الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام أو اللوازم التابعة له، التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا الأمر الكلي المهمين على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فإذا فعلته تبين لك وجه النظم مفصلًا بين كل آية وآية في كل سورة. انتهى.
تنبيه:
من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك: قوله تعالى في سورة (القيامة): {لا تحرك به لسانك لتعجل به
…
} الآيات، [القيامة: 16]، فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسر جدًا، فإن السورة كلها في أحوال القيامة؛ حتى زعم بعض الرافضة أنه سقط من السورة شيء، وحتى ذهب القفال فيما حكاه الفخر الرازي:[أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل في قوله [تعالى]: {ينبأ الإنسان يومئذٍ بما قدم وأخر} [القيامة: 13]. قال: يعرض عليه كتابه، فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفًا فأسرع في القراءة، فيقال له:{لا تحرك به لسانك لتعجل به} إن علينا أن نجمع عملك، وأن نقرأ عليك {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} بالإقرار بأنك فعلت، ثم إن علينا
بيان أمر الإنسان وما يتعلق بعقوبته]. انتهى.
وهذا يخالف ما [ثبت] في الصحيح أناها نزلت في تحريك النبي صلى الله عليه وسلم لسانه حالة نزول الوحي عليه.
وقد ذكر الأئمة لها مناسبات: منها: أنه تعال لما ذكر القيامة، وكان من شأن من يقصر عن العمل لها حب العاجلة، وكان من أصل الدين أن المبادرة إلى أفعال الخير مطلوبة، فنبه على أنه قد يتعرض على هذا المطلوب ما هو أجل منه؛ و [الإصغاء] إلى الوحي، وتفهم ما يرد منه، والتشاغل بالحفظ قد يصد عن ذلك، فأمر بأن لا يبادر إلى التحفظ؛ لأن تحفيظه مضمون على ربه وليصغ إلى ما يرد عليه إلى أن ينقضي فيتبع ما [يشتمل] عليه. ثم لما انقضت الجملة المعترضة رجع الكلام إلى ما يتعلق بالإنسان المبتدأ بذكره ومن هو [على] جنسه، فقال:{كلا} ، وهي كلمة ردع كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لكونكم خلقتم من عجل تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة.
ومنها أن عادة القرآن إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد حيث يعرض يوم القيمة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة، عملًا وتركًا، كما قال في (الكهف):{ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه} إلى أن قال: {ولقد صرفنا في هذا
القرآن للناس من كل مثلٍ
…
} الآية [الكهف: 49 - 54]. وقال في (سبحان): {فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم} إلى أن قال: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن
…
} الآية [الإسراء: 71 - 89].
وقال في (طه): {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقًا} إلى أن قال: {فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} [طه: 102 - 114].
ومنها أن أول السورة لما نزل إلى [قوله تعالى]: {ولو ألقى معاذيره} [القيامة: 15] صادف أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحلة، بادر إلى حفظ الذي نزل، وحرك به لسانه من عجلته خشية من تفلته، فنزل [قوله تعالى]:{لا تحرك به لسانك لتعجل به} إلى قوله: {إن علينا بيانه} [القيامة: 15 - 19]، ثم عاد إلى الكلام إلى تكملة ما ابتدئ به.
قال الفخر الرازي: ونحوه ما لو ألقى المدرس على الطالب مثلا مسألة فتشاغل الطالب بشيء عرض له، فقال [له]: ألق إلى بالك وتفهم ما أقول، ثم كمل المسألة؛ فمن لا يعرف السبب يقول: ليس هذا الكلام مناسبًا للمسألة، بخلاف من عرف ذلك.
ومنها: أن النفس لما تقدم ذكرها في أول السورة، عدل إلى ذكر نفس المصطفى، كأنه قيل: هذا شأن النفوس، وأنت يا محمد نفسك أشرف النفوس، فلتأخذ بأكمل الأحوال.
أقول: ويحتمل وجه المناسبة غير ما ذكر، وهو أن الله تبارك وتعالى لما ذكر في هذه السورة:{ينبأ الإنسان يومئذٍ بما قدم وأخر} [القيامة: 13]، أي يخبر، ثم قال:{بل الإنسان على نفسه بصيرة} [القيامة: 14] أي معرفة وخبر، {ولو ألقى معاذيره} [القيامة: 15]. فنبهت الآية الكريمة أنه ينبغي أن يتبعه الإنسان ويتفهم ما فيه نفعه وصلاحه.
فلما فهم هذا المعنى أرشد الحق نبيه عليه السلام بأنك لا تعجل بحفظ القرآن ولا تحرك به لسانك بذلك، بل تأمل ما فيه من الفوائد، وتبصر وتفهم حتى يلقى إليك، ولا تخشى أنك لا تحفظه فنحن متكفلون لك بجمعه وتقييده في صدرك، وبهذا المعنى تكون مناسبة حسنة- والله أعلم- انتهى.
ومن ذلك قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة
…
} [البقرة: 189] الآية، ثم قال أي رابط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت؟ .
وأجيب: بأنه من باب الاستطراد، لما ذكر أنها مواقيت الحج، وكان هذا من أفعالهم- كما ثبت في سبب نزولها- ذكر معه من باب الزيادة في الجواب على ما في السؤال. كما سئل عن ماء البحر فقال: «هو الطهور
ماؤه الحل ميتته».
ومن ذلك قوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب
…
} الآية [البقرة: 115]، فقد يقال: ما وجه اتصاله بما قبله وهو قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} الآية [البقرة: 114].
وقال الشيخ أبو محمد الجويني في تفسيره: سمعت أبا الحسين الدهان يقول: وجه اتصاله، وهو أن ذكر تخريب بيت المقدس قد سبق، أي فلا يجرمنكم ذلك، واستقبلوه فإن الله المشرق والمغرب.
أقول: وظهر لي وجه آخر، وهو: أن الله تعالى لما قال: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114]، ربما فهم الفاهم أن ذكر الله وتعظيمه متقيد بالمساجد، فأرشده بقوله تعالى:{ولله المشرق والمغرب} [البقرة: 115] إلى أنه حيثما توجهتم إليه، وذكرتم علوه وعظمة شأنه فثم وجهه فلا تظنوا التقيد بالمساجد، ولذا قال تعالى:{إن الله واسع عليم} [البقرة: 115].