الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
الإيجاز على قسمين:
إيجاز القصر، وإيجاز الحذف. قال الشيخ بهاء الدين السبكي: الكلام القليل إن كان بعضاً من كلام أطول منه فهو إيجاز حذف، وإن كان كلاماً يعطي معنى أطول منه فهو إيجاز القصر. وقد تقدم التعبير عنه في عبارة التلخيص ومثل لكل بأمثلته.
ومن أمثلة إيجاز القصر، قوله تعالى:{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)} [الأعراف: 199]، لأن في الأخذ بالعفو التساهل والتسامح واللين والرفق والتيسير في الدعوة إلى الدين، وفي الأمر بالمعروف: تعليم الشرائع والعبادات والنهي عن القبائح والمنكرات، وفي الأعراض: الصبر والحلم والتودد والمداراة.
ومن ذلك قوله تعالى: {يا أرض أبلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين} [هود: 44]، أمر فيها ونهى، وأخبر ونادى، ونعت وسمى، وأهلك وأبقى، وأسعد وأشقى، وقص من الأنباء ما لو شرح من اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ/ والبلاغة والإيجاز والبيان، لجفت الأقلام. وقد أفردت هذه الآية بالتأليف وذكر ما فيها من عجائب البلاغة والإيجاز والفصاحة.
وقال الكرماني في كتاب «العجائب» أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية بعد أن فتشوا جميع كلام العرب والعجم فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها، وحسن نظامها، وجودة معانيها في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال.
ومن ذلك قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مسكانكم
…
} الآية [النمل: 18] جمع في هذه اللفظة أحد عشر جنساً: نادت وكنت، ونبهت وسمت، وأمرت، وقصت، وحذرت، وخصت، وعمت، وأشارت، وعذرت.
فالنداء «يا» والكتابة «أي» والتنبيه «ها» ، والتسمية «النمل» ، والأمر «ادخلوا» ، والقصص «مساكنكم» ، والتحذير «لا يحطمنكم» ، والتخصيص «سليمان» ، والتعميم «جنوده» ، والإشارة «وهم» ، والعذر «لا يشعرون» .
وأدت خمس حقوق: حق الله، وحق رسوله، وحقها، وحق رعيتها، وحق جنود سليمان.
ومن ذلك قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر
…
} الآية [الحجر: 94]، وقد روي أن أعرابياً لما سمع هذه الآية سجد، وقال سجدت لفصاحة هذا الكلام.
ومن ذلك قوله تعالى: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} [الزخرف: 71]، قال بعضهم: جمع الله تعالى في هاتين الجملتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على وصف ما فيه على التفصيل لم يخرجوا عنه.
ومن ذلك قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب} [البقرة: 179] وقد فضلت هذه الجملة على أخصر ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: القتل أنفى للقتل.
قال ابن الأثير: لا تشبيه بين كلام الخالق سبحانه وكلام المخلوق.
وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك.
الأول: أن ما يناظره من كلامهم قوله: {القصاص حياة} ، أقل حروفاً، فإن حروفه عشرة، وحروف «القتل أنفى للقتل» أربعة عشر.
الثاني: أن نفي القتل لا يدل على الحياة، والآية دالة على ثبوتها الذي هو الغرض والمطلوب.
الثالث: أن تنكير «حياة» يفيد تعظيماً، فيدل على أن القصاص حياة مستطالة، كقوله تعالى:{ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} [البقرة: 96]، وكذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
الرابع: أنها مطردة، بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلماً، وإنما ينفيه قتل خاص وهو القصاص، ففيه حياة أبداً.
الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه، وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة.
السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم، فإن فيه حذف «من» التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها، وحذف «قصاص» من القتل الأول، و «ظلماً» من القتل الثاني، والتقدير: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً من تركه.
السابع: أن في الآية طباقاً، لأن القصاص يشعر بضد الحياة، بخلاف المثل.
الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو القضاء والموت، حكماً لضده الذي هو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة. ذكره في «الكشاف» ، وعبر عنه صاحب «الإيضاح»: بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال «في» عليه.
التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة حقيقة، وهو السكون بعد الحركة، وذلك مستكره، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة بسكون، فالحركات تنقطع بالسكنات، نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فحبست ثم تحركت فحبست لا يتيسر إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما
تختاره، فهي كالمقيدة.
العاشر: أن المثل كالمتناقض من حيث الظاهر، لأن الشيء لا ينفي نفسه.
الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة، وبعدها من غنة النون.
الثاني عشر: سلامة استعمالها على حروف ملائمة لما قبلها من الخروج من القاف إلى الصاد، إذ «القاف» من حروف الاستعلاء، و «الصاد» من حروف الاستعلاء والإطباق، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض فهو غير ملائم للقاف، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء، أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة/ لبعد ما بين طرف اللسان وأقصى الحلق.
الثالث عشر: في النطق بالصاد، والحاء، والياء، حسن الصوت، ولا كذلك تكرار القاف والفاء.
الرابع عشر: سلامتها من لفظ «القتل» المشعر بالوحشة؛ بخلاف لفظ «الحياة» ؛ فإن الطباع أقبل له من لفظ مطلق «القتل» .
الخامس عشر: أن لفظ «القصاص» مشعر بالمساواة، فهو مبني على العدل، بخلاف مطلق القتل.
السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات، والمثل مبني على النفي؛ والإثبات أشرف لأنه أول، والنفي ثانٍ عنه.
السابع عشر: أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة. / وقوله تعالى: {في القصاص حياة} مفهوم من أول وهلة.
الثامن عشر: أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد، والآية سالمة منه.
التاسع عشر: أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك؛ فيكون ترك القصاص نافياً للقتل؛ ولكن القصاص أكثر نفياً، وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك.
العشرون: أن الآية رادعة عن القتل والجراح معاً؛ لشمول القصاص لهما، والحياة أيضاً في قصاص الأعضاء؛ لأن قطع العضو ينقص مصلحة الحياة، وقد يسرى إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل.