الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيه:
كاد أهل البيان يطبقون على أن تقديم المعمول يفيد الحصر، سواء كان مفعولاً أو ظرفاً أو مجروراً؛ ولهذا قيل في:{إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] معناه: نخصك بالعبادة والاستعانة. وفي قوله: {لإلى الله تحشرون} [آل عمران: 158] معناه: إليه لا إلى غيره. وفي قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة: 143]،
أخرت الصلة في الشهادة الأولى، وقدمت في الثانية؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم؛ وفي الثاني إثبات اختصاصهم بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم.
وخالف في ذلك ابن الحاجب؛ فقال في «شرح المفصل» : الاختصاص الذي يتوهمه كثير من الناس من تقديم المعمول وهم، واستدل على ذلك بقوله/ تعالى:{فاعبد الله مخلصاً له الدين} [الزمر: 2] ثم قال: {بل الله فاعبد} [الزمر: 66]. ورد هذا الاستدلال بأن «مخلصاً له الدين» أغنى عن إرادة الحصر في الآية الأولى، / ولو لم يكن، فما المانع من ذكر المحصور في محل بغير صيغة الحصر، كما قال تعالى:{واعبدوا ربكم} [الحج: 77]، وقال:{أمر ألا تعبدوا إلا إياه} [يوسف: 40]؛ بل قوله: {بل الله فاعبد} [الزمر: 66] من أقوى أدلة الاختصاص؛ فإن قبلها {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65]. فلو لم يكن للاختصاص وكان معناها «اعبد الله» لما حصل الإضراب الذي هو معنى «بل» .
واعترض أبو حيان على مدعي الاختصاص بنحو قوله تعالى: {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} [الزمر: 64].
وأجيب: بأنه لما كان من أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله، كان أمرهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة.
ورد صاحب الفلك الدائر الاختصاص بقوله تعالى: {كلا هدينا ونوحاً
هدينا من قبل} [الأنعام: 84]، وهو أقوى ما رد به.
وأجيب: بأنه لا يدعي فيه اللزوم بل الغلبة، وقد يخرج الشيء عن الغالب.
قال الشيخ بهاء الدين: وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة، وهي قوله تعالى:{أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41)} [الأنعام: 40، 41]، فإن التقديم في الأول قطعاً ليس للاختصاص، وفي «إياه» قطعاً للاختصاص.
وقال والده الشيخ تقي الدين في كتاب: «الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص» : اشتهر كلام الناس في أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، ومن الناس من ينكر ذلك ويقول: إنما يفيد الاهتمام. وقد قال سيبويه في كتابه: وهم يقدمون ما هم به أعنى.
والبيانيون على إفادته الاختصاص، ويفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر، وليس كذلك، وإنما الاختصاص شيء، والحصر شيء آخر، والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظة الحصر؛ وإنما عبروا بالاختصاص؛ والفرق بينهما: أن الحصر نفي غير المذكور وإثبات المذكور، والاختصاص قصد الخاص من جهة خصوصه، وبيان ذلك: أن الاختصاص افتعال من الخصوص، والخصوص مركب من شيئين:
أحدهما: [عام] مشترك بين شيئين.
والثاني: معنى منضم إليه يفصله عن غيره، كضرب زيد، فإنه أخص من مطلق الضرب، فإذا قلت: ضربت زيداً، أخبرت بضرب عام وقع منك على شخص خاص، فصار ذلك الضرب المخبر به خاصاً لما انضم إليه منك ومن زيد.
وهذه المعاني الثلاثة - أعني مطلق الضرب، وكونه واقعاً منك، وكونه واقعاً على زيد - قد يكون قصد المتكلم بها ثلاثتها على السواء. وقد يترجح قصده لبعضها على بعض، ويعرف ذلك بما ابتدأ به كلامه، فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به، وأنه هو الأرجح في غرض المتكلم؛ فإذا قلت: زيداً ضربت؛ علم أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود.
ولا شك أن كل مركب من خاص وعام له جهتان، فقد يقصد من جهة عمومه، وقد يقصد من جهة خصوصه، والثاني هو الاختصاص، وأنه هو الأهم عند المتكلم، وهو الذي قصد إفادة السامع من غير تعرض ولا قصد لغيره بإثبات ولا نفي، ففي الحصر معنى زائد عليه، وهو نفي ما عدا المذكور. وإنما جاء هذا في {إياك نعبد} [الفاتحة: 5]، للعلم بأن قائليه لا يعبدون غير الله تعالى؛ ولذا لم يطرد في بقية الآيات، فإن قوله تعالى:{أفغير دين الله يبغون} [آل عمران: 83]، لو جعل في معنى: ما يبغون إلا غير دين الله، وهمزة الإنكار داخلة عليه، لزم أن يكون المنكر الحصر، لا مجرد بغيهم غير دين الله، وليس المراد. وكذلك:{ءالهةً دون الله تريدون} [الصافات: 86]، المنكر إرادتهم آلهاً دون الله من غير حصر.
