الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعِنَادِ، وَيُبَالِغُ فِي الْكَشْفِ بِالأَْسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِِلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَيَصُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا اتَّسَعَ فِي الْحُكْمِ (1) ".
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَرُبَّمَا تَلَطَّفَ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي إِِيصَال الْمُتَظَلِّمِ إِِلَى حَقِّهِ، بِمَا يَحْفَظُ مَعَهُ حِشْمَةَ الْمُتَظَلِّمِ مِنْهُ، أَوْ مُوَاضَعَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا يَحْفَظُ بِهِ حِشْمَةَ نَفْسِهِ "(2) .
فَإِِِذَا كَانَ الظُّلْمُ وَاضِحًا اكْتَفَى قَاضِي الْمَظَالِمِ بِالْبَيِّنَةِ الْيَسِيرَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِِلَى الْقَنَاعَةِ الْوِجْدَانِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرُدُّ الْمَظَالِمَ إِِلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ الْبَيِّنَةِ الْقَاطِعَةِ، وَكَانَ يَكْتَفِي بِالْيَسِيرِ إِِذَا عَرَفَ وَجْهَ مَظْلَمَةِ الرَّجُل رَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ تَحْقِيقَ الْبَيِّنَةِ، كَمَا يُعْرَفُ مِنْ غَشْمِ (ظُلْمِ) الْوُلَاةِ قَبْلَهُ عَلَى النَّاسِ، وَلَقَدْ أَنْفَذَ بَيْتَ مَال الْعِرَاقِ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ حَتَّى حُمِل إِِلَيْهَا مِنَ الشَّامِ (3) .
وَفِي ذَلِكَ إِِطْلَاقٌ لِيَدِ صَاحِبِ الْمَظَالِمِ وَتَوْسِعَةٌ عَلَيْهِ، لِمُوَاجَهَةِ حَالَاتِ الضَّرُورَاتِ وَالنَّوَازِل وَالْحَوَادِثِ، وَهُوَ مَا قَصَدَهُ الْخَلِيفَةُ
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 91، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 86، وتاريخ قضاة الأندلس للنباهي المالقي ص 17، 18.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردي ص 90، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 85.
(3)
سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم ص 325.
الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ: " تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ " وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الْقَاضِي بِالاِجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي.
فَالْقَضَاءُ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَادِلَةِ الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ، وَتَرْفَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَظَالِمِ، وَتَرْدَعُ أَهْل الْفَسَادِ، هِيَ جُزْءٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لَهَا (1) .
ثَامِنًا: التَّنْفِيذُ
21 -
وَهُوَ تَنْفِيذُ الأَْحْكَامِ وَهُوَ الْهَدَفُ الأَْخِيرُ مِنْ وُجُودِ الْقَضَاءِ وَالْمَحَاكِمِ، وَلَا سِيَّمَا فِي قَضَاءِ الْمَظَالِمِ، إِِذَا عَجَزَ الْقُضَاةُ عَنْ تَنْفِيذِ أَحْكَامِهَا عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لِتَعَزُّزِهِ وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ أَقْوَى يَدًا، وَأَنْفَذَ أَمْرًا، فَيُنَفَّذُ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ يُوَجَّهُ إِِلَيْهِ، بِانْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِِِلْزَامِهِ الْخُرُوجَ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ (2) .
تَوْقِيعَاتُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
22 -
التَّوْقِيعُ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الاِدِّعَاءَ مِنْ شَخْصٍ، وَالْجَوَابَ مِنْ آخَرَ،
(1) إعلام الموقعين 4 / 462، والطرق الحكمية لابن القيم ص 4، تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 132، 141.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردي ص 83.
وَالْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ (1)، وَالْمَقْصُودُ بِالتَّوْقِيعَاتِ هُنَا: هِيَ الْكُتُبُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيُرْسِلُهَا إِِلَى غَيْرِهِ بِإِِِحَالَةِ مَوْضُوعِ الْمُنَازَعَةِ إِِلَى شَخْصٍ أَوْ لَجْنَةٍ، لِيُطْلِعَهُمْ عَلَى مَا جَرَى عِنْدَهُ مِنْ تَظَلُّمٍ وَأَحْكَامٍ وَقِصَصِ الْمُتَظَلِّمِينَ إِِلَيْهِ، بِقَصْدِ تَحْضِيرِ الدَّعْوَى، أَوِ التَّحْقِيقِ فِيهَا، أَوِ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ، وَالْفَصْل فِيهَا.
23 -
وَقَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ (2)، تَوْقِيعَاتِ قَاضِي الْمَظَالِمِ إِِلَى قِسْمَيْنِ حَسَبَ حَال الْمُوَقَّعِ إِِلَيْهِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ مُخْتَصًّا أَصْلاً بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، كَالتَّوْقِيعِ إِِلَى الْقَاضِي الْمُكَلَّفِ بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إِِلَى نَوْعَيْنِ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ إِِذْنًا لِلْقَاضِي لِلْفَصْل فِي الدَّعْوَى وَالْحُكْمِ فِيهَا، وَهُنَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِأَصْل الْوِلَايَةِ، وَيَكُونُ التَّوْقِيعُ تَأْكِيدًا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ قُصُورُ مَعَانِيهِ.
ب - أَنْ يَقْتَصِرَ التَّوْقِيعُ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْوَسَاطَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ لإِِِِنْهَاءِ النِّزَاعِ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ،
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 689، ونقل التهانوي أن الشخص إذا ادعى على آخر فالمكتوب هو المحضر، وإذا أجاب الآخر وأقام البينة فالتوقيع، وإذا حكم فالسجل، وانظر: التعريفات للجرجاني ص 109.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردي ص 93، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 87.
فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ فِي الْقَضِيَّةِ وَإِِِنْ لَمْ يَنْهَهُ الْكَاتِبُ فِي التَّوْقِيعِ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ نَظَرُ الْقَاضِي عَلَى عُمُومِهِ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ يَكُونُ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ الْحُكْمِ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ الْحُكْمِ وَمَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ مِنَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ، لأَِنَّ فَحْوَى التَّوْقِيعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.
وَإِِِذَا كَانَ التَّوْقِيعُ بِمُجَرَّدِ الْوَسَاطَةِ فَلَا يُلْزَمُ الْقَاضِي الْمُحَال إِِلَيْهِ بِإِِِنْهَاءِ الْحَال، وَإِِِخْطَارِهِ إِِلَى قَاضِي الْمَظَالِمِ بَعْدَ الْوَسَاطَةِ، وَإِِِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِكَشْفِ الصُّورَةِ، أَوْ بِالتَّحْقِيقِ وَإِِِبْدَاءِ الرَّأْيِ لَزِمَهُ إِِنْهَاءُ حَالِهِمَا إِِلَيْهِ، لأَِنَّهُ اسْتِخْبَارٌ مِنْهُ فَلَزِمَ إِِجَابَتُهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ، كَتَوْقِيعِهِ إِِلَى فَقِيهٍ أَوْ شَاهِدٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَهُ ثَلَاثُ صُوَرٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ لِلتَّحْقِيقِ وَكَشْفِ الصُّورَةِ وَإِِِبْدَاءِ الرَّأْيِ، فَعَلَى الْمُوَقَّعِ إِِلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَهَا، وَيُنْهِيَ مِنْهَا لِقَاضِي الْمَظَالِمِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، وَيَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ الْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَإِِِلَاّ كَانَ مُجَرَّدَ خَبَرٍ لَا يَجُوزُ لِلْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ مِنَ الأَْمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا حَال
أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي الإِِِْرْهَابِ، وَفَضْل الْكَشَفِ.
ب - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ بِالْوَسَاطَةِ، فَيَتَوَسَّطُ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ بَيْنَهُمَا، فَإِِِنْ أَفْضَتِ الْوَسَاطَةُ إِِلَى صُلْحِ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِِنْهَاؤُهَا إِِلَى وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيُعْتَبَرُ شَاهِدًا فِيهَا، إِِذَا اسْتُدْعِيَ لِلشَّهَادَةِ بِشَأْنِهَا مُسْتَقْبَلاً، وَإِِِنْ لَمْ تُفْضِ الْوَسَاطَةُ إِِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كَانَ الْوَسِيطُ شَاهِدًا فِيمَا اعْتَرَفَا بِهِ عِنْدَهُ يُؤَدِّيهِ إِِلَى النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ إِِنْ عَادَ الْخَصْمَانِ إِِلَى التَّظَلُّمِ وَطَلَبِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا إِِنْ لَمْ يَعُودَا.
ج - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ لِلشَّخْصِ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، فَهَذَا يَعْنِي إِِسْنَادَ وِلَايَةٍ لَهُ، وَيَتَعَيَّنُ مُرَاعَاةُ فَحْوَى قَرَارِ الإِِِْحَالَةِ لأَِعْمَال الْقَضَاءِ، لِيَكُونَ نَظَرُهُ مَحْمُولاً عَلَى مُوجِبِهِ.
24 -
كَمَا قَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ تَوْقِيعَاتِ قَاضِي الْمَظَالِمِ حَسْبَ مَضْمُونِ الْكِتَابِ إِِلَى قِسْمَيْنِ (1)، وَهُمَا:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ الإِِِْحَالَةِ مُتَضَمِّنَةً إِِجَابَةَ الْخَصْمِ إِِلَى مُلْتَمَسِهِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حِينَئِذٍ مَا سَأَل الْخَصْمُ فِي ظُلَامَتِهِ، وَيَصِيرُ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، فَإِِِنْ سَأَل
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 94، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 88.
الْوَسَاطَةَ أَوِ الْكَشْفَ لِلصُّورَةِ، أَيِ التَّحْقِيقَ فِيهَا، كَانَتِ الإِِِْحَالَةُ مُوجِبَةً لَهُ، وَكَانَ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ خَرَجَ التَّوْقِيعُ مَخْرَجَ الأَْمْرِ، كَقَوْلِهِ: أَجِبْهُ إِِلَى مُلْتَمَسِهِ، أَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ، كَقَوْلِهِ: رَأْيُكَ فِي إِِجَابَةِ مُلْتَمَسِهِ، كَانَ مُوقِعًا، لأَِنَّهُ لَا يَقْتَضِي وِلَايَةً يَلْزَمُ حُكْمُهَا، فَكَانَ أَمْرُهَا أَخَفَّ، وَإِِِنْ سَأَل الْمُتَظَلِّمُ الْحُكْمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ مُسَمًّى، وَالْخُصُومَةُ مَذْكُورَةٌ، لِتَصِحَّ وِلَايَةُ الْفَصْل فِي النِّزَاعِ عَلَيْهِمَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الإِِِْحَالَةُ أَوِ التَّفْوِيضُ مُتَضَمِّنًا إِِجَابَةَ الْخَصْمِ إِِلَى مَا سَأَل، عَلَى أَنْ يَسْتَأْنِفَ فِيهِ الأَْمْرَ، وَتَتَحَدَّدُ الْوِلَايَةُ بِمَضْمُونِ قَرَارِ الإِِِْحَالَةِ، وَلَهَا ثَلَاثُ صُوَرٍ:
أ - أَنْ تَكُونَ الإِِِْحَالَةُ كَامِلَةً فِي صِحَّةِ الْوِلَايَةِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الأَْمْرَ بِالنَّظَرِ، وَالأَْمْرَ بِالْحُكْمِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ الَّذِي يُوجِبُهُ الشَّرْعُ، وَهَذَا هُوَ التَّوْقِيعُ الْكَامِل.
ب - أَنْ لَا يَكُونَ قَرَارُ الإِِِْحَالَةِ كَامِلاً، بَل تَضَمَّنَ الأَْمْرَ بِالْحُكْمِ دُونَ النَّظَرِ، فَيَذْكُرُ فِي تَوْقِيعِهِ مَثَلاً: احْكُمْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، أَوْ يَقُول: اقْضِ بَيْنَهُمَا، فَتَصِحُّ الْوِلَايَةُ بِذَلِكَ، لأَِنَّ الْحُكْمَ