الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثاني والستون بعد المائة
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى
أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) } .
* * *
عن قتادة في قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ} ، أي: انفردت، {مِنْ أَهْلِهَا} ، قال السدي: خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها، وهو قوله:{إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} في شرقي المحراب، {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} ، قال وهب بن منبه: أرسل الله جبريل إلى مريم، وقال السدي: فلما طهرت من حيضها إذا هي برجل معها قالت: {إِنِّي أَعُوذُ} بالله، {مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} ، قال ابن زيد: قد عَلِمَتْ أن التُّقَى ذو نهية،
…
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} ، قال جبريل:{كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} وإن لم يكن لك بعل ولا يوجد منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر، ولهذا قال:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} ، أي: علامة على قدرة الله، {وَرَحْمَةً مِّنَّا} للمؤمنين، {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} لا يردّ ولا يبدل. وقد
قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} . قال وهب بن منبه: لما أرسل الله جبريل إلى مريم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت.
عن ابن عباس: {فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} ، قال: مكانًا نائيًا. وعن قتادة: {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} ، قال: اضطرّها إلى جذع النخلة. وقال السدي: {قَالَتْ} وهي تطلق استحياء من الناس: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} ، قال قتادة تقول: لا أعرف ولا يدري من أنا. وقال ابن زيد: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} ، قال: عيسى ناداها: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ، قال البراء بن عازب: هو: الجدول. وقال ابن عباس: وهو: نهر عيسى. وقال سعيد بن جبير: هو: الجدول. النهر الصغير، وهو بالنبطية سري. وعن ابن عباس:
…
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} ، قال: كان جذعًا يابسًا، فقال: هُزّيه
{تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} ، قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر، والرطب.
وقوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} ، قال الضحاك: كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام، إلَاّ من ذِكْرِ الله.
قوله عز وجل: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ
يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ
…
لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) } .
عن قتادة: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} ، قال: عظيمًا، {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} ، قال: كانت من
أهل بيت يُعرفون بالصلاح ولا يُعرفون بالفساد، قال: وكان من بني إسرائيل رجل صالح يسمى هارون، فشبّهوها به، يعني: في الصلاح. وعن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران فقالوا لي: ألستم تقرءون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} ؟ قلت: بلى، وقد علمتم ما كان بين عيسى، وموسى، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:«ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» . رواه مسلم وغيره.
وعن وهب بن منبه: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} ، يقول: أشارت إليه أن كلّموه، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} ، فأجابهم عيسى عنها فقال لهم:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} الآية. وقال عكرمة: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} قضى أن يؤتيني الكتاب. وعن مجاهد: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} ، قال: مقامًا. وقال سفيان: معلمًا للغير. وقال قتادة: ذكر لنا أنه كان يقول: سلوني فإن قلبي لين، وإني صغير في نفسي، مما أعطاه الله من التواضع. وقال بعض السلف: لا تجد عاقّاً إلَاّ وجدته جبارًا شقيًا، ولا تجد سيّئ الملكة إلا وجدته مختالاً فخورًا.
وعن قتادة قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} امترت اليهود والنصارى، فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذاب، وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله، وثالث وثلاثة، وإله، وكذبوا كلهم، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته وروحه.
قال قتادة: ذكر لنا أنه لما رفع ابن مريم انتخبت بنو إسرائيل أربعة من فقهائهم فقالوا للأول: ما تقول في عيسى؟ قال: هو الله هبط إلى الأرض فخلق ما خلق وأحيا ما أحيا، ثم صعد إلى السماء، فتابعه على ذلك ناس من الناس فكانت اليعقوبية من النصارى. وقال الثلاثة الآخرون: نشهد أنك كاذب؛ فقالوا للثاني: ما تقول في عيسى؟ قال: هو ابن الله، فتابعه على ذلك ناس من الناس فكانت النسطورية من النصارى. وقال الاثنان الآخران: نشهد إنك كاذب؛ فقالوا للثالث: ما تقول في عيسى؟ قال: هو إله، وأمه إله، والله إله، فتابعه على ذلك ناس من الناس فكانت الإسرائيلية من النصارى. فقال الرابع: أشهد أنك كاذب، ولكنه عبد الله ورسوله، هو كلمة الله وروحه، فاختتم القوم فقال المرء المسلم: أنشدكم الله ما تعلمون أن عيسى كان يَطْعَمُ الطعام، وأن الله تبارك وتعالى يُطْعِمُ الطعام؟ قالوا: اللهم نعم، قال: ما تعلمون أن عيسى كان ينام؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فخصمهم المسلم.
وقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ، أي: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة. قال قتادة: سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر وقال ابن زيد: هذا في القيامة، فأما في الدنيا فلا كانت على أبصارهم غشاوة وفي آذانهم وقرًا.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل
الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤتى به فيُذبح، قال ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وأشار بيده ثم قال: «أهل الدنيا في غفلة الدنيا» رواه أحمد وغيره.
وكتب عمر بن عبد العزيز لبعض عماله: (أما بعد فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت فجعل مصيرهم إليه، وقال فيما أنزل في كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه، أنه يرث الأرض ومن عليها وإليه ترجعون) .
* * *