الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس السادس والخمسون بعد المائة
[سورة الكهف]
مكية، وهي مائة وإحدى عشر آية
…
روى مسلم وغيره عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» . وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين» . رواه الحاكم وصححه.
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا
كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذَلِكَ
أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ
عَلَيْهِم مَّسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) } .
* * *
عن ابن عباس: قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً} ، يقول: أنزل الكتاب عدلاً قيماً، {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} . وقال قتادة: معناه:
…
{أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} ولكن جعله {قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً} . قال بن إسحاق: عاجل عقوبة في الدنيا، وعذابًا في الآخرة {مِن لَّدُنْهُ} . أي: من عند ربك الذي بعثك رسولاً.
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي: في دار خلد لا يموتون فيه، الذين صدقوك بما جئت به عن الله وعملوا بما أمرتهم، {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} ، يعني: قريشاً في قولهم: إنما نعبد الملائكة وهن بنات الله. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} قولهم: إن الملائكة بنات الله {إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} .
وعن قتادة: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} قاتلُ نفسك، {عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} ، قال: حزناً عليهم. قال ابن إسحاق: يعاتبه على حزنه عليهم، حين فاته ما كان يرجو منهم، أي: لا تفعل.
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} اختبارًا لهم، أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» .
وعن ابن إسحاق: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} ، يعني: الأرض إن ما عليها لفان وبائد، وإن المرجع إليّ، فلا تأس ولا يحزنك ما ستسمع وترى فيها.
قال ابن كثير: وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة، فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيط، إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بِهِنّ: فهو نبي مرسل، وإلا: فهو رجل مُتَقَول
قروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف بلغ في مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبَأه؟ وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر، وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا: فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أخبركم غدًا عما سألتم عنه» . ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث
رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يُحدث الله في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمسَ عشرةَ قد أصبحنا فيها، لا يُخبرنا بشيء مما سألناه عنه. وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكثُ الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخَبَر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} .
قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا
…
مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) } .
عن مجاهد: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} ، يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. وقال ابن عباس: الرقيم وادٍ دون فلسطين وهو قريب من أيلة. وعن سعيد بن جبير قال: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف.
وعن قتادة قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا
…
أَمَداً} ، يقول: ما كان لواحد من الفريقين علم، لا لكفارهم، ولا لمؤمنيهم. وعن مجاهد:{أَمَداً} ، قال: عددًا.
قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك.
قوله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14)
هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16) } .
قال ابن إسحاق: مرج أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا، وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام، وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسّكين بعبادة الله وتوحيده، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقينوس، وكان قد عبد الأصنام، وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه في ذلك.
وقال مجاهد: كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم وأهل سوقهم، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أسنّهم: إني لأجد في نفسي شيئًا ما أظن أن أحدًا يجده، قالوا: ماذا تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض، وقالوا: نحن نجد، فقاموا جميعًا:{فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس، فلبثوا في الكهف {ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} رقداء.
وعن قتادة: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} . يقول: بالإيمان، {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً
شَطَطاً} يقول: كذبًا. وقال ابن زيد: الشطط الخطأ من القول. وقال ابن كثير: {شَطَطاً} ، أي: باطلاً، وكذبًا، وبهتانًا.
وقوله تعالى: {ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} ، قال البغوي:
…
{ويُهَيِّئْ لَكُم} : يسهّل لكم، {مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} ، أي: ما يعود إليه يُسْرُكم ورفقكم.
عن ابن عباس: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} ، يقول: تميل عن كهفهم يمينًا وشمالاً، وقال: لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا ينقلبون لأكلتهم الأرض. وعن سعيد بن جبير قال:{وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ} تتركهم {ذَاتَ الشِّمَالِ} .
وعن قتادة: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} . يقول: في فضاء من الكهف. {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} ، قال ابن قتيبة: كان كهفهم مستقبل بنات
نعش. وقال ابن كثير: {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} ، أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه.
وقوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} . قيل: إن أعينهم كانت مفتحة، {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} ، قال ابن عباس يقول: بالفناء. وقال ابن جريج: يحرس عليهم الباب، {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} ، أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة فلا يقدر أحد أن يدنو منهم.
قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ
كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً (21) } .
عن عكرمة قال: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتعوذوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على سمعهم فلبثوا دهرًا طويلاً، حتى هلكت أمتهم وجاءت أمة
مسلمة وكان ملكهم مسلمًا فاختلفوا في الروح، والجسد. فقال قائل: يبعث الروح والجسد جميعًا، وقال قائل: يبعث الروح فأما الجسد فتأكله الأرض فلا يكون شيئًا، فشقّ على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد، ثم دعا الله تعالى: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعامًا، فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرًا، فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلاً يشتري منه طعامًا، فلما نظر الرجل إلى الوَرِقِ أنكرها فقال له الفتى: أليس ملككم فلان قال: بل ملكنا فلان، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك، فسأله فأخبره الفتى خبر أصحابه، فبعث الملك في الناس فجمعهم فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان - يعني ملكهم الذي مضى - فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي، فركب الملك وركب معه الناس حتى انتهوا إلى كهف، فقال الفتى: دعوني أدخل إلى
أصحابي، فلما أبصرهم ضرب على أذنه وعلى آذانهم، فلما استبطئوه دخل الملك ودخل الناس معه، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئًا غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.
وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} . قال ابن كثير: حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: إنهم المسلمون منهم. والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم. والظاهر أن الذين
قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود، والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» . يحذر ما فعلوا. انتهى.
عن قتادة: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} ، يقول: قليل من الناس. وعن ابن عباس: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} ، قال: أنا من القليل، كانوا سبعة. {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء
ظَاهِراً} ، يقول: إلَاّ بما قد أظهرنا لك من أمرهم. وقال قتادة، أي: حسبك ما قصصنا عليك من شأنهم وعن ابن عباس: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً} ، قال: هم أهل الكتاب. وعن أبي العالية في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ثم ذكرت فاستثن.
وقوله تعالى: {وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} ، قال ابن كثير: أي: إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك. وعن مجاهد:{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} ، قال: عدد ما لبثوا. وعن قتادة: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} ، فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع تبارك وتعالى.
* * *