الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الاعتكاف
وهو لغة: لزوم الشيء (1)، ومنه {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (2)، وشرعًا: لزوم مسلم لا غسل عليه عاقل ولو كان مميزًا، مسجدًا، ولو ساعة من ليل أو نهار، لطاعة على صفة مخصوصة، كما يأتي (3).
(والاعتكاف سنة) كل وقت، لفعله صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه، واعتكف أزواجه معه، وبعده، وهو في رمضان آكد، لفعله صلى الله عليه وسلم، وآكده عشره الأخير، لحديث أبي سعيد:"كنت أجاور هذا العشر، يعني الأوسط، ثم بدا لي أن أجاور هذا العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليلبث في معتكفه"(4)، ولما فيه من ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر.
وإن نذر اعتكاف العشر الأخير، فنقص الشهر أجزأه، لا إن نذر عشرة أيام من آخر الشهر، فنقص، فيقضى يومًا.
(ولا يصح) الاعتكاف (ممَّن) أي من شخص (تلزمه) صلاة (الجماعة إلا بمسجد تقام فيه) أي الجماعة (إن أتى عليه صلاة) بخلاف من نذر اعتكاف ساعة مثلًا، في مسجد، في غير وقت صلاة، فلا يشترط كونه مما تقام فيه الجماعة.
(1) قال ابن فارس في "حلية الفقهاء"(ص 110): معنى الاعتكاف: الإقامة، يقال: عكف بالمكان: إذا أقام به. والمعكوف: المحبوس، قال تعالى:{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} ينظر: "القاموس"(ص 1084) و"المصباح المنير"(2/ 580).
(2)
سورة الأعراف، الآية:138.
(3)
"المطلع"(ص 157) و"التوضيح"(1/ 463).
(4)
أخرجه البخاري، في كتاب فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر (2/ 254) ومسلم، في الصيام (2/ 824).
(وشرط له) أي الاعتكاف (طهارة مما يوجب غُسلًا)، فلا يبطل بإغماء، ولا نوم، لبقاء التكليف.
(وإن نذره) أي الاعتكاف (أو) نذر (الصلاة في مسجد غير) المساجد (الثلاثة) وهي المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى (فله فعله في غيره) أي غير المسجد الذي عين الاعتكاف فيه (و) إن نذره (في أحدها) أي الثلاثة (فله فعله فيه وفي الأفضل) منه، (وأفضلها المسجد الحرام) وهو مسجد مكة (ثم مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم الأقصى) لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"(1) رواه الجماعة، إلا أبا داود.
(ولا يخرج من اعتكف منذورًا) أي عن منذور (متتابعًا) لتقييده نذره بالتتابع، أو بنيته، أو إتيانه بما يقتضيه كشهر (إلا لما لابد) له (منه) كإتيانه بمأكل ومشرب، لعدم من يأتيه به، نصًا (2)، وكغسل متنجس يحتاجه، وكبول وغائط، وطهارة واجبة، ولو قبل دخول وقت صلاة، لأنه لابد منه للمحدث، لحديث عائشة:"السنة للمعتكف ألا يخرج إلا لما لابد له منه"(3) رواه أبو داود.
(1) البخاري، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (2/ 56، 57) ومسلم، في الحج (2/ 1012)، والنسائى، في المساجد، باب فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 35)، وابن ماجه، في إقامة الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام (1/ 450).
(2)
"الفروع"(3/ 172).
(3)
أبو داود، في الصوم، باب المعتكف يعود المريض (2/ 836) ولفظه:"السنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع" قال أبو داود عقبه: غير عبد الرحمن -يعني ابن إسحاق- لا يقول فيه: قالت السنة. جعله قول عائشة.
وله المشي على عادته، فلا يلزمه مخالفتها في سرعة، وله قصد بيته إن لم يجد له مكانًا يليق به بلا ضرر ولا منَّة (ولا يعود) المعتكف (مريضًا، ولا يشهد جنازة، إلا بشرط) بأن يشترط عند النذر الخروج إلى ما لا يلزمه الخروج إليه منهن.
(ووطء) في (الفرج يفسده) أي الاعتكاف، ولو ناسيًا، لما روى حرب، عن ابن عباس: إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه، واستأنف الاعتكاف (1)، ولأن الاعتكاف عبادة تفسد بالوطء عمدًا، فكذلك سهوًا كالحج (وكذا إنزال بمباشرة) دون الفرج، لقوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2)، فإن لم ينزل لم يفسد، كاللمس لشهوة.
(ويلزم) معتكفًا (لإفساده) أي اعتكافه (كفارة يمين) وجوبًا، لإفساد نذره، ولا يكفر لوطئه إن كان اعتكافه نفلًا كبقية النوافل.
(وسن) بتأكد أي: للمعتكف (اشتغاله بالقرب) كصلاة، وقراءة، وذكر (و) سن له (اجتناب ما لا يعنبه) لحديث:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(3). ولا بأس أن تزوره زوجته في المسجد، وتتحدث معه، بلا التذاذ بشيء منها، وله أن يتحدث مع من يأتيه ما لم يكثر.
ولا يسن له إقراء قرآن، ولا علم، ولا مناظرة فيه، ونحوه، مما يتعدى نفعه، لأنه صلى الله عليه وسلم-كان يعتكف، فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به.
(1) ابن أبي شيبة، كتاب الصيام، ما قالوا في المعتكف يجامع ما عليه في ذلك (3/ 92) عن مجاهد عن ابن عباس به.
(2)
سورة البقرة، الآية:187.
(3)
الترمذي، في الزهد، بابٌ (4/ 558) وابن ماجه، في الفتن، باب كف اللسان في الفتنة (2/ 1315، 1316) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الترمذي: حديث غريب. اهـ وقد حسنه النووي في "الأربعين" ينظر "جامع العلوم والحكم"(1/ 287).
ويكره الصمت إلى الليل، وإن نذره لم يف به، لحديث: "لا صمات
يوم إلى الليل" (1) رواه أبو داود.
ويحرم جعل القرآن بدلًا من الكلام: كقولك لمن اسمه يحيى {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (2) لأنه استعمال له في غير ما هو له.
وينبغي لمن قصد المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه، لاسيما إن كان صائمًا، ولا بأس أن يتنظف المعتكف، وكره له أن يتطيب، ويستحب له ترك رفيع الثياب، والتلذذ بما يباح له قبل الاعتكاف، وأن لا ينام إلا مع غلبة، ولو مع قرب ماء، وأن لا ينام مضطجعًا بل متربعًا مستندًا، ولا يكره شيء من ذلك، ولا أخذ شعره وأظفاره.
ولا يجوز البيع والشراء للمعتكف وغيره في المسجد، نصًّا (3)، قال ابن هبيرة (4): منع صحته وجوازه أحمد. قال في "الفروع"(5): والإجارة كالبيع.
(1) أبو داود، الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم (3/ 293، 294) من حديث علي رضي الله عنه: "لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل".
قال ابن مفلح في "الفروع"(3/ 193): حديث حسن. اهـ
(2)
سورة مريم، الآية:12.
(3)
"كشاف القناع"(2/ 366).
(4)
ابن هبيرة هو يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد الشيباني، البغدادي، ولد سنة (499 هـ)، فقيه، مؤرخ، أديب، تفقه على مذهب أحمد بن حنبل، وسمع الحديث، ألف:"الإفصاح عن معاني الصحاح" في عشر مجلدات. توفي مسمومًا ببغداد سنة (560 هـ)، "ذيل طبقات الحنابلة"(1/ 207).
ينظر: "الإفصاح"(1/ 226).
(5)
"الفروع"(3/ 199).