الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الالتفات:
هو نقل الكلام من أسلوب إلى آخر، أعني من المتكلم، أو الخطاب، أو الغيبة، إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، هذا هو المشهور.
وقال السكاكي: إما ذلك، أو التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره.
وله فوائد:
منها: تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملال، لما جلبت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد. هذه فائدته العامة. ويختص كل موقع بنكت باختلاف محله، كما سنبينه.
مثاله: من التكلم إلى الخطاب- ووجهه: حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عناية وتخصيص بالمواجهة- قوله تعالى:{وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} [يس: 22]، الأصل:«وإليه أرجع» ، فالتفت من التكلم إلى الخطاب، ونكتته: أنه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه، وهو يريد نصح قومه، تلطفًا وإعلامًا أنه يريد لهم ما يريد لنفسه، ثم التفت إليهم؛ لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله تعالى.
كذا جعلوا هذه الآية من الالتفات وفيه نظر؛ لأنه إنما يكون منه إذا قصد الإخبار عن نفسه في كلا الجملتين، وهنا ليس كذلك، لجواز أن يريد بقوله:
«ترجعون» المخاطبين، لا نفسه.
وأجيب: بأنه لو كان المراد كذلك لما صح الاستفهام الإنكاري؛ لأن رجوع العبد إلى مولاه ليس بمستلزم أن يعبده غير ذلك الراجع، فالمعنى: كيف لا أعبد من إليه رجوعي، وإنما عدل عن «وإليه أرجع» إلى «وإليه ترجعون» لأنه داخل فيهم، ومع ذلك أفاد فائدة حسنة، وهي تنبيههم على أنه مثلهم في وجوب عبادة من إليه الرجوع.
ومن أمثلته أيضًا قوله تعالى: {وأمرنا لنسلم لرب العالمين} [الأنعام: 71]، {وأن أقيموا الصلاة} [الأنعام: 72].
ومثاله من التكلم إلى الغيبة:
- ووجهه أن يفهم السامع أن هذا نمط المتكلم وقصده من السامع حضر أو غاب، وأنه في كلامه ليس مما يتلون ويتوجه، ويبدي في الغيبة خلاف ما يبديه في الحضور، قوله تعالى:{إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا * ليغفر لك الله .... } [الفتح]، والأصل:«لنغفر» . وقوله: {إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر} [الكوثر]، والأصل:«فصل لنا» . وقوله تعالى: {أمرًا من عندنا إنا كنا مرسلين * رحمةً من ربك} [الدخان] والأصل: «منا» . وقوله تعالى: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فأمنوا بالله ورسوله} [الأعراف: 158]. والأصل: «وبي» عدل عنه لنكتتين:
أحدهما: دفع التهمة عن نفسه بالعصبية لها.
والأخرى: ينبههم على استحقاقه الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة، والخصائص المتلوة.
ومثاله من الخطاب إلى التكلم لم يقع في القرآن، ومثل له بعضهم بقوله تعالى:{فاقض ما أنت قاضٍ} [طه: 72] ثم قال: {إنا آمنا بربنا} [طه: 73]. وهذا المثال لا يصح؛ لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحدًا.
ومثاله من الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22]، والأصل:«بكم» ، ونكتته العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم، والتعجب من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة.
وقيل: لأن الخطاب أولًا كان مع الناس/ مؤمنهم وكافرهم، بدليل قوله تعالى:{هو الذي يسيركم في البر والبحر} [يونس: 22]، ولو قال:«وجرين بكم» للزم الذم للجميع، فالتفت عن الأول للإشارة [إلى] اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية، عدولًا من الخطاب العام إلى الخاص.
قال الحافظ السيوطي -رحمه الله تعالى-: ورأيت عن بعض السلف في
توجيهه عكس ذلك؛ وهو أن الخطاب أوله خاص وآخره عام، فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال: في قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22]، قال: ذكر الحديث عنهم، ثم حدث عن غيرهم، ولم يقل:«وجرين بكم» ؛ لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم، وجرين بهؤلاء وغيرهم من الخلق./ هذه عبارته: فلله در السلف ما كان أوقفهم على المعاني اللطيفة التي بذل المتأخرون فيها زمانًا طويلًا، ويفنون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أن يحوموا حول الحمى.
ومما ذكر في توجيهه أيضًا: أنهم وقت الركوب حضروا لأنهم خافوا الهلاك وغلبة الرياح، فخاطبهم خطاب الحاضرين، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن، وأمنوا الهلاك، ولم يبق حضورهم كما كان، على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه، فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة، وهذه إشارة صوفية.
ومن أمثلته أيضًا قوله تعالى: {وما آتيتم من زكاةٍ تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم]، وقوله تعالى:{وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} [الحجرات: 7]، وقوله تعالى:{ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون * يطاف عليهم} [الزخرف: 70، 71]، والأصل:«عليكم» ، ثم قال:{وأنتم فيها خالدون} [الزخرف: 71] فكرر الالتفات.
ومثاله من الغيبة إلى المتكلم قوله تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه} [فاطر: 9]، وقوله تعالى: {وأوحى في سماءٍ أمرها وزينا السماء
الدنيا} [فصلت: 12]، وقوله تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} [الإسراء: 1] ثم التفت ثانيًا إلى الغيبة، قال:{إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1]، وعليه قراءة الحسن:«ليريه» بالغيبة يكون التفاتًا ثانيًا في «باركنا» ، وفي «آياتنا» التفات ثالث، وفي «إنه» التفات رابع.
قال الزمخشري: وفائدته في هذه الآيات وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة، وأنه لا يدخل تحته قدرة أحد.
ومثاله من الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا * لقد جئتم شيئًا إدًا} [مريم]، وقوله تعالى:{ألم يروا أهلكنا من قبلهم من قرنٍ مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} [الأنعام: 6]، وقوله تعالى:{وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا * إن هذا كان لكم جزاءً} [الإنسان]، وقوله تعالى:{إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك} [الأحزاب: 50].
ومن محاسنه ما وقع في سورة (الفاتحة)، فإن العبد إذا ذكر الله تعالى وحده، ثم ذكر الله صفاته التي كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال؛ وآخرها:{مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4] المفيد أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء، يجد من نفسه حالًا لا يقدر على دفعه على خطاب من هذه صفاته وتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات. وقيل: إنما اختير لفظ الغيبة للحمد، وللعبادة الخطاب، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة؛ لأنك تحمد نظيرك ولا تعبده؛ فاستعمل لفظ الحمد مع الغيبة ولفظ العبادة مع الخطاب؛ لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة ما هو على رتبته؛ وذلك على طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة؛ فقال تعالى:{الذين أنعمت عليهم} مصرحًا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظًا، ولم يقل: صراط المنعم عليهم. فلما صار إلى ذكر الغضب زوى عنه لفظه، فلم ينسبه إليه لفظًا، وجاء باللفظ منحرفًا عن ذكر الغاضب، فلم يقل غير الذين/ غضبت عليهم؛ تفاديًا عن نسبة الغضب إليه في اللفظ حال المواجهة.
وقيل: لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه ربًا للعالمين، ورحمانًا رحيمًا، ومالكًا ليوم الدين، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بأن يكون معبودًا دون غيره، مستعانًا به، فخوطب بذلك لتمييزه بالصفات المذكورة تعظيمًا لشأنه؛ حتى كأنه قيل:«إياك يا من هذه صفاته نحصر بالعبادة والاستعانة لا غيرك» .