وقد قال الزمخشري في قوله تعالى: {وبالأخرة هم يوقنون} [البقرة: 4]: في تقديم «الآخرة» وبناء «يوقنون» على «هم» تعريض بأهل الكتاب وما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة، على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.
وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية/ الحسن، وقد اعترض عليه بعضهم
فقال: تقديم «الآخرة» أفاد أن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة لا بغيرها، وهذا الاعتراض من قائله مبني على ما فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر، وليس كذلك؛ ثم قال المعترض: وتقديم «هم» أفاد أن هذا القصر مختص بهم، فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيماناً بغيرها حيث قالوا:{لن تمسنا النار} [البقرة: 80]. وهذا منه أيضاً استمرار على ما في ذهنه من الحصر، أي أن المسلمين لا يوقنون إلا بالآخرة، وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها.
[وهذا] فهم عجيب ألجأه [إليه] فهمه الحصر، وهو ممنوع. وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام:
أحدها: «بما» و «إلا» ، كقولك: ما قام إلا زيد، صريح في نفي القيام عمن غير زيد، ويقتضي إثبات القيام لزيد، قيل: بالمنطوق، وقيل: بالمفهوم وهو الصحيح، لكنه أقوى المفاهيم؛ لأن «إلا» موضوعة للاستثناء، وهو الإخراج، بدلالتها على الإخراج بالمنطوق لا بالمفهوم، ولكن الإخراج من عدم القيام ليس هو غير القيام، بل قد يستلزمه، فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم، والتبس على بعض الناس لذلك فقال: إنه بالمنطوق.
والثاني: الحصر بـ «إنما» وهو قريب من الأول فيما نحن فيه، وإن كان جانب الإثبات فيه أظهر، فكأنه يفيد إثبات قيام زيد، إذا قلت: إنما قام زيد، بالمنطوق، ونفيه عن غيره بالمفهوم.
الثالث: الحصر الذي/ قد يفيده التقديم؛ وليس هو على تقدير تسليمه مثل الحصرين الأولين، بل هو في قوة جملتين:
إحداهما: ما صدر به الحكم نفياً كان وإثباتاً، وهو المنطوق، والأخرى: ما فهم من التقديم، والحصر يقتضي نفي المنطوق فقط، دون ما دل عليه من المفهوم - لأن المفهوم - لا مفهوم له؛ فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك، أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه، وقد قال تعالى:
{الزاني لا ينكح إلا زانيةً أو مشركة} [النور: 3]، أفاد أن العفيف قد ينكح غير الزانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية، فقال سبحانه وتعالى بعده:{والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك} [النور: 3] بياناً لما سكت عنه في الأولى. فلو قال: {وبالأخرة هم يوقنون} [البقرة: 4]، أفاد بمنطوقة إيقانهم بها، ومفهومه عند من يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها.
وليس ذلك مقصوداً بالذات، المقصود بالذات قوة إيقانهم بالآخرة حتى صار غيرها عندهم كالدحوض، فهو حصر مجازي، وهو دون قولنا: يوقنون بالآخرة لا بغيرها، فاضبط هذا وإياك أن تجعل تقديره: لا يوقنون إلا بالآخرة.
إذا عرفت هذا فتقديم «هم» أفاد أن غيرهم ليس كذلك؛ فلو جعلنا التقدير: لا يوقنون إلا بالآخرة، كان المقصود المهم النفي، فيتسلط المفهوم عليه، فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها؛ كما زعم المعترض، ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة. ولا شك أن هذا ليس بمراد، بل المراد إفهام أن غيرهم لا يوقهن بالآخرة؛ فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة، ليتسلط المفهوم عليه، وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر، لأن الحصر لم يدع عليه بجملة واحدة، مثل «ما» و «إلا» ومثل «إنما» ، وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق، وليس أحدهما متقيداً بالآخر؛ حتى نقول: إن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور، بل أفاد [نفي] الإيقان مطلقاً عن غيرهم؛ وعلى هذا كله على تقدير تسليم الحصر، ونحن نمنع ذلك، ونقول: إنه اختصاص، وإن بينهما فرقاً. انتهى كلام السبكي.