.
وهذه التورية تسمى مجردة؛ لأنها لم يذكر فيها شيء من لوازم المورى به، ولا المورى عنه. ومنها ما تسمى «مرشحة» ، وهي التي ذكر فيها شيء من لوازم هذا وهذا، كقوله:{والسماء بنيناها بأييدٍ} [الذاريات: 47] فإنه يحتمل
الجارحة، وهو المورى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح «البنيان» ، ويحتمل «القوة» وهو البعيد المقصود.
وقال «السعد» في «المطول» : تمثيل وتصوير لعظمته، وتوقيف على كنه جلاله، من غير ذهاب بالأيدي إلى جهة حقيقة أو مجاز، بل يذهب إلى أخذ الزبدة والخلاصة من الكلام، من غير أن يتحمل لمفرداته حقيقة أو مجاز.
وقد تشدد النكير على من يفسر «اليد» بالنعمة، و «الأيدي» بالقدرة، و «الاستواء» بالاستيلاء، و «اليمين» بالقدرة. وقال: قلت: قد جرى المصنف في جعل الآيتين مثالين للتورية، على ما اشتهر بين أهل الظاهر من المفسرين. انتهى.
وأما الزمخشري فذكر في تفسيره: {والسماء بنيناها بأييدٍ وإنا لموسعون} [الذاريات: 47] / قال: «بأيد» بقوة، والأيد، والآد: القوة، وقد آد يئيد، وهو آيد. فقد جعلها من التورية. وهو ظاهر كلام السعد في «المطول» أن الزمخشري لا يقول إن الآية من التورية، وأنه يجعلها مثل:{الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]. قال ابن أبي الإصبع في كتابه «الإعجاز» ، ومنها:
قوله تعالى: {قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} [يوسف: 95]، فالضلال يحتمل الحب وضد الهدى، فاستعمل أولاد يعقوب عليه السلام ضد الهدى تورية عن الحب. كذا قال، فليتأمل.
وقوله تعالى: {فاليوم ننجيك ببدنك} [يونس: 92] على تفسيره بالدرع؛ فإن البدن يطلق عليه وعلى الجسد، والمراد البعيد وهو الجسد، كذا قال.
ومن ذلك قوله تعالى- بعد ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى- حيث قال: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آيةٍ ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابعٍ قبلتهم} [البقرة: 145]، ولما كان الخطاب لموسى من الجانب الغربي، وتوجهت إليه اليهود، وتوجهت النصارى إلى الشرق، كانت قبلة الإسلام وسطًا بين القبلتين، قال تعالى وتقدس:{وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا} [البقرة: 143] أي: خيارًا، وظاهر اللفظ يوهم التوسط مع ما يعضده، من توسط قبلة المسلمين. [فصدق] على لفظ «وسط» ها هنا [أن] يسمى تعالى به لاحتمالها المعنيين. ولما كان المراد أبعدهما وهو «الخيار» صلحت أن تكون من أمثلة التورية.
قال الحافظ السيوطي -رحمه الله تعالى- وهي مرشحة بلازم المورى عنه، وهو قوله تعالى:{لتكونوا شهداء على الناس} فإنه لزم كونهم خيارًا؛ أي:
عدولًا، والإتيان قبله من قسم المجردة.
ومن ذلك قوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6]، فإن النجم يطلق على الكوكب، ويرشحه ذكر الشمس والقمر، وعلى ما لا «يساق» له من النبات، وهو المعنى البعيد له وهو المقصود في الآية.
ونقل من خط شيخ الإسلام ابن حجر: أن من التورية في القرآن: {وما أرسلناك إلا كافةً للناس} [سبأ: 28]، فإن «كافة» بمعنى «مانع» أي: تكفهم عن الكفر والمعاصي، والهاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب المتبادر: أن المراد جامعة بمعنى: جميعًا، لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكد، فكما لا تقول: رأيت جميع الناس، لا تقول: رأيت كافة الناس.