الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعلومات كلها حاضرة عند الحق جل شأنه بإشراق قدسه، فلذا ترى من لا يفهمه يخضع لسماعه، وتأثر به أشد التأثير.
ومما يقرب من هذا المعنى ما نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه حضر مجلس بعض أهل الحقيق مختفيًا، فتكلم ذلك العارف بأنواع من العرفان والحقائق، فسأل الإمام أحمد رضي الله عنه فقال: لم أفهم مما يقول شيئًا غير أن على كلامه صولة ليس بصولة مبطل، فالقرآن الشريف معجز بألفاظه الفصيحة، ومعانيه البليغة وصولة متكلمة، وهذا الوجه في إعجازه عندي والله أعلم).
فصل:
وإنما كان القرآن العزيز معجزًا لأن لفظه الكلام العربي البليغ الراقي في درجة الفصاحة والبلاغة والبراعة إلى الغاية القصوى
، ومعناه المعاني الجليلة الفائقة العظيمة التي لا تكون في غيره من الكلام، والمرمى الأعظم هو ما فيه من صولة المتكلم وجلالته وبهائه وأشرافه وحلاوته وطلاوته، وأخذه بالقلوب ولذته النفوس، بحيث لا تمل منه على كثرة [التكرار] ولا يخلق على مر الدوام.
وقال الحافظ السيوطي -رحمه الله تعالى- في الإتقان: اعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة؛ وهي إما حسية وإما عقلية، وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم، وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية
لفرط ذكاهم، وكمال أفهامهم، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة، خضت بالمعجزة العقلية الباقية؛ ليراها [ذوو البصائر]، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا» . أخرجه البخاري، قيل: إن معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته، وإخباره بالمغيبات فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون؛ ويدل على صحة دعواه.
وقيل: المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، و [معجزة القرآن] تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق، يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرًا.
قال في «فتح الباري» : ويمكن نظم القولين في كلام واحد؛ فإن محصلهما لا ينافي بعضه بعضًا).
ولا خلاف بين العقلاء، أن كتاب الله تعالى معجز لم يقدر [واحد] على معارضته بعد تحديهم بذلك، قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك
فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]، فلولا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه، ولا يكون إلا وهو معجزة.
وقال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك المتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 50، 51] فأخبر بأن الكتاب آية من آياته، كاف في الدلالة، قائم مقام معجزات غيره وآيات من سواه من الأنبياء، ولما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء، وتحداهم على أن يأتوا بمثله، وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا، [كما قال تعالى]:{فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين} [الطور: 34]، ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى:{أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفترياتٍ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 13، 14] الآية. ثم تحداهم بسورة في قوله (تعالى): {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورةٍ مثله
…
} [يونس: 38]. ثم كرر في قوله (عز من قائل): {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله
…
} الآية [البقرة: 23]، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء، نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن، فقال [عز من قائل]:{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} [الإسراء: 88].
هذا وهم الفصحاء اللد، وقد كانوا أحرض شيء على إطفاء نوره، وإخفاء أمره، فلو كان في مقدورتهم معارضته لعدلوا إليها قطعًا للحجة، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه شيء من ذلك ولا رامه، بل عدلوا إلى
العناد تارة، وإلى الاستهزاء أخرى، فتارة قالوا:«سحر» ، وتارة قالوا:«شعر» ، وتارة قالوا:{أساطير الأولين} [الفرقان: 5]، كل ذلك من التحير والانقطاع، ثم رضو [بتحكيم السيف] في أعناقهم وسبي ذراريهم وحرمهم واستباحة أموالهم، وقد كانوا آنف شيء وأشده حمية، فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه؛ لأنه كان أهون عليهم، كيف وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه؛ فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره
له قال: وماذا أقول: فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه، ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وأنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وأنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: دعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره.
قال الجاحظ: بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها، وأدناها توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر، وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية، دون الجهل والحيرة،
حملهم على حظهم بالسيف، فنصب لهم الحرب، ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحًا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبًا بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديًا لهم بها وتقريعًا لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيًا، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا قال: فهاتوها مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكايد فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، دل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، واستحالة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه، وخطباء أمنه؛ لأن سورة واحدة آيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال.
وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات، ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج، واللفظ