الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَصْلاً وَرَبُّ الْمَال يَدَّعِي دَفْعَ الْمَال إِِلَيْهِ مُضَارَبَةً فَالْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ مَالِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ، وَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ. فَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِِلَى رَجُلٍ مَالاً مُضَارَبَةً ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ فَقَال: لَمْ تَدْفَعْ إِِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ قَال: بَلَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ قَدْ دَفَعْتَ إِِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً. هُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال، لأَِنَّهُ أَمِينٌ وَالأَْمِينُ إِِذَا جَحَدَ الأَْمَانَةَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ، وَهَذَا لأَِنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، بَل هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ، فَكَانَ جُحُودُهُ فَسْخًا لَهُ أَوْ رَفْعًا لَهُ، وَإِِِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَال مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِِِنِ اشْتَرَى بِهِ مَعَ الْجُحُودِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لأَِنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَال فَلَا يَبْقَى حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَال أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِِِذَا صَارَ ضَمِينًا لَمْ يَبْقَ أَمِينًا، فَإِِِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الْجُحُودِ لَا يَرْتَفِعُ الضَّمَانُ، لأَِنَّ الْعَقْدَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ فَلَا يَعُودُ إِِلَاّ بِسَبَبِ جَدِيدٍ (1) .
رَابِعًا - اخْتِلَافُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي كَوْنِ مَا اشْتُرِيَ لِلْمُضَارَبَةِ أَوْ لِلْعَامِل
63 -
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْعَامِل إِِنْ قَال: اشْتَرَيْتُ هَذِهِ السِّلْعَةَ لِنَفْسِي، وَقَال رَبُّ
(1) بدائع الصنائع 6 / 110 - 111.
الْمَال: اشْتَرَيْتَهَا لِلْمُضَارَبَةِ، أَوْ قَال الْعَامِل: اشْتَرَيْتُهَا لِلْمُضَارَبَةِ، وَقَال رَبُّ الْمَال: بَل لِنَفْسِكَ. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل، لأَِنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ وَقَدْ يَشْتَرِي لِلْمُضَارَبَةِ وَلَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الآْخَرِ إِِلَاّ بِالنِّيَّةِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِِلَيْهِ، وَلأَِنَّ الاِخْتِلَافَ هُنَا فِي نِيَّةِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا نَوَاهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِيمَا نَوَاهُ.
وَفَرَّقَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقَال: إِِذَا قَال الْعَامِل: اشْتَرَيْتُ هَذَا لِلْمُضَارَبَةِ، فَقَال الْمَالِكُ: بَل لِنَفْسِكَ. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: قَوْل الْمَالِكِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ وُقُوعِهِ عَنِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ قَال الْعَامِل: اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي، فَقَال الْمَالِكُ: بَل لِلْمُضَارَبَةِ. صُدِّقَ الْعَامِل بِيَمِينِهِ قَطْعًا.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُصَدَّقُ الْعَامِل فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الشَّيْءَ لِلْمُضَارَبَةِ وَإِِِنْ كَانَ خَاسِرًا، أَوْ لِي وَإِِِنْ كَانَ رَابِحًا، لأَِنَّهُ مَأْمُونٌ وَهُوَ أَعْرَفُ بِقَصْدِهِ، وَلأَِنَّهُ فِي الثَّانِيَةِ فِي يَدِهِ.
وَقَال: مَحَل قَبُول قَوْلِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ إِِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الذِّمَّةِ لأَِنَّ التَّعْوِيل فِيهِ عَلَى النِّيَّةِ، أَمَّا إِِذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَأَقَامَ الْمَالِكُ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ مَال الْمُضَارَبَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: رَجَّحَ ابْنُ الْمُقْرِي مِنْهُمَا أَنَّهُ يَبْطُل الْعَقْدُ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَالْفَارِقِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الأَْذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ لأَِنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ بِمَال الْمُضَارَبَةِ عُدْوَانًا، وَرَجَّحَ صَاحِبُ الأَْنْوَارِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهِ لِلْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ قَال: قَال الإِِِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ: كُل شِرَاءٍ وَقَعَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ لَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ لَهَا وَلَا أَثَرَ لِنِيَّةِ الْعَامِل، لإِِِِذْنِ الْمَالِكِ لَهُ فِي الشِّرَاءِ.
ثُمَّ قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالْقَوْل بِالْبُطْلَانِ أَوْجَهُ كَمَا اعْتَمَدَهُ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ مَنْ دَفَعَ إِِلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى دَابَّةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُل عِنْدَ الشِّرَاءِ إِِنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلْمُضَارَبَةِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا قَال: اشْتَرَيْتُهَا وَأَنَا أَنْوِي أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَال فَقَال: اشْتَرَيْتَهَا لِنَفْسِكَ، هَل يُصَدَّقُ الْمُضَارِبُ فِيمَا قَال؟ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِِمَّا أَنْ يَكُونَ مَال الْمُضَارَبَةِ وَالدَّابَّةِ قَائِمَيْنِ وَقْتَ إِِقْرَارِ الْمُضَارِبِ، أَوْ كَانَا هَالِكَيْنِ، أَوْ كَانَتِ الدَّابَّةُ قَائِمَةً وَمَال الْمُضَارَبَةِ هَالِكًا، أَوْ كَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ قَائِمًا وَالدَّابَّةُ هَالِكَةً. فَفِي الْوَجْهِ الأَْوَّل: الْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِِِنْ هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ قَبْل التَّسْلِيمِ إِِلَى الْبَائِعِ فَإِِِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَال بِثَمَنِهِ وَيُسَلِّمُهُ إِِلَى الْبَائِعِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي:. لَا يُصَدَّقُ
(1) المهذب 1 / 389، وروضة الطالبين 5 / 146، ومغني المحتاج 2 / 321، وكشاف القناع 3 / 523، والمغني 5 / 76.
الْمُضَارِبُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ لِلْبَائِعِ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَلَا يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَال بِشَيْءِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَفِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: ذَكَرَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يُصَدَّقُ عَلَى رَبِّ الْمَال فِي حَقِّ تَسْلِيمِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِلَى الْبَائِعِ، وَإِِِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى رَبِّ الْمَال بِأَلْفٍ آخَرَ فَإِِِنَّهُ لَا يَكُونُ مُصَدَّقًا.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الدَّابَّةَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهَا مِنْ مَال نَفْسِهِ، وَقَال اشْتَرَيْتُهَا لِنَفْسِي، وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَال فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ أَلْفَ الْمُضَارَبَةِ قِصَاصًا بِمَا أَدَّاهُ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الدَّابَّةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يُسَمِّ مُضَارَبَةً وَلَا غَيْرَهَا، ثُمَّ قَال اشْتَرَيْتُهَا لِنَفْسِي فَالْقَوْل قَوْلُهُ.
وَإِِِنِ اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْ لِلْمُضَارِبِ نِيَّةٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ إِِنْ نَقَدَ مِنْ مَال الْمُضَارِبِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ نَقَدَ مِنْ مَالِهِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الشِّرَاءُ وَاقِعًا لِلْمُضَارِبِ نَقَدَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَال الْمُضَارِبِ، كَمَا فِي الْوَكِيل الْخَاصِّ (1) .
(1) الفتاوى الهندية 4 / 322 - 323، وانظر روضة القضاة للسمناني 5 / 595 - 596.