الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنه قوله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًا} [مريم: 72]، جمع في هذه الآية بين هناء وعزاء.
الاقتدار:
هو أن يبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور؛ اقتدارًا منه على نظم الكلام وتركيبه، وعلى صياغة قوالب المعاني والأغراض؛ فتارة يأتي به في لفظ الاستعارة، وتارة في صورة الإرداف، وحينًا في مخرج الإيجاز، ومرة في قالب الحقيقة.
قال ابن أبي الإصبع: وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن؛ فإنك ترى القصة الواحدة التي لا تختلف معانيها تأتي في صور مختلفة وقوالب من الألفاظ متعددة، حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه/، [ولا بد] أن تجد الفرق بين/ صورها ظاهرًا.
ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى:
الأول: أن تكون الألفاظ تلائم بعضها بعضًا، بأن يقرن الغريب بمثله، والمتداول بمثله؛ رعاية لحسن الجودة والمناسبة.
الثاني: أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد؛ فإن كان مفخمًا كانت ألفاظه مفخمة، أو جزلًا فجزلة، أو غريبًا فغريبة، أو متداولًا فمتداولة، أو متوسطًا بين الغرابة والاستعمال؛ فكذلك.
فالأول كقوله الله تعالى: {قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضًا} [يوسف: 85]، أتى بأغرب ألفاظ الإقسام، وهي التاء؛ فإنها أقل استعمالًا، وأبعد من أفهام العامة بالنسبة إلى الباء والواو، وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار، فإن «تزال» ، أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالًا منها، وبأغرب ألفاظ الهلاك وهو الحرض، فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة، توخيًا لحسن الجوار ورعاية في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الموضع وتتناسب في النظم.
ولما أراد غير ذلك قال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [فاطر: 12]، فأتى بجميع الألفاظ متداولة لا غرابة فيها.
ومن الثاني قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} [هود: 113]، لما كان الركون إلى الظالم؛ وهو الميل إليه، والاعتماد عليه، دون مشاركته في الظلم، وجب أن يكون العقاب عليه دون العقاب على الظلم، فأتى بلفظ «المس» الذي هو دون الإحراق والاصطلاء.
وقوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286]، أتى بلفظ «الاكتساب» المشعر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها.
وكذا قوله تعالى: {فكبكبوا فيها} [الشعراء: 64]؛ لأنه أبلغ من كبوا، للإشارة إلى أنهم يكبون كبًا عنيفًا فظيعًا، {وهم يصطرخون} [فاطر: 37] أبلغ من «يصرخون» للإشارة إلى أنهم يصرخون صرخًا منكرًا خارجًا عن المعتاد، {أخذ عزيزٍ مقتدرٍ} [القمر: 12]، فإنه أبلغ من قادر، للإشارة إلى زيادة التمكن في القدرة، وأنه تعالى شأنه لا راد له ولا معقب.
ومثل ذلك: {واصطبر} [مريم: 95]، فإنه أبلغ من «اصبر» و «الرحمن» فإنه أبلغ من «الرحيم» ، و «الرحيم» يشعر باللطيف والرفق، كما أن الرحمن مشعر بالفخامة والعظمة.
ومنه الفرق بين سقى، وأسقى، فإنه «سقى» لما لا كلفة معه في السقيا، ولهذا أورده تعالى في شراب الجنة، فقال عز من قائل:{وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا} [الإنسان: 21]، و «أسقى» لما فيه كلفة، ولهذا أورده في شراب الدنيا فقال جل شأنه:{وأسقيناكم ماءً فراتًا} [المرسلات: 27]، {لأسقيناهم ماءً غدقًا} [الجن: 16]؛ لأن السقي في الدنيا لا يخلو من الكلفة أبدًا